قضايا وآراء

"الأمين داؤود".. سجين الدولة المدنية في السودان

1300x600
أزمات السودان المتوارثة والمتلاحقة جيلا بعد جيل ولدت منذ لحظة ميلاد استقلال السودان عن دولتي الحكم الثنائي (بريطانيا- مصر) في 1956م، وظلت مستمرة حتى اليوم، دون أن تجد حلا ناجعا يرضي كل شركاء الوطن، لأن جذور أزمة هذا البلد تتمركز في نخبه المركزية الخرطومية المنكفئة حول نفسها ومصالحها وأنانيتها السياسية المفرطة في السيطرة والاستحواذ، سواء كانت هذه النخب يمينية أو يسارية أو طائفية أو عسكرية أو عشائرية.

فقد شكلت وجها واحدا في النهج والسلوك، والممارسة السياسية دائما ما زادت من حدة تقسيم الوطن إلى فسطاطين: مركز اجتماعي ثقافي ثري استحوذ على السلطة والثروة لنفسه، وفرض السيطرة على كل مفاصل وموارد وأجهزة الدولة وأخضعها وسخرها بحتمية قانون القوة لصالح الأقلية المتنفذة مركزيا، وأبقى الغالبية العظمي من سكان السودان هامشا على حضيض السلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، برغم كبر مساحة الأقاليم المترامية جغرافيا والمكتظة ديموغرافيا وسكانيا والغنية بالموارد.

لكن النتيجة الكارثية أن هذا الهامش يعلوه البؤس والجهل والفقر والمرض والحرمان، وتطحنه ماكينات التهميش والتهشيم المتعمد المعتمد كسياسة ممنهجة مركزيا، فتشاهد الغالبية المغلوب على أمرها مواردها تنهب أمام أعينها وتسرق وإرادتها، وقرارها يصادر لصالح الطبقة المركزية الحاكمة والمسيطرة على كل شيء.

كما لا يستطيع إنسان الهامش أن يحرك ساكنا في مقاربة لفرض العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية وانتزع حقوقه الاقتصادية، ?ن المركز متخم ومستكبر لا يرى ولا يسمع ولا يحس بمعاناة هؤلاء الغالبية التبع.

وعلى هذا المنوال الذي يجنح لصالح المركز، دارت عجلات تاريخ الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في السودان (65 عاما) منذ عمر الاستقلال حتى الآن، والمركز المتخم والهامش الفقير في اشتباك وتصادم مستمرين. فالمركز يقمع ويقهر ويبطش ويستحوذ ويسيطر، والهامش يحتج ويثور ويعترك ويصطرع من أجل انتزاع أبسط حقوقه المنهوبة. فتلك هي المعادلة الجبرية الصفرية المركزية التي فرضها ساكن القصر الجمهوري في الخرطوم.

وأفرزت تلك المعادلة حركات اجتماعية وسياسية وحقوقية مطلبية لذوي شعوب الهامش، وشعورا احتجاجيا لدفع الظلم المفروض عليهم، عززه الغباء والتعنت لصانع القرار المركزي، وعدم إيمانه بالاستجابة والجنوح للحلول السلمية ومطالب الهامش، وفشله التام في إرساء دعائم دولة المواطنة التي تسع الجميع.

وكنتيجة للظلم والتعنت أصبحت الخرطوم محاطة ومحاصرة بغابة ثورية من الحركات المسلحة لشعوب الهامش. فالجنوب بعد معركة طويلة مع الشمال مضى إلى مصيره دولة مستقلة، وبرزت بقية مظالم ومطالب التهميش في الأقاليم الأخرى كدارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان، وحتى في أقاصي الشمال الذي لم يعرف الاحتجاج والتمرد؛ برزت حركة "كوش" التي تضم نوبيي الشمال.

