ازدحمت الصحف والمواقع، فضلاً عن
الفضائيات ومواقع التواصل بتحليلات لا تحصى حول "ما بعد كورونا"،
والأسئلة المتعلقة بتأثيرات الوباء على واقع الدول والمحاور والصراعات في العالم.
لا تزعم هذه السطور أنها ستقرر الحقيقة
في هذا الشأن، لا سيما أن تداعيات الوباء لم تظهر بالكامل حتى الآن، وما زال الأمر
خاضعاً للأسئلة من زاوية الزمن الذي سيستغرقه انتشاره، وصولا إلى مشهد النهاية
بالسيطرة عليه، كما تمت السيطرة على أوبئة أخرى في أزمنة ماضية.
هل يمكن لمنظومة "العولمة" أن تتغير بناء على حقيقة أنها لم تخدم سوى القوى الكبرى
لا أحد يمكنه القول إن ما قبل كورونا
سيكون هو ذاته ما بعده على كافة الأصعدة (داخل الدول وفي الوضع العالمي)، لكن المبالغة في تقدير التغيرات القادمة لا
تبدو مقنعة؛ إن كان على صعيد النظام الاقتصادي العالمي، أم على صعيد الصراعات
الكبرى في العالم؛ بخاصة ذلك الصراع الذي كان قائماً في العالم بين الولايات
المتحدة، وبين الدول التي تنافسها على القوة والنفوذ، وفي مقدمتها الصين وروسيا،
بجانب القوى الأخرى الصاعدة مثل الهند والبرازيل وسواها، فضلاً عن القوى الإقليمية
مثل تركيا وإيران.
ورغم أن تقديس الدولة، وانتشار الفكر
اليميني سيكون جزءا من التداعيات الجديدة، إلا أن علينا أن نتذكر أنه كان في صعود
قبل كورونا، وطالما تحدثنا هنا عن مرحلة
"انفجار الهويّات".
ربما كان "الركود الاقتصادي"
هو العنوان الأبرز للمرحلة القادمة، لا سيما أن قيمة الأشياء قبل كورونا كانت قد
بلغت مستوىً يجعلها في متناول طبقة معينة لا تمثل سوى الأقلية، فيما كانت البطالة
تتصاعد في أكثر الدول، بخاصة في أوساط الشباب.
والحال أن مشهد التفاوت الطبقي الرهيب،
واحتكار الأقلية للثروات (دولا وأفرادا)
لم يكن ليستمر على النحو الذي كان عليه؛ بكورونا أو من دونه، وكان لا بد من تصحيح
ما، سواء بإرادة الدول، أم رغماً عنها
بسبب ثورات جياع أو حراكات شعبية، إذ بلغ الأمر حداً لم يعد بالإمكان احتماله.
هل يمكن لمنظومة "العولمة"
أن تتغير بناء على حقيقة أنها لم تخدم سوى القوى الكبرى، فضلا عن صناعة التفاوت
الطبقي الرهيب داخل الدول نفسها؟ هذا وارد بالطبع، وقد كان ضرورياً من الأساس، حتى
لو لم يكن هناك كورونا، لكن الأمر يبقى مرتبطاً بالصراع السياسي الذي من دون
تغييره للواقع الراهن، فستبقى أمريكا هي التي تتحكم بالوضع الاقتصادي من خلال
"دكتاتورية الدولار" التي تمنحها القدرة على فرض عقوبات على من تريد.
على أن ذلك كله سيرتبط من دون شك
بالصراع السياسي الذي كان قائماً، والذي ستحدد بناءً على نتيجته موازين القوى
الجديدة في العالم خلال المرحلة المقبلة.
ولمّا كان تراجع القوة الأمريكية،
ورسوخ حالة التعددية القطبية القادمة، من شبه المؤكد، فإن تغيرات أخرى على مختلف
الأصعدة سيشهدها الوضع الدولي، وسيكون بوسع القوى الصغيرة والمستضعفة أن تجد لها
مجالاً أفضل للتحرك، وهذا كله لا صلة له بكورونا، وتأثيراته؛ إذ إنه قائم به
وبدونه.
إن التغيرات الرهيبة التي سيشهدها
العالم خلال العقود القليلة المقبلة على الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية
والتكنولوجية والطبية والفضائية والاجتماعية، ليست مرتبطة بكورونا، بل هي قادمة في
كل حال، وهي التي ستطرح أسئلة كبرى على الإنسان وحياته ومصيره على هذه الأرض.
هل ستعلي من قيمة الإنسان بصرف النظر
عن عرقه ودينه، أم ستعيد برمجة موازين القوى لصالح أطراف دون أخرى، كما كان الحال
من قبل؟ هذا ما سنعرفه خلال العقدين القادمين، أو الثلاثة المقبلة في أبعد تقدير.