مع قيود جائحة كورونا، عافانا الله وإياكم منها، يأتي شهر رمضان المبارك الذي نحتاج فيه لاستثمار كل دقيقة في إقبالنا على الله تعالى، وتطهير أنفسنا مما علق بها خلال العام الذي مضى، وفتح صفحة جديدة في تدبر كتاب الله، يأتي رمضان هذا العام مصاحبا لأمور قد لا يتكرر اجتماعها معه ومنها:
أولًا: وجود وقت فراغ طويل
بحكم الإغلاق والحجر سواء كان جزئيًا أو كاملًا حيث القيود الكثيرة على التنقل وعليه إمكانية الاستفادة رمضانيا من هذا الوقت أكثر من حيث الإقبال على الله عز وجل
فعليكَ بتقوى اللهِ فالزمْهـا تفـزْ
إنّّ التَّقـيَّ هـوَ البَهـيُّ الأهيَـبُ
واعملْ بطاعتِهِ تنلْ منـهُ الرِّضـا
إن المطيـعَ لـهُ لديـهِ مُقـرَّبُ
(صالح عبد القدوس)
ثانيا: إغلاق المقاهي
ما يعرف زورا بالخيم الرمضانية في بعض الدول والتي تخرج بالصوم عن فكرته وبرمضان المبارك عن روحانيته، فهذه على الأقل من ناحية قانونية مغلقة وإن كان بعضها يفتح بشكل أو بآخر فمن يأتيهم يعرّض نفسه للمساءلة القانونية، وهذا أيضا فيه جانب إيجابي يحث صاحبه على البقاء في بيته والانتفاع من وقته، ويعطيك فرصة للابتعاد عن رفاق اعتادوا هذه الأماكن وأفسدوا عليك طريق استقامتك، وعليه المجال مفتوح أمامك لتفكر كثيرا بشبكة علاقاتك ودائرة معارفك وتغتنم الفرصة للتجديد والتعديل والتبديل " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" آية كريمة.
واخترْ قرينَكَ واصطنعهُ تفاخرا
إنَّ القريـنَ إلى المُقارنِ يُنسبُ
(صالح عبد القدوس)
ثالثا إغلاق المطاعم
فرصة ذهبية لطعام مطهو بالمنزل بشكل صحي – مع الاعتذار من أصحاب المطاعم - وعليه التوفير وتقليل التبذير مع عناية أفضل بالصحة، ولو انتبهنا لذلك حقا فيمكن تقليل الزيوت في الطعام والاهتمام بالملاحظات الصحية عند إعداده، فحجم ونسبة الأمراض المرتبطة كثيرا بنوعية الطعام كبيرة جدا وأعني أمراضا مثل السكري والنقرس وارتفاع الكوليسترول عن معدلاته الطبيعية، ومن جهة أخرى يعطيك هذا مجالا أكبر للمشاركة عائليا بالتجهيز وأعمال المنزل " خيركم خيركم لأهله " حديث شريف.
رابعا: إغلاق المساجد
لا شك أن هذا محزن جدا ومؤلم خصوصا لمن قلبه معلّق بالمسجد، حتى المقصرين والمنشغلين عن المواظبة على المسجد في غير رمضان تجد برنامج الذهاب إلى المسجد تلقائيا لديه أكثر انتظاما والتراويح عنده هي الأكثر حضورًا وقد تكون بمثابة جزء من تقاليد اجتماعية جميلة عند البعض.
ولكن هو هذا العام معني بالتفكير بها أكثر كعبادة يؤديها وفق السنة النبوية التي تشجع على صلاة السنن والنوافل داخل المنزل "لا تجعلوا بيوتكم مقابر “وقد رأيت في رمضان هذا نماذج مشرقة لعائلات تصلي التراويح معًا بجدول يومي حسب ترتيب أجزاء القرآن ثم خلال النهار يكملون القراءة بالجلوس معًا مع تصحيح الأب أو الأفضل فيهم تلاوة غيره.
بصراحة وحتى بعد زوال هذه الجائحة على خير - وإن عافانا الله تعالى- سأحرص شخصيا على المواظبة على صلاة التراويح جماعة مع عائلتي في المنزل؛ لما وجدت في ذلك من روحانية وقيم تربوية عالية تنعكس بالإيجاب على جميع أفراد العائلة.
