فرغت الساحات اللبنانية من مشاهد مكررة لمسيرات احتجاجية يسير مسؤولو الأحزاب في مقدمتها، فالشعارات الخاوية من القدرات التنفيذية، ومن آليات الاستمرارية، خلت منها الشوارع التي امتلأت بمبادرات سلمية، مبتكرة، قادرة على جذب المؤيدين والجمهور، وتستمد ديناميتها من مفاهيم وحدوية ترفع شعار التنوع والوحدة الوطنية والاجتماع الوطني على هدف مواجهة السلطة بالوسائل السلمية.
ومع أن الاحتجاجات اللبنانية التي دخلت شهرها الثاني خلت إلى حد كبير من مظاهر التسلسل الهرمي، وغابت عنها مجالس قيادة الثورة، إلا أنها استطاعت أن تحافظ على زخمها كما في اليوم الأول، وذلك يعود إلى مجموعة عوامل لا تنحصر بالحفاظ على سلمية التحرك كآلية للاستمرار ولردع السلطة عن استخدام الوسائل العنفية فحسب، بل تصل إلى مستوى قياسي من الابتكار لعوامل جذب المؤيدين والمناصرين التي تبدأ من الهتاف، ولا تنتهي بفعاليات حوارية متواصلة يومياً، ومبادرات مدنية تجمع المحتجين خارج القيد الطائفي.
والحال أن شكل الثورة في لبنان، انقلب في التحرك الأخير عن الشكل التقليدي الذي دأب المحتجون عن اتباعه. فقد انقلب على مفهومين أساسيين، أولهما الغضب الثوري الذي يحشد الهمم لثلاثة أيام، متبعاً الأساليب العنفية كطريقة للتعبير عن الغضب، وتحقيق المطالب تحت ضغط المدّ البشري القادر على الاستيلاء على المرافق العامة، وثانيهما الشكل الحزبي للاحتجاجات التي تكرست صورتها في اعتصامات حزبية قامت بها الأحزاب اليسارية بشكل أساسي خلال السنوات الماضية، ولم تأخذها السلطة على محمل الجد.
ولا جدال في أن النموذج الثاني فشل في الضغط على السلطة، بالنظر إلى قصور في القدرة على الإقناع، وعجز عن توجيه رسائل للسلطة حول جدية القدرة على التأثير. أما النموذج الأول فيحاذره اللبنانيون منعاً للانحدار إلى حرب أهلية لا تزال تحفر عميقاً في أذهان اللبنانيين وتثير هواجسهم. وعلى هذا الأساس، بات النموذج السلمي القادر على الاستمرار، أسلوباً ناجعاً تحقق أولاً في "ثورة الأرز" في 2005، مستلهماً شكله من الثورة البرتقالية في أوكرانيا، والبنفسجية في صربيا، وبات يعتمد بشكل أكثر تطوراً في الحراك الأخير، واستطاع خلال شهر تحقيق عدة إنجازات، أبرزها إسقاط حكومة، وإفشال تكليف رئيس جديد لها من ضمن السييستم السياسي التقليدي، وبدء التغيير في النقابات انطلاقاً من انتخابات نقابة المحامين في بيروت التي أوصلت مرشحا مستقلا في فوز استثنائي.
زمانان في توقيت واحد
والواضح أن السلطة في لبنان لا تريد أن تفهم مفردات الحراك، ولا تزال تعتبر أن الأزمة حكومية وأن الأزمة اقتصادية فقط، وترفض رؤية أبعاد ما جرى منذ 30 يوما وحتى اليوم، وهي اليوم دخلت في مرحلة فيها من النوستالجيا المرضية وليس النوستالجيا الشاعرية، بحسب ما يقول الباحث السياسي ومدير مركز "أمم للأبحاث والتوثيق" لقمان سليم لـ"عربي21".
ويضيف: "منذ انطلاق الثورة أثبتت في سلوكها أن الناس تعيش في زمن والسلطة، بكل مكوناتها، تعيش في زمن آخر".
ويوضح أن "الثورة تعيش والسلطة في حالة اختلاف في الأزمنة، وهذا يؤدي إلى سوء تسامع وليس فقط إلى سوء تفاهم، حيث تنادي الثورة بأشياء تفهمها السلطة أشياء أخرى".
ويرى أن "هذا الواقع يؤسس لأزمة طويلة، لكن أهم ما حققه الحراك منذ انطلاقته هو الجمع الواحد للأزمات وهذا يعد مكسباً كبيراً للبنان، فهناك الأزمة الاقتصادية انفجرت بوجه الجميع، ولكن البعد الإقليمي أيضا انفجر، بدليل تصريح المرشد الأعلى في إيران بأن المتظاهرين في بيروت وبغداد تحركهم السفارات وما شابه، وهذا لا يمكن تجاهله".
