كتاب عربي 21

بين قيس سيعد وعمر بن الخطاب

1300x600

 

قام الرئيس قيس سعيد بزيارة ليلية إلى إحدى قرى مدينة القيروان؛ زيارة أصبحت حديث المجالس ومنطلقا لجدل واسع اخترق مختلف مكونات الرأي العام والشرائح الاجتماعية طولا وعرضا. بدأت القصة في نهار نفس اليوم، حيث توجه الرئيس التونسي إلى مؤسسة صحية، اعترضه أحد المواطنين البؤساء فسأله سعيد عن ظروفه، كشف له المواطن عن بيضة كانت بين يديه، وقال هذه غدائي اليوم صحبة عائلتي. تأثر الرئيس كثيرا، وقرر أن يعود ليلا ليقدم مساعدة لذلك الرجل تتمثل في صندوق مواد غذائية وقدر متواضع من المال. يقول قيس سعيد إنه لم يحمل معه مصورا، كما كان ينوي أن يتم اللقاء بينهما سرا وفي جنح الظلام، لكنه فوجئ بجمهور غفير يتدافع حوله، وعدد من الحراس الرئاسي ينادون بصوت عال على صاحب البيضة. فجأة تحولت الحركة الرمزية التي أقدم عليها الرئيس التونسي إلى مصدر إثارة ونكتة على صفحات التواصل الاجتماعي.

قال الرئيس سعيد في افتتاح مجلس الأمن القومي أنه فعل ذلك اقتداء بعمر الفاروق. ولم تكن المرة الأولى التي يستحضر فيها الرئيس التونسي الخليفة الثاني، إذ سبق أن صورته الكاميرا وهو يحمل على ظهره كرتونة أخرى من المساعدات في إطار الحملة الوطنية لدعم الفقراء في ظل جائحة كورونا التي اجتاحت البلاد.

الرجل صادق مع نفسه، صادق مع شعبه، له شخصية حالمة ومثالية، يريد فعلا أن يعيد الماضي البعيد، وأن يتماهى مع نماذج بقيت في ذاكرته منذ عهد الطفولة. لهذا، عندما وجد نفسه رئيسا، سكنته رغبة قوية في أن يعيد تجسيد مشاهد استثنائية ومؤثرة بقيت بمثابة البصمة في تاريخ الأمة، خاصة بعد أن سادها الظلم، وامتلأت الدنيا جورا وفسادا. لكنه عندما شرع في تحويل أحلامه إلى واقع وجد نفسه في واد والناس في واد آخر.. انتقده الكثيرون، واستخف به البعض من المثقفين، وقلل من قيمته سياسيون منافسون، وشعر أنصاره بالإحراج، وأحس أغلب المواطنين بأن ما فعله رئيسهم رغم أهميته الرمزية إلا أنهم اختلفوا في شأنه وفهم دلالاته ونواياه. بمعنى آخر، احترموا الرجل لكن جزءا منهم لم يفهموه.

عندما كان الرئيس ابن علي يحكم البلاد بسياسته الأمنية القمعية وبعصاه الغليظة، نحت لنفسه صورة نمطية لحاكم لا يحسن الخطابة، ولا يطالع الكتب، ولا يتابع آخر الإبداعات في الثقافة السياسية، لكنه بقي محاطا بهالة جعلت أغلب النخب والغالبية الساحقة من المثقفين يظهرون له الولاء، ويتجنبون نقده، رغم أنهم في خلواتهم كانوا يستهزئون به ويستخفون بقدراته. وكانت النتيجة أن بقي السلطة 23 عاما.

رفض قيس سعيد بعد أصبح رئيسا أن يغادر بيته الواقع بحي شعبي، ورفض أن يستقر بالقصر الرئاسي. كان قراره هاما من الناحية الرمزية، ويذكرك بما فعله خوسيه موخيكا، الرئيس السابق للأوروجواي الذي رفض مطلقا الانتقال إلى القصر الرئاسي، وفضّل أن يعيش مع زوجته في بيته الريفي المتواضع حتى وُصف بأفقر رئيس في العالم . مع ذلك، قال الكثيرون إن هيبة الدولة تفرض عليه التحول إلى قرطاج، حيث مقر إقامة الرؤساء، مثلما فعل المنصف المرزوقي والباجي قايد السبسي والرئيس المؤقت محمد الناصر. تمسك سعيد بقراره، قبل أن يعدل موقفه وينتقل إلى بيت الرؤساء، في انتظار أن يستأجر فيلا قريبة من مكتب عمله.

هل الخطأ في السياق؟ أم في الإخراج غير المناسب؟ أم في الثقافة السياسية السائدة؟ أم في الصورة النمطية حول كيف يكون الرئيس رئيسا في بلد مثل تونس؛ عاش حالة ثورية سرعان ما تراجع وهجها، وأصبحت ديمقراطيتها واقعا ملموسا؟

هناك من له عداء مرضي مع قيس سعيد؛ لم يستوعب هؤلاء وصوله إلى الرئاسة بدون نضال سياسي سابق، ولم يفهموا حتى الآن كيف حصد هذا الجامعي تلك النسبة العالية والمدهشة من الأصوات. هؤلاء سيواصلون توجيه بنادقهم نحو الرجل مهما فعل، من أجل إضعافه وتقديمه في صورة سلبية، وربما هم يأملون في إسقاطه إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فبقاؤه خمس سنوات أخرى أمر لا يُحتمل من وجهة نظرهم.

صحيح السياق التاريخي الحديث اختلف كليا عن السياق الذي عاش فيه الفاروق، لكن لا يعني ذلك أن القيم تغيرت أو نسخت وذهبت مع ذلك العهد ومع ذلك الخليفة الذي للأسف مات مقتولا. الزهد يبقى مطلوبا لدى الحاكم العادل، وكذلك التواضع وحب الفقراء والعمل الصادق على مساعدتهم. قد يخفق المسؤول السياسي في اتخاذ قرار ما أو تقديم مساعدة لأحد مواطنيه، وعلى كل إنسان نزيه أن يتعامل مع ذلك بكل موضوعية ويعطي لكل ذي حق حقه، وأن ينصحه بلطف حتى لا يعيد نفس الخطأ، دون المساس بقيمة الرجل والتقليل من اجتهاده. فنحن في أشد الحاجة للحاكم النزيه الذي يضع نفسه في خدمة مواطنيه، لأن الشعوب العربية تعبت كثيرا ممن يصل إلى أعلى هرم السلطة وهو في صورة قط وديع، ويصبح بعد ذلك بمثابة الكلب الشرس.