أفكَار

عقوبة الاستئصال الإلهية أما زالت فاعلة أم توقفت بعد الإسلام؟

يقرر القرآن الكريم في معرض سرده لقصص الأنبياء السابقين، أن الله عاقب الأمم السابقة بعذاب استئصالي بعد تكذيبهم لأنبيائهم- جيتي

يقرر القرآن الكريم في معرض سرده لقصص الأنبياء السابقين، أن الله عاقب الأمم السابقة بعذاب استئصالي بعد تكذيبهم لأنبيائهم، وهو ما قد يترك انطباعا في أوساط المؤمنين بأن ذلك الفعل الإلهي المباشر في استئصال المكذبين من الأمم السابقة ما زال قائما وممتدا في الزمان من غير توقف.


وقد يتعزز ذلك التصور بفكرة أخرى، مفادها أن الله الذي وضع السنن الكونية الثابتة والمطردة، وأقام عليها نظام الكون، واستقر عليها جريان أحداث الاجتماع البشري ووقائعه، قد يخرق النواميس الكونية، ويتجاوز قوانين الحياة، فيما يندرج تحت باب المعجزات والكرامات، ما يجعل المؤمنين يتشوفون دائما إلى تدخل إلهي خارق لما اعتاده الناس وألفوه في عالم السنن والأسباب.


ووفقا لباحثين شرعيين، فإن تلك السنة التي كانت فاعلة في الأمم السابقة، لم تعد قائمة بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ثمة من يذكر أن ذلك الفعل الإلهي المباشر قد توقف بعد نزول التوراة على نبي الله موسى عليه السلام، استظهارا لآيات قرآنية عديدة في سياق حديثها عن قصته مع فرعون وقومه.


ويحتجون لذلك بكلام للعلامة المجتهد ابن تيمية، قال فيه: "وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال، عذابا عاجلا يهلك الله به جميع المكذبين، كما أهلك قوم نوح، وكما أهلك عادا، وثمود، وأهل مدين، وقوم لوط، وكما أهل قوم فرعون، وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها وخبرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال".


واستحسن هذا الرأي المفسر والفقيه السعودي، عبد الرحمن السعدي، ذاكرا أنه "مر عليَّ زمان طويل كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه، وهو أنه بعد بعث موسى ونزول التوراة، رفع الله العذاب عن الأمم، أي: عذاب الاستئصال، وشرع للمكذبين المعاندين الجهاد، ولم أدرِ من أين أخذه، فلما تدبرت هذه الآيات (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ..) تبين لي وجهه، أما هذه الآيات فلأن الله ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس".


ودفعا لما قد يعترض به من إهلاك فرعون، قال السعدي: "ولا يرد على هذا إهلاك فرعون، فإنه قبل نزول التوراة، وأما الآيات التي في سورة القصص، فهي صريحة جدا، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية، وأخبر أنه أنزله بصائر للناس وهدى ورحمة".


من جهته، أوضح الأكاديمي والباحث الشرعي المغربي، الدكتور حفيظ هروس، أن "إهلاك الأمم السابقة إنما كان قبل الإسلام لا بعده، وتشهد له عدة نصوص، منها قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، بعد أن طلب منه كفار قريش إنزال العذاب بهم في معرض عنادهم وتكذيبهم {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.


وأضاف: "وهذا ما يبين أن بعثته عليه الصلاة والسلام كانت رحمة عامة للعالمين، كما قال سبحانه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وهو ما ذهب إليه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري بعد ذكره للاختلاف في (العالمين) الذي أرسل النبي عليه الصلاة والسلام رحمة لهم، هل هم جميع العالم (مؤمنهم وكافرهم)، أم أهل الإيمان خاصة، ثم اختار ما روي عن ابن عباس، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم، فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة. وأما كافرهم، فإنه دفع به عنه عاجلا الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله".


وقال حفيظ في حديثه لـ"عربي21": "أقام الله نظام كونه على سنن ونواميس، جعلها قوانين ثابتة ومطردة، وسخرها لخدمة الإنسان، إذا ما أحسن استثمارها، أما خرق تلك السنن والنواميس بما يكون من جنس المعجزات والكرامات، فهي حالات استثنائية، والأصل أن يقيم المؤمنون حساباتهم وفق تلك السنن والقوانين، لا أن يجعلوا من الاستثناء أصلا، فتضطرب تقديراتهم، وتفجعهم النتائج حينما تأتي عكس ما كانوا يتوقعون ويأملون".


بدوره، أكدّ الباحث الشرعي السوري، المتخصص في الفقه الإسلامي وأصوله، الدكتور أيمن هاروش، أن "عقوبة استئصال المكذبين كانت في الأمم السابقة، قبل أن يفرض الله الجهاد على المؤمنين، لكن بعد أن فُرض الجهاد على نبي الله موسى عليه السلام، وهي أول شريعة إلهية شُرع فيها الجهاد، رُفعت عقوبة الاستئصال، أو بمعنى أدق لم ينزل الله بأمة من الأمم عقوبة الاستئصال".


ولفت هاروش إلى أن "هذا الفهم يؤخذ من استقراء جملة الآيات القرآنية، ويُستظهر من قراءة قصص الأنبياء، وهو ما يعني أن عقوبة الاستئصال في الأمم السابقة حل مكانها الجهاد، ليكون التدافع البشري بين أهل الحق والباطل في قادم الأيام العصور".


وأضاف لـ"عربي21": "وما يعزز هذا الفهم ويؤكده أن كفار قريش حينما طلبوا الآيات الخارقة من الرسول ليؤمنوا به، رد الله عليهم بقوله {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}، وهو ما يعني أننا لو أجبناهم إلى ما طلبوه، فسينطبق عليهم حينها سنة الله في الأمم السابقة التي كذبت الرسل، وسيشملهم عذاب الاستئصال، الذي رفعه الله".


وشدد هاروش في ختام حديثه على أن "السنن والنواميس الإلهية الحاكمة للاجتماع البشري قائمة على قوانين وسنن التدافع والاستبدال، وما إلى ذلك، وهي تجري على البشر جميعهم، مؤمنهم وكافرهم، ويبقى تأييد الله لعباده المؤمنين بعد أن يبذلوا وسعهم البشري بأقصى ما يستطيعونه، وبما يقدرون عليه".