خامسا: إغلاق أماكن الترفيه
معظم دور السينما والمسرح وما شابه مغلقة إن لم يكن جميعها وقد كانت تستهلك وقتًا كبيرًا لدى كثيرين، بل إن البعض كان يخص الشهر الكريم بعروض وسهرات تحت اسم ليالي رمضان ورمضان منها بريء، وهنا يمكن إعادة تصحيح المفاهيم وتذكير الأمة أن هذا الشهر تاريخيا شهر بطولات وانتصارات وهو شهر الخلوات والختمات ودروس الارتقاء الإيماني للبنين والبنات..
سادسا: صعوبة التسوق
قصة الوصول للسوق ليست سهلة وفيها مغامرة، وكثير من الدول يحتاج أمر السوق فيها طوابير طويلة وإجراءات كثيرة والوقت المخصص لذلك قصير إجمالًا، وفي هذا فوائد بالتركيز على شراء الحاجيات الأكثر ضرورة وبأقصر وقت ممكن مع مراعاة أقصى درجات السلامة والصحة – لمن أراد السلامة -، فيعود المرء من ذلك باستثمار المزيد من وقته وتوفير أكثر من ماله وعناية أكبر بصحته، الوقت والمال والصحة اعتبارات ثلاثة كنا نخسر فيها الكثير برمضانات سابقة، واليوم المجال مفتوح للصقل والتهذيب وإعادة الترتيب.
سابعا: العمل من المنزل
وقد كانت هذه غير مألوفة وجديدة وقد لا تتكرر وإن نظرت لفوائدها تجد فيها اختصارا لكثير من النفقات في مشتريات ملابس وخلافه ناهيك الحاجة لشراء طعام أو مشروبات ساخنة أثناء العمل إضافة لتكاليف التنقل من وإلى العمل من وقت ومال.
ثامنا: اجتماع العائلة
لعل أجمل ما في هذا الرمضان مع الكورونا اجتماع العائلة خصوصا ًإذا كان أفراد الأسرة فيهم من هم كثيرو السفر ولا أجمل من لقائه وصلاة الجماعة معهم واكتشاف مواهب و قدرات وطاقات بعضهم، خصوصا في البيوت المبنية على الحب والاحترام، ففيها نكتشف أصحاب الأصوات الجميلة في القرآن الكريم، والمواهب العفوية في الدعابة والتمثيل، و أمور أخرى كثيرة تختلف نسبيا بين منزل وآخر.
تاسعا: الخوف من المرض
يمتاز رمضان هذا دون غيره باجتماع الصيام والعزل الاجتماعي مع الخوف الحقيقي من الإصابة بالوباء، وسيطرة الأخبار المحزنة بشأن تزايد أعداد الوفيات والإصابات، ووصول المرض للدائرة المقربة منا إن لم يكن أصابنا فعلا، مع تعذر وجود لقاح؛ واقع يفرض على المرء مراجعة حساباته كثيراً، وهل هو جاهز للقاء ربه؟ وهل أدى أمانة تربية أسرته ومن هو مسؤول عن رعايتهم بحق؟
عاشرا: كثرة المواعظ عبر الإنترنت
من حسنات هذه الأيام على صعوبتها أنك لست محكوما بدرس معين في المسجد الذي تصلي به حتى لو لم يعجبك، و إنما أنت أمام فضاء واسع من الدروس والمواعظ عبر الإنترنت، سواء أكانت مسجلة أم مباشرة، قديمة أم حديثة، تعالج قضايا الساعة أم تتناول قيما وحوادث بعينها، ومفتاح التحكم بيدك أنت من حيث اختيار الشخص المتحدث والموضوع وتوقيت الاستماع أو المشاهدة وكيفية جلوسك و طبيعة الملابس التي ترتديها براحتك و لا أحد له عندك، والمدة التي تقرر قضاءها في الاستماع لذلك الواعظ، وهذه بمثابة كنز معرفي وإيماني لمن يحسن استغلاله
ختاما
هذه الأمور التي ذكرت يصلح لها وصف أنها على سبيل المثال لا الحصر والقارئ قادر على الزيادة فيها، والأهم من حصر النقاط أو النقاش بتفاصيلها، أن يخرج المرء منا بعد رمضان هذا بحال أفضل من الذي دخل به، فالحياة زائلة ورحلة العمر قصيرة مهما طالت ".. والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا".