تكلمت في مقالي السابق عن الشهيد الدكتور عصام العريان الذي جرى ظلمه من الجميع للأسف، وفصلت في مقالي السابق عن ظلم التيار المدني للعريان، وليس الهدف من الحديث عن المظالم التي تعرض لها بهدف نكء الجراح، أو تقليب المواجع كما يقال، بل للوقوف على كيف كان هذا الرجل يصبر هذا الكم الكبير من الصبر، والثبات على موقفه، كما أنه يعيننا على فهم لماذا تحول الرجل فجأة قبل الانقلاب بشهور قليلة، إلى عصبي، وإلى عكس ما كان عليه.
لم ينل مكانته تنظيميا
كنا نشعر أن العريان لا ينال مكانته المستحقة داخل تنظيم الإخوان المسلمين، وإن نالها داخل الجماعة حيث حب أفرادها له، وثقتهم في حديثه، وقناعتهم بكثير من أفكاره، لكن كان للتنظيم رأي آخر، وهناك فرق لا شك بين الجماعة من حيث جموع أفرادها، وبين التنظيم، والمقصود به هنا الدائرة الصغيرة جدا المتنفذة فيه، والمقررة في شأنه.
ولكن اتضحت هذه الصورة من الموقف الشديد ضد العريان عندما توفي الأستاذ محمد هلال رحمه الله، وكان عضوا بمكتب الإرشاد، واقترح الأستاذ محمد مهدي عاكف تصعيد العريان، ولكن ترشيحه لم يرق للمجموعة المتنفذة في مكتب الإرشاد والتنظيم، لأنهم حسبوا أن وجود العريان سيكون سندا وعونا للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الرجل المزعج للتنظيم، بكثرة انتقاداته، وبآرائه المعلنة التي لا تروق لأصحاب الآراء المخالفة، فهو يميل للانفتاح ومعظمهم يميل للعكس.
وقد أخطأوا التقدير في هذه المسألة، فعصام العريان كان في أفكاره يقترب كثيرا من أبي الفتوح، لكنه يختلف معه في طريقة معالجة الأفكار داخل الجماعة. وعندما رفضت هذه المجموعة التي كان عدد كبير منها قد دخل الإخوان بعد العريان بسنوات، ولم يكن طرحهم وعطاؤهم كالعريان، فإنهم صاروا أعضاء مكتب إرشاد والعريان لم يصبح عضوا، بل يقومون هم أنفسهم بالرفض، ووقتها كانت الإجابة الدائمة عن سبق العريان في التاريخ الدعوي، وسبق غيره في الموقع التنظيمي بمقولة: ليس الطريق لمن سبق، بل لمن صدق. والمقصود بالصدق هنا ليس بمعناه التزكوي والديني، بل الصدق بمعناه التنظيمي!
هاجت الدنيا على رفض قرار تصعيد العريان، واعتزل المرشد وقتها، وأصيب بخيبة أمل، فقد كان يرى أنه في مقام الأب، بحكم الموقع، وبحكم أدبيات الجماعة، فعندما يطلب طلبا مشروعا، ينطبق على العريان، فلا يواجه بهذا الرفض، وبهذا الشكل، وقد كان وقتها عاكف قد وصل لمرحلة الصدام، ولذا قرر عدم التجديد، أو الترشح لدورة ثانية.
ووقتها صرح الشيخ القرضاوي تصريحا كنت حاضرا وقت التصريح، فقد قال لصحفي من موقع إسلام أون لاين على الهاتف: إن جماعة ترفض صعود العريان وأمثاله لمكتب الإرشاد، لن يكون فيها بعد ذلك إلا المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما يعاف السبع أن يأكله. ثم أكمل الشيخ كلامه، ولكن الصحفي لم ينشر ما تبقى من كلامه، فقال الشيخ: إنها بهذا الشكل ستكون جماعة لا تستحق الحياة.
