أصدر محمود عباس مرسوما بإجراء الانتخابات التشريعية (أيار) والرئاسية (نهاية تموز)، و"استكمال المجلس الوطني)، في نهاية آب.
حدث ذلك بعد أن وافقت "حماس" على إجرائها دون اشتراط التزامن مع الانتخابات الخاصة بإعادة تشكيل منظمة التحرير؛ والقبول بالتتابع، بعد الحصول على ضمانات دولية وإقليمية، وهي عبارة تثير السخرية، لأن التنصل من ذلك عبر القول إنها "غير ممكنة" لن يكون صعبا، بدليل ما ورد في المرسوم بعبارة "حيثما أمكن"، فضلا عن الإشارة للنظام الأساس لمنظمة التحرير.
هذا هو الجزء الأول، فالتعويل على جانب إيجابي في القصة يتمثل في انتخابات تالية حقيقية في الداخل والخارج لإعادة تشكيل منظمة التحرير كمرجعية للشعب الفلسطيني، يبدو إغراقا في التفاؤل، وسيجد القوم قائمة من الأعذار للتنصل من ذلك، وجعل انتخابات الداخلي هي وحدها الممثل، لا سيما أن "فتح" تدرك أن حضور "حماس" في الشتات هو الأكبر، وستحصل "حماس" مع "الجهاد" على غالبية مقاعد المجلس الوطني دون شك.
أما عباس، فلا يريد من القصة سوى استعادة شرعيته المشكوك فيها، ليس في مواجهة "حماس" وحسب، بل في مواجهة "دحلان" أيضا، والذي يستحوذ على جزء لا بأس به من "فتح" (إمكانية المصالحة بينهما واردة لتجاوز المعضلة)، بخاصة في قطاع غزة. ومن هنا قام بتغيير قانون الانتخاب، ليعتمد القائمة النسبية التي كان تفوق حماس فيها محدودا، على أمل التحالف مع فصائل أخرى، والحصول على غالبية يستعيد من خلالها شرعيته، لا سيما أن السيف مسلّط على رقاب الشعب، ويقول له: "إذا انتخبت حماس، فالحصار من جديد"، ما ينفي عن الانتخابات مقولة الحرية والديمقراطية الحقيقية.
الحجة التي يقدمها مؤيدو برنامج الانتخابات هي "الانقسام"، والبحث عن الوحدة، ومن السهل بعد ذلك اتهام رافضيها بتكريس الانقسام وخدمة الاحتلال.
هنا يجدر التذكير بأننا عارضنا مشاركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، ونذكّر أيضا بموقفنا ضد الحسم العسكري في قطاع غزة رغم مشروعيته من الناحية السياسية في ظل مؤامرة (دايتون- دحلان)، بجانب مشروعيته من الناحية الأخلاقية في ظل عمليات القتل اليومي التي اجتاحت القطاع خلال الشهور التي سبقته (أعني الحسم).
نذكَّر بذلك لأنه ينسجم مع رؤيتنا في استحالة الجمع بين السلطة والمقاومة (وجود ذلك في غزة سببه عدم وجود الاحتلال المباشر، مع التذكير بأنها مقاومة لرد عدوان، وليست لفتح معركة تحرير)، تماما كما ينبغي علينا أن نذكّر برفضنا لبرنامج "أوسلو" ومشروع السلطة الذي أراح الصهاينة من عبء الاحتلال السياسي والاقتصادي والأمني في آن، وكان الصهاينة يسمُّون سيناريو حلها بـ"السيناريو الكابوس"، فيما وصفها أحد الكتاب الصهاينة بأنها "الاختراع العبقري المسمى سلطة فلسطينية".
قبل سؤال عملية الانتخابات وما سيترتب عليها، هناك سؤال يتعلق بإجرائها في القدس الشرقية.
ألم يقولوا مرارا بأنه لا انتخابات بدون القدس. ماذا لو رفض الاحتلال إجراءها في المدينة؟ ثم ماذا لو وافق؟ ألا يدلُّ ذلك على أنها تصبّ في مصلحته؟! ولا تحدثونا هنا عن الضغط الدولي كسبب للقبول، لأنه محض نكتة سخيفة وبلا معنى.
حين نأتي إلى الانتخابات، فإن ما ينبغي أن يقال هو أن الحديث عنها كمحطة للمصالحة هو كلام عبثي، لأن الانتخابات في أجواء الاستقطاب لا تنتج غير مزيد من الانقسام، ودعك من حقيقة أن الديمقراطية تحت الاحتلال هي في جوهرها ضرب من العبث، ولو خدمت مسار التحرير، لما سمح بها الغزاة أصلا.
لقد كانت الانتخابات في المرة الماضية (2006)، محطة باتجاه تكريس سلطة في خدمة الاحتلال (تجديدها بتعبير أدق)، وهي سلطة تقدم للغزاة أفضل احتلال في التاريخ، بينما هو يواصل الاستيطان والتهويد، وحتى القتل والاعتقالات ما دام يلزمه ذلك.
ولك أن تتذكرّ تلك المفارقة المحزنة، فقد ذهب القوم إلى "أوسلو" بدعوى إنقاذ ما تبقى من الأرض التي يلتهمها الاستيطان، فإذ بالاستيطان يتصاعد على نحو جنوني بعد ذلك، وحين لجمته انتفاضة الأقصى لبعض الوقت، كان محمود عباس يراها عبثا، ويتحدى الشعب برمته، ويتآمر على عرفات، وصولا إلى وراثته وإعادة "أوسلو" إلى مساره العبثي الذي يمضي حثيثا منذ 2004، ولغاية الآن، فيما تحوّل الذين كانوا يهجونه من "فتح" بوصفه "كرزاي فلسطين"، إلى مطبّلين له بعد ذلك!!