وفي ظل تعقد وانسداد الحلول التوافقية في المشهد السياسي السوداني، ما بين مركز متعجرف ومتكبر ورافض أي نوع للمشاركة العادلة، وهامش ثائر حامل سلاحه في الغابة، تفاجأ الكل (قوى المركز والهامش) بهبة رياح التغيير وثورة الشباب 19 كانون الأول/ ديسمبر المجيدة 2019م وسقط رأس النظام، وفُتح الأفق السياسي للسلام، وأصبح الجو جاهزا للحوار وممكنا لتحقيق بناء وإرساء قواعد متينة لدولة المواطنة التي تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

لكن التغيير الذي تم في الخرطوم لم يكن كليا، فذهب الرأس وظل جسد الدولة المركزية النخبوية الخرطومية القديمة باقيا؛ يحيط ويتربص بالثورة، ويضع المحاذير، ويدفن متاريس ومعوقات الإفشال في كل الاتجاهات، تقوده وتغذيه نفس الطبقة السياسية المركزية الخرطومية القديمة المدنية والعسكرية (اليسارية واليمينية.. الطائفية والعشائرية) لأنها تخشى على مصالحها وتقلص نفوذ سيطرتها.

كما أن قناعة هذه الطبقة وإيمانها بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تساوي بين المركز والهامش؛ لم تبلغ الرشد والنضج والسياسي بعد. فما زالت هناك جهات مركزية نافذة داخل حكومة "قحت" تسبح عكس التيار الوطني الثوري المدني، برمي المتاريس وزرع الأفخاخ وصناعة الأزمات وتوليد المشكلات، وشد البلاد من الأطراف (كأحداث بورتسودان - كسلا - القضارف - الجنينة - تلس - كادوقلي). فكل الفعل السياسي السالب هذا يصدر إلى مناطق الهامش بتخطيط وتدبير من جهات مركزية، بالطبع هي غير سعيدة بعملية إحلال السلام الدائم والشامل الجارية حاليا في جوبا.

وما حدث للقائد الأمين داؤود من مؤامرة وشيطنة وتخوين وبلاغات كيدية وإقصاء من المشهد السياسي في مسار جوبا؛ غير بعيد تماما عن أزمات السودان الموروثة والمستمرة بفعل تلك الأيدي المركزية العابثة بملف السلام والاستقرار والمشاركة والعدالة للجميع.

واستهداف الأمين يأتي في تلك السياقات التاريخية الذاتية والموضوعية، وخوفا من شعبيته الجارفة التي ظهرت في الشرق، وبساطته في التعاطي مع قضايا الجماهير، وخطه السياسي والحقوقي الوطني الواضح الذي لا يخضع للتحكم والسيطرة عليه مستقبلا من قبل هذه النخب، مما حرّك ضده جماعات محلية مركزية خرطومية خائفة على مصالحها منه، ودوائر إقليمية طامعة في موارد إقليم شرق السودان ويصعب أن تتعاطي مع زعيم قوي وملتحم جماهيريا مع الشعب؛ فيستحيل معه تحقيق أطماع تلك الجهات الداخلية والخارجية، فكانت الخطة أوصت بتكسير مجاديف "ظاهرة الأمين" السياسية في شرق السودان، بنسج خيوط المؤامرة والاستهداف والإقصاء له بمكر الماكرين، وإشعال الفتن والاقتتال في مناطق حواضنه الاجتماعية والسياسية، وفتح البلاغات الكيدية ضده، وطعنه في الظهر من مساعديه وأقرب الأقربين إليه سياسيا واجتماعيا في "تنظيمه" السياسي (الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة)، فأخرجت ضده بيانات التجميد والفصل والإقالة من رئاسة الجبهة.