غضب الإخوان من تصريحات الشيخ، فاضطررت لكتابة مقال، وأثبت في نهايته جملته التي لم ينشرها الموقع، أو نسيها الصحفي، ثم كتبت عدة مقالات أخرى، كانت كلها تدافع عن العريان وأحقيته تاريخيا ودعويا بالموقع.
وقتها اتصل بي العريان وطلب مني، بل رجاني أن أكف عن الكتابة، وأن أكلم من يكتبون إن كنت أعرف منهم أحدا أن يكفوا، لأن هناك حملة تستهدفه داخل التنظيم، تشيع بين الناس أنه من يحرض من يكتبون، وأن الحملة تؤذيه نفسيا، قلت له: لم نكتب لأجلك، بل كتبنا لأجل قضية عادلة، ولم تمنع المواقع التي نكتب فيها من يريد الرد، بل بالعكس نشرت نفس المواقع مقالات أخرى ترد علي أنا شخصيا وعلى غيري، ولم أغضب، بل رددت عليهم.
انتهت أزمة العريان في المكتب، وتم تصعيده بعد ذلك، ولكن على حساب إقصاء شخصين آخرين، كانا هما: الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور محمد حبيب، وكان واضحا جدا أنه تلاعب في العملية الانتخابية، وذلك عن طريق التوجيه الانتخابي، فكيف لنائب المرشد الذي شارك في الانتخابات السابقة مباشرة، كان بينه وبين عاكف صوتان نجح بهما عاكف وصار مرشدا، ثم في الدورة التالية لا يجد أصواتا يكون بها عضو مكتب إرشاد؟!! إنه التوجيه الانتخابي، وكان الجميع يعلم من وراءه، وكيف قام به ضد أبو الفتوح وحبيب.
العريان ورئاسة حزب "الحرية والعدالة"
فوجئت بعدها بأيام يتصل بي العريان نفسه، الذي كلمني أن أكف عن كتاباتي النقدية، وإذا به يقول لي: لقد طلبت منك أن لا تكتب، الآن أقول لك: أرجوك اكتب، واكتب بكل ما أوتيت من قوة، تعجبت وقلت له: ما الجديد يا دكتور عصام؟ قال: إن الدكتور محمود عزت يريد أن يقيم محاكم تفتيش في الجماعة، لكل من يكتب وينتقد القيادات، أو القرارات، فعجِّل بكتابات تبين الموقف الصحيح من النقد، وعدم الضيق به، وبالفعل كتبت سلسلة مقالات نشرت في موقع إسلام أون لاين، عن حسن البنا والنقد الذاتي، في ثلاثة مقالات مطولة، ولكن لم يصدر التوجه أو توقف ما انتوى محمود عزت فعله والمجموعة التي معه فعله، والتي كان الأستاذ عاكف يكثر الشكوى منهم في آخر أيامه قبل ترك منصب المرشد.
وكان في هذه الفترة يحدث مع العريان وأبو الفتوح ما لا يحدث معهما في أي مكان آخر، من حيث التعامل مع مقالاتهما، فقد كان يتعالى عليهما الأستاذ عبد الجليل الشرنوبي رئيس تحرير موقع إخوان أون لاين، ويتم التعامل باستخفاف شديد معهما، وقد يكتبان مقالا فيظل فترة دون نشر عن عمد، وربما يحدث التدخل فيهما، وممارسات كانا يشكوان منها لي شخصيا، لا تليق بمقامهما، كل ذلك بحماية ورعاية من مسؤولين في التنظيم للشرنوبي.
جهود العريان وأياديه البيضاء على الجماعة والتنظيم، في مواقف كنت شاهد عيان عليها، أوقن أن الله عز وجل يجزيه عنها خيرا بما قدم لإخوانه وجماعته وأمته، وإن لقي منهم بعض الحيف والظلم، فلم يمنعه ذلك عن القيام بواجبه نحو الجميع.