لنأت إلى النتائج.
هل يتذكّر البعض كيف رفض عباس وزمرته الاعتراف بنتائج انتخابات 2006، وكيف سلّموا "حماس" حكومة بلا صلاحيات، وقالوا إن أعضاء التشريعي هم أعضاء في المجلس الوطني، كي تبقى الغالبية لفتح؟!
دعك هنا من مسخرة مجلس تشريعي يمكن للاحتلال أن يعتقل كل أعضائه خلال ساعات إذا أصبح مزعجا، وقد حدث أن اعتقل معظم أعضاء حماس في التشريعي مرارا، وبالطبع لأنهم يؤيدون خيار المقاومة.
ماذا سيحدث الآن؟
هل سيتغير السيناريو لو فازت "حماس"؟
كلا بالطبع، وإن عوّل عباس على تحالف يمنحه الغالبية، مع أن أسئلة ذلك معقدة بوجود دحلان وتياره الذي يملك الحصة الأكبر من "فتح" في قطاع غزة، مع قليل في الضفة، وهو ما دفعنا للقول إن المصالحة بينهما واردة.
ماذا لو حصلت "فتح" على الغالبية (مجتمعة مع دحلان أو بدونه)؟ ما هو مصير قاعدة المقاومة التي تمّ بناؤها في قطاع غزة؟ ألن يستعيد عباس مقولة السلطة الواحدة والسلاح الشرعي الواحد، متسلحا بنتائج الانتخابات؟ ألن يعني ذلك أننا سنكرّس تيه القضية بعيدا عن خيارات الشعوب الحرة في مواجهة الاحتلال؛ وهذه المرة بدعاوى ديمقراطية يوجّه بوصلتها تهديد المحتل بالحصار من جديد إذا تم انتخاب حماس؟
هل فكّر من قبلوا من "حماس" بالانتخابات بذلك كله؟
سيسأل البعض: ولكن ما هو الحل برأيك؟
الحل واضح كل الوضوح. إنه يتمثل في وحدة ميدانية على خيار مواجهة الاحتلال، أو "الانتفاضة الشاملة".
وإذا كانت قيادة السلطة تدّعي أنها مع المقاومة الشعبية، فلماذا لا يتوحد الجميع خلف هذا الخيار، وينحصر الحديث عن الانتخابات في تلك المتعلقة بمنظمة التحرير كمرجعية للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبيدها القرار السياسي، بينما يجري التوافق على إدارة مدنية للضفة والقطاع لا صلة لها بالسياسة؟
وحين نتحدث عن المقاومة الشعبية، فنحن نتحدث عن مقاومة حقيقية تشتبك مع الحواجز والمستوطنين الذي يعيثون في الأرض فسادا، وتقدم نموذجا نضاليا يستقطب العالم العربي وشعوبه الحرة، ويُتوقع أن تحظى بتعاطف الرأي العام العالمي.
وحدها انتخابات المجلس الوطني في الداخل والخارج (نكرر في الداخل والخارج لأن ثلثي الشعب الفلسطيني يعيشون في الخارج) لإعادة تشكيل منظمة التحرير، وتوحيد الجميع تحت لوائها هي المنطقية، أما التعامل مع السلطة بوصفها دولة برئاسة ومجلس تشريعي، فهو تشويه لحقيقة الصراع مع العدو، ووضع للعربة أمام الحصان (دولة قبل التحرير)، وخضوع لشروط سلطة صممت لخدمة الاحتلال.
سيقول البعض من حركة "حماس" إن ذلك غير ممكن بدون موافقة "فتح"، وهي لا توافق.
هذا الكلام يُرَدّ عليه بأمرين. الأول هو مساءلة من أمسك بإدارة شؤون "حماس" في الضفة الغربية منذ أكثر من عقد، ونتيجة أدائه الكارثي، والذي يتواصل مع الأسف، وهو ذاته من دفع نحو الموافقة على الانتخابات.
أما الثاني فهو المسؤولية الجماعية للحركة، ولـ"الجهاد" وللجبهة الشعبية ومن يقبل بخيارها، والتي كان ينبغي عليها أن تبادر إلى طرح مشروع جديد للساحة الفلسطينية يتلخص في إدارة (توافقية) غير سياسية للقطاع والضفة، وإطلاق مقاومة شاملة في كل الأرض الفلسطينية عنوانها طرد الاحتلال من دون قيد أو شرط من أراضي 67، كمقدمة لتحرير شامل، وتبعا لذلك العمل على إنشاء مرجعية بديلة لمنظمة التحرير تقبل بهذا المسار، بالفصائل إياها ومن يقبل من "فتح" والمستقلين، ويتم تكريسها بمرور الوقت عبر الوقائع على الأرض، لا سيما أن المنظمة لم تعد في عهد عباس سوى هيكلية فارغة ملحقة بسلطة خادمة للاحتلال.
ولمن سيردّ بأن هذا الكلام قد مضى أوانه بموافقة حماس على الانتخابات؛ سنذكّره بأننا نردده منذ سنوات طويلة، حين تبدى العبث في مسار عباس، ونتائجه الكارثية.
بقي القول إننا نتحدث من حيث المبدأ، سواءً أجريت الانتخابات أم تعطّلت لسبب أو لآخر، وهذه السطور تبدو عابرة للحدث، وتذكيرا بواقع الحال الفلسطيني في هذه المرحلة الخطيرة، وتهرّب عباس من استحقاق المقاومة، لا سيما بعد موجة التطبيع الأخيرة، والتي تهدد بحلول مؤقتة تتحوّل إلى دائمة بحكم الأمر الواقع، وهو المسار الذي يسانده نهج عباس على الأرض؛ وإن رفضه بالكلام.