واتسقت وتناسقت خيوط الكيد السياسي مع الوفد الحكومي المفاوض في جوبا بقيادة الفريق كباشي؛ الذي رفض الجلوس مع الأمين بحجة أن عليه بلاغات جنائية، والوفد لا يفاوض مجرمين مطلوبين للعدالة. والمخطط توغل وتوحش في الكيد بشحن الطائرات المنسقة حكوميا بالوفود الأهلية المعارضة والمطالبة بتأجيل المسار وإقصاء الأمين من المشهد السياسي؛ إلى جوبا، إلى جانب رعونة المعاملة، فالوفود المؤيدة للأمين تم فرملتها بفعل فاعل في الخرطوم.. هل يظن عاقلا أن كل ذلك الكيد حدث صدفة؟!

لكن الجرأة كانت في المواقف الفولاذية للأمين داؤود بالثبات على المبدأ والذهاب بشجاعة إلى نهاية المضمار.. يحصل ما يحصل لفك ودك طلاسم المؤامرة الكبرى ضده، فأعلن مرارا وتكرارا في تصريحات كثيرة له من ألمانيا وجنوب السودان وإثيوبيا أنه سيعود قريبا إلى أرض الوطن لمواجهة البلاغات الكيدية أمام المحاكم السودانية و"الحشاش يملأ شبكته". وبالفعل اتخذ الرجل قراره ونفذ وعده وعاد رسميا إلى بلده ووطنه عبر معبر "القلابات" الحدودي الرابط بين السودان وإثيوبيا.

واستقبل من سلطات الحدود بشكل لائق، وأخضع نفسه لإجراءات الحجر الصحي (14 يوما) لتأكد من سلامته وخلوه من فيروس (كورونا. وجرت الأمور إلى تلك اللحظة بشكل عادي، لكن المستغرب والمستهجن أن نفس تلك الجهات المركزية النافذة داخل حكومة "قحت" كان لها رأي آخر، لأنها أصلا تعمل عكس الإجراءات والالتزامات المعلنة من قبل الدولة نحو بناء السلام ودعم الاستقرار؛ فعملت ضد الأمين بما يشبه تماما عمل عصابات البلطجة والمراهقة السياسية غير المسؤولة، وجهزت مسبقا محكمة وقاضيا وحكما مكتوبا جاهزا.

وفور انتهاء الأمين مباشرة من الحجر الصحي تم اقتياده إلى محكمة عاجلة وسرية لمدة عشرة دقائق، وقرأ عليه القاضي الحكم المكتوب بسجنه سنة كاملة بحجة أنه دخل البلاد متسللا، في ما اعتبر أسرع وأقصر مسرحية محاكمة هزلية في العالم وربما ستدخل موسوعة "جينيس للأرقام القياسية".

والمبكي أكثر في خسة الانتقام الفاضح وغياب العدالة وغباء العصابة في التمييز العنصري، وتقدير حجم الذنب الذي يستحق العقاب القانوني المتساوي. فالذين قدموا مع القائد الأمين إلى وطنهم بنفس المعبر الحدودي وارتكاب نفس الذنب (المدعى) حكم عليهم بغرامة مخففة وأطلق سراحهم، بعكس القائد الأمين الذي حكم بسنة سجن، ثم رحل بسرعة بما يشبه الخطف والإخفاء بطريقة غير لائقة إنسانيا إلى الخرطوم والإلقاء به في غياهب سجن كوبر.

فتبا للعدالة عندما تتعرى ظلما وتتوحش انتقاما. فالأمين داؤود كان معروفا لدى هذه الجهات الحكومية، وأنه شخصية سياسية وثورية ونضالية مرموقة. فهو رئيس الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة الذي وقع مع الحكومة برتوكول مبادئ مسار الشرق للسلام في جوبا، وهو ذاته صاحب السجل الأقدم نضالا وثورة من أبناء شرق السودان في صفوف الجبهة الثورية، ولأكثر من عشرة سنوات لم يزر أسرته.

وبمثابرته ونضاله الطويل ثبت مسار شرق السودان ضمن مسارات أقاليم السودان الأخرى في تحالف الجبهة الثورية المفاوض للحكومة السودانية في جوبا.

