كتاب عربي 21

هل تعم الفوضى العالم العربي ما بعد "كورونا"؟

1300x600
إذا كان وباء فيروس كورونا قد تتسبب بتدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في المجتمع الديمقراطي الغربي، فكيف سيكون الحال مع غياب الديمقراطية ورسوخ الاستبداد في المجتمع السلطوي العربي؟ وإذا كانت الإجراءات الاستثنائية في الديمقراطيات الليبرالية أدت إلى تفريط المواطنين بحرياتهم، فإن عقيدة التباعد الاجتماعي الجديدة تؤدي إلى نشوء مجتمع شمولي من الأشخاص غير الفاعلين، كما يحاجج الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، فما هو مصير المجتمع العربي المبتلى أصلا بأنظمة استبدادية شمولية؟ تبدو الإجابات الأولية المباشرة قاطعة بأن العالم العربي ما بعد كورونا يتجه نحو أنظمة شمولية استبدادية مضاعفة، وحالة من الفوضى والاضطراب.

في ظل المؤشرات بتراجع حدة انتشار وباء فيروس كورونا عالميا، والإعلان عن قرب السيطرة عليه في العديد من الدول حول العالم، فإن العالم العربي يعتبر الأقل تأثرا بالفيروس ذاته والأكثر تأثرا بتداعياته، إذ لم يشهد العالم العربي تفشيا كبيرا للفيروس. فبحسب منظمة الصحة العالمية تم تسجيل أكثر من 111 ألف إصابة بفيروس كورونا المستجد وأكثر من 5500 وفاة في منطقة شرق المتوسط؛ التي تشمل 22 دولة وتمتد من المغرب إلى باكستان باستثناء الجزائر، في حين تجاوز عدد الإصابات في العالم المليونين والوفيات 140 ألفا، ومع ذلك كانت الإجراءات المتبعة عربيا الأكثر صرامة وقسوة وتأثيرا على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما سيترك آثارا راديكالية خطيرة أشد خطورة من فيروس كورونا ذاته.

لقد استغلت أنظمة عربية عديدة الوباء للتخلص من التظاهرات والحراكات الاحتجاجية، من خلال فرض قوانين الطوارئ والأحكام الاستثنائية، لكن الانتفاضات العربية في الموجة الثانية من الربيع العربي التي انتفضت على الوضعية الاستبدادية وحالة الفساد وشيوع الفقر والبؤس، سوف تجد أسبابا إضافية للتظاهرات، مستغلة الطريقة السيئة التي عالجت فيها الحكومات الأزمة. ويبدو أن الانتفاضات العربية ستستعيد زخمها عندما يرحل فيروس كورونا، بل إن بعضها لم ينتظر. ففي لبنان عادت التظاهرات، حيث شدّد المحتجون على أن "الاعتصامات ستبقى قائمة"، مؤكّدين أن "الثورة لم تنتهِ"، وإرهاصات عودة التظاهرات واضحة في العراق والجزائر.

في هذا السياق، يتساءل الباحث الأمريكي المختص بشؤون الشرق الأوسط فريدريك عما إذا كان فيروس كورونا سيشعل ربيعا عربيا ثانيا. ويرجح في مقال بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن يسلط تفشي وباء كورونا الضوء على عجز أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، وعلق بأن أي استجابة صحية واقتصادية عامة سريعة يمكن أن تعزز الحكم الاستبدادي لهذه الأنظمة، ولكن ليس إلى أجل غير مسمى. ورأى أن درسا حاسما من الانتفاضات العربية لعام 2011 والاحتجاجات التي اندلعت العام الماضي، هو أنه من دون حكم أكثر شمولية وفساد أقل ومزيد من العدالة الاقتصادية، فإن الأدوات التكنوقراطية والقسرية ما هي إلا تدابير مؤقتة، إذ سيتحدى الفيروس قدرات الحكومات التي تبدو مستقرة. فما يجعل هذه الصدمة للشرق الأوسط مختلفة وأكثر حدة، هو أن فرق الإطفاء المعتادة (خطة إنقاذ من دول الخليج أو المنظمات الدولية أو القوى العظمى) قد لا تصل كما كانت من قبل، فقادة العالم العربي أصبحوا لوحدهم.

أفضت الإجراءات السلطوية العربية القاسية للحد من انتشار كورونا إلى فقدان ملايين العاملين لمصادر رزقهم، وتدمرت قطاعات اقتصادية عديدة كالسياحة وغيرها، وتوقفت تحويلات العاملين في الخارج، وهو ما قد يؤجج الاضطرابات والفوضى، وستجد الدول الخليجية الغنية التي تعتمد موازناتها على عائدات النفط نفسها عاجزة عن تحقيق الرفاهية أو الخدمات المعتادة لشعوبها، ولن تستطيع مساعدة أنظمة استبدادية أخرى مع انهيار أسعار النفط. وحسب مجلة "الإيكونوميست"، سيلجأ الحكام في الشرق الأوسط إلى القبضة الحديدية والقمع لمواجهة آثار كورونا وانهيار أسعار النفط.