ثم كان الموقف الأشد على العريان في ظلم إخوانه له في التنظيم، وهو انتخابات رئاسة حزب الحرية والعدالة، فكان من المتوقع أن يكون له موقع فيه، خاصة أنه أشهر الإخوان في العمل السياسي، فعندما أُسس الحزب فوجئ الجميع باختيار الدكتور محمد مرسي رحمه الله، وأذكر أن القرضاوي عاتب عاكف على ذلك قائلا: كيف ينشئ الإخوان حزبا لا يكون العريان رئيسه، ولم يكن القرضاوي يعرف مرسي وقتها شخصيا؟ فقال عاكف: الجماعة فيها كوادر كثيرة، وكلهم فيهم الخير والبركة، وفهمنا أن عاكف يتهرب بلطف من الإجابة، لأنه لم يكن له قرار وقتها.
تم اختيار مرسي رئيسا للحزب، وطلب المهندس خيرت الشاطر منه أن يجعل العريان نائبا له، فاستجاب، وعندما جرت انتخابات بعد ترك مرسي رئاسة الحزب، ظن العريان أن المسألة ستجرى بنزاهة انتخابية، وكان وقتها بدأ يشعر بالمرارة من التصرفات معه.
كلمت العريان وقتها، وقلت له: يا دكتور المسألة محسومة داخل التنظيم للدكتور محمد سعد الكتاتني، تم التربيط له ليكون رئيسا للحزب، ولن تنجح، كان لا يزال بداخله بقية أمل، فقال: لا، الناس فاهمة، وستنتخبني، قلت له: يا دكتور عصام، إنك يصدق عليك قول الفرزدق للحسين رضي الله عنه: القلوب معك، والسيوف عليك! قلوب الأفراد معك، لكن سيف التنظيم وسلطته عليك، انسحب أفضل لك، فأبى رحمه الله.
وبالفعل تم انتخاب الكتاتني رئيسا، وهو كفء وصاحب تاريخ، لكن الطريقة التي تمت بها الانتخابات لم تكن تليق بمكانته، ولم تكن تليق بتاريخ الجماعة، في تأسيس حزب سياسي، ثم أيضا استقال العريان من موقعه كمستشار للرئيس الشهيد محمد مرسي، بسبب تصريح قاله، كان ينبغي على الجماعة الحفاظ على العريان بدل الضغط عليه ليصل لهذه الدرجة، فيستقيل.
بعد هذه المرحلة بدأت مرحلة هي التي رأينا عليها العريان الرجل العصبي المزاج، الحاد الطبع، الذي لم يكن كذلك، قابلته وقتها وسألته: ما بك؟ فابتسم ابتسامته المعهودة ولكن بمرارة، وقال لي: أنا مبعرفش أتحنجل وأمشي أموري.
ثم جاء الانقلاب ورأينا العريان بثباته وصموده، ووقفته، سواء على منصة رابعة، أو ما بعدها حتى استشهاده رحمه الله. وهذا يدعونا للحديث عن المظالم التي تعرض لها العريان من الأنظمة، نظاما تلو الآخر، وهو ما نكمله في مقال آخر إن شاء الله.
بقيت كلمة أو شهادة في علاقة العريان بالتنظيم، هناك تفاصيل لم أخض فيها، لأنه لم يحن وقتها، ومنها: جهود العريان وأياديه البيضاء على الجماعة والتنظيم، في مواقف كنت شاهد عيان عليها، أوقن أن الله عز وجل يجزيه عنها خيرا بما قدم لإخوانه وجماعته وأمته، وإن لقي منهم بعض الحيف والظلم، فلم يمنعه ذلك عن القيام بواجبه نحو الجميع. رحمه الله ورحم كل شهداء الظلم في كل مكان وزمان.
Essamt74@hotmail.com
عصام الدين العريان النموذج الفريد في جيله
عصام العريان الشهيد المظلوم من الجميع