وأنا استطيع أن أسمي الأمين داؤود بـ"جون قرنق الشرق"، بمفهوم الفكر والقيادة والكاريزما والتاريخ والعطاء والنضال السياسي الطويل. ثم إن الرجل نفسه يعود بمحض إرادته من أجل إرساء قواعد دولة القانون وتدعيم حكم الدستور، في سابقة سياسية وقانونية غير مسبوقة، حيث أنه السياسي السوداني الوحيد المعارض الذي يعود إلى وطنه بشكل رسمي ومُعلن وبمحض إرادته، ليمثل أمام القضاء السوداني الشامخ في مواجهة البلاغات الكيدية المفضوحة والمفتوحة ضده، ويؤمن بأن الكلمة الفيصل عند حضرة القضاء السوداني؛ ما إذا كان بريئا أو مذنبا.

أما رفقاء الأمين من السياسيين والعسكريين في تحالف الجبهة الثورية، فينتظرون عفوا سياسيا بإسقاط الأحكام القضائية الصادرة ضدهم من القضاء السوداني عندما يوقع السلام بشكل نهائي ويحين موعد عودتهم إلى وطنهم. فالأحكام الصادرة ضدهم هي حقيقية لارتكابهم جرائم ضد المواطنين السودانيين في مناطق النزاع، إضافة إلى تخابرهم مع دول أجنبية، وتهديدهم للأمن القومي السوداني أثناء تمردهم ضد الدولة المركزية. وهذه القضايا نظر بها أمام المحاكم السودانية، وأصدرت فيها أحكاما قضائية باتة التنفيذ.

لكن مما يحسب للقائد الأمين داؤود أنه رجل شجاع ومتصالح مع نفسه. فرجل بهذه الصلابة والقناعة يستحق التحية والتقدير والتكريم بوسام العدالة في عرف أي دولة محترمة، وأن تفتح أمامه كل أبواب العدالة كاملة غير منقوصة، لا أن تتربص به الدولة وتختلي به في أقاصي القضارف؛ هناك بعيدا عن ساحة العدالة والإعلام، لمحاكمته محاكمة سرية كيدية وتعسفية ومعيبة، دون أن توفر له أبسط قواعد العدالة حتى الاتصال بمحاميه.. فأين نحن؟ في دولة الغاب أم في دولة وحكومة الثورة المدنية التي ثارت ضد الظلم وكان شعارها "حرية.. سلام.. عدالة؟؟

فمثل هذا السلوك المشين بالتأكيد يسيء للسودان حكومة وشعبا وقضاء، ويصفع المواطنة ويصيبها في المقتل. فمن يتبنون هذا النهج داخل الحكومة وأجهزة الدولة المختلفة يعملون على إفشال الدولة المدنية، ويسبحون ضد قيم ومبادئ ثورة 19 ديسمبر المجيدة.

فعلى الثوريين الوطنيين المحترمين المخلصين داخل الحكومة مواجهة وحسم هذه الجهات المتنفذة وبترها من جسم وأجهزة الحكومة؛ لأنها تُفشل جهود مؤسسات الدولة نحو السلام، وتُشوه مصداقية وسمعة السودان أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي.

فما حدث للأمين داؤود عار وجريمة دولة وفضيحة قضاء وصراع أجهزة وأجنحة داخل الحكومة ومؤسساتها؛ يجب أن يحقق فيه قضائيا، ويعاقب الفاعلون وتراجع وتصحح المظالم التي نجمت عن ذلك الفعل المشين؛ بالاعتذار الرسمي للقائد الأمين داؤود، وإطلاق سراحه فورا. فهكذا تفعل الدولة المحترمة من أجل إرساء مبادئ دولة القانون التي يتساوى أمام عدلها الجميع.

ثار الثوار وتحدوا آلة البطش بصدورهم العارية وقدموا أرتالا من الشهداء؛ هاتفين "حرية.. سلام.. عدالة.."!!!