من المؤكد أن العالم العربي سوف يتجه إلى حالة استبدادية مضاعفة، وهو يدرك أن موجة من الاضطرابات والفوضى قادمة لا محالة، ولذلك فهو يستثمر وقت الوباء لإعادة الترتيبات السياسية والمهام السلطوية، ويُجري تدريبات ويقوم بتجارب مختلفة على كافة الأصعدة السياسية والقانونية الإعلامية والأمنية والعسكرية معتمدا على قواه الداخلية. وقد سبق أن حذرت الكاتبة والسياسية الإسرائيلية كسينيا سفيتلوفا، من أن "شرق أوسط جديداً سينبثق من أزمة فيروس كورونا". وقالت سفيتلوفا، وهي عضوة سابقة بالكنيست الإسرائيلي، في مقال بصحيفة يديعوت أحرنوت: "من المؤكد أن الشرق الأوسط سوف يتغير في عقب الفيروس، فتسقط أنظمة، وتنهار البنى التحتية، وتسود الفوضى". ورأت أن حكومات الشرق الأوسط غير قادرة على تحمل الاضطرابات التي تهدد بانهيار الاقتصاد العالمي بأكمله.

وقد لفتت مجلة الإيكونوميست البريطانية إلى أن انخفاض أسعار النفط جراء انتشار كورونا وحرب الحصص بين روسيا والسعودية سيقلل موازنات دول المنطقة، وهذا ما يعني عدم وجود الكثير من المال "لرشوة الشعوب".

فالشرق الأوسط سوف يتغير، بانهيار أنظمة، وسيادة الفوضى نتيجة الأزمة الاقتصادية التي ستعقب انتشار فيروس كورونا. وحسب إريك مانديل من صحيفة الوشتطن بوست، فإن "فيروس كورونا يغير طريقة الحياة في الشرق الأوسط، تماماً كما في أي مكان آخر؛ لكن خبراء السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون أنه لا يمكننا أن نغفل عن هذه المنطقة، خاصة مع الحقيقة شبه المؤكدة بأن خراباً سوف يسود عقب تفشي كوفيد-19. عندما تهدأ حدة الأزمة، من المحتمل أن يكون الفيروس قد عصف باستقرار الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، ومجتمعاتها واقتصاداتها المنهارة. سيؤثر ذلك تأثيراً مباشراً على مصالح أمننا القومي".

تبدو كافة التوقعات والتنبؤات بمصير العالم العربي ما بعد كورونا متشائمة، فقد قال كل من مايكل هورفيتز ونيك غرينستد من موقع "ديلي بيست" إن من آثار ما بعد كورونا في الشرق الأوسط أنه ستعم به فوضى جديدة. فالنزاعات التي تشهدها المنطقة منذ وقت تجمدت بشكل مؤقت بسبب انتشار الفيروس، ولكن النزاعات لن تختفي. ففيروس كورونا ليس معادلا كبيرا ولن يؤدي إلى اختفاء التنافس والحروب. فهو مثل الهزة الأرضية يقوم بالكشف عن وتكبير الضعف الأساسي لدى الدول التي لم تكن مستعدة أكثر لمواجهته، وهو بهذه المثابة يفاقم بالتالي اللامساواة الموجودة في المنطقة. ومثل صدمات ما بعد الأزمة القاتلة، فإن انهيار أسعار النفط سيؤدي إلى نضوب ميزانيات الدول التي تقيم اقتصادها على موارد النفط. ويشير الكاتبان إلى أن الناس اليائسون يلجأون إلى أساليب يائسة، وكذا الأنظمة اليائسة تلجأ إلى أساليب أكثر قمعا.

إن سيناريوهات ما بعد كورونا في العالم العربي لا تشير إلى أي شيء إيجابي، إذ يرسم الخبراء صورة كارثية. فحسب الدكتور إريك مانديل، مدير شبكة المعلومات السياسية في الشرق الأوسط، فإن تفشي فيروس "كورونا" في بلدان الشرق الأوسط من المرجح أن تتبعه عواقب واضطرابات وتحديات غير مسبوقة، مطالباً المسؤولين الأمريكيين بالبدء في التفكير والاستعداد لذلك. وأضاف مانديل، في مقال بموقع "ذا هيل" الأمريكي، أنه "من المحتمل أن يدمر الوباء استقرار الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، واقتصاداتها المختلة، وسيؤثر ذلك بشكل مباشر على المصالح الأمنية الوطنية الأمريكية".

خلاصة القول أن ثمة نظرة تشاؤمية تسود التوقعات حول مستقبل العالم العربي ما بعد أزمة وباء كورونا، حيث تسود تنبؤات الاضطراب والفوضى، وانحدار الأنظمة العربية نحو مزيد من الشمولية والاستبدادية القمعية المضاعفة. وفد حذرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية من أن العزل الصحي الذاتي قد يكبح جماح فيروس كورونا، إلا أنه سيذكي أوار التطرف في العالم. وقد شرعت الأنظمة السلطوية العربية في إعادة بناء تدابير وترتيبات ما بعد كورونا لترسيخ بقائها، وباتت قيم الديمقراطية والليبرالية والحريات الفردية المفقودة أصلا في العالم العربي، حلما بعيد المنال، لكن المؤكد أن الاستبدادية العربية لن تهنأ بالاستقرار الزائف، فقد منحت أزمة كورونا مزيدا من الأسباب لموجة جديدة من انتفاضات الربيع العربي.