تماثل وتباعد عن ثورات الربيع العربي
ويجد سليم في الحراك، تماثلاً كبيراً مع ثورات الربيع العربي، ولكن إلى هذا الكثير المشترك والذي يعبر عن دخول جيل جديد من اللبنانيين إلى الشأن العام، هناك خصوصيات لبنانية، خصوصيات تحيل إلى ما عاشه لبنان من صراعات أهلية، وليس من قبيل الصدفة أن أحد أبرز الشعارات التي رفعت ولا تزال كانت الشعار العابر للطوائف وللمناطق بامتياز وهو العلم اللبناني، وبالتالي أحد أبرز ميزات الحراك هو أن الأحزاب التي كانت تعتبر أنها تحتكر التمثيل السياسي باتت إلى حد بعيد بحكم المتقاضمة إن لم يكن على مستوى القوة المالية والقوة العسكرية أحيانا فعلى مستوى الخطاب الأيديولوجي .
ويؤكد سليم أنه اليوم "لا يمكن لأي حزب لبناني أن يدعي أنه ليس هناك جزء من جمهوره في الساحات، والانتقال الجديد الحاصل أن هناك انتقال على مرحلتين الأولى هو إعادة اختراع السياسة من جديد والمرحلة الثانية تتعلق بماذا سنفعل بهذا العقد الذي ينظم علاقة اللبنانيين الذي هو اتفاق الطائف".
ويضيف: "بتقديري هذا هو السؤال الذي سيكون الأكثر إيلاما عندما تهدأ النفوس. هل سيكون ممكنا بعد شهر أو شهرين أو 4 أشهر أن نستمر بالإحالة إلى اتفاق الطائف الذي أصبح دستورا للبنان بوصفه الناظم للعلاقة بين اللبنانيين. هناك علامة استفهام كبيرة، نتركها للمستقبل لنرى ماذا سيحصل"؟
فرادة ثورية
ورغم التشابه في بعض الجوانب، "لا يمكن تشبيه الثورة في لبنان بالثورات الحاصلة في العراق أو التي حصلت في تونس أو مصر، والبعض يشبهها بالحالة الفرنسية"، بحسب ما تقول الاستاذة الجامعية والمستشارة الادارية الدكتورة سالي حمود، مضيفة في حديث لـ"عربي21": "اليوم هذه الثورة حالة خاصة بحد ذاتها، خاصة بدينامياتها، فهي لا تقتصر على الانتفاض بوجه السلطة أو المسؤولين فيها أو على أحزابهم، بل بوجه النظام الطائفي القائم على المحاصصة، الذي وللأسف يعطي مجالا أكبر لرموز السلطة بالسرقات وممارسة أكبر للفساد، وهذه الثورة لا يمكنها إلا أن تكون سلمية حتى لو تعرض الثوار للاعتقال أو للضرب من قبل القوى الأمنية، وبالطبع تغيير التكتيكات قائم بدليل الابتكار المتعلق بخبر ذهاب الثوار إلى عين التينة ولم يذهب أحد وهذا بالطبع أحدث إرباكا لدى أحد رموز السلطة".
عليه، فإن القدرة على الاستمرار تمثلت في "أن الثوار حتى اليوم نجحوا بالابتكار ولا يزالوا، فمثلا قرع أجراس الكنيسة ورفع الآذان في الجوامع كي تعرف الناس أن عليها النزول إلى الشارع. وكذلك عند سماعه باحتمال انقطاع الأنترنت فلجأ إلى الـ Bluetooth ".. وترى أن "أهم نقاط القوة في الثورة أنها لم ترتكز على المركزية بالعاصمة فقط، فضلا عن أنها لا تزال تتمتع بروح الثورة والنفس والطويل وبسلميتها، فضلا عن درجة الوعي، والشباب اللبناني كان يتحضر بشكل غير مباشر للثورة، فضلا عن امكانية الوصول إلى المعلومات في أي وقت كان، وهم رأوا معاناة جيل الشباب الذي سبقهم ولا يزال هم أيضا يعانون، من هنا انطلقت الفردية لديهم إنما باتجاه المصلحة العامة".
سلوكيات جماعية
ولا تخفي حمود أن أنماط الثورة تغيرت كثيرا "أولا لأن السلوكيات عند الثوار تغيرت وهذا انعكس على سلوكيات جماعية، وهي خرجت من التفكير الطائفي والعقائدي والأيديولوجي، وهذا ما يميزها عن باقي الثورات الأخرى".
لكن هذا لا يعني أنه ليس هناك من تقاطع بينها وبين عدد من الثورات العربية، في تونس ومصر "إلا أن ما يميزها عنها هو أنها حافظت على سلميتها بشكل كبير، إضافة إلى تمتعها بالعفوية المنظمة، لأن الثوار يعبرون عن وجعهم وألمهم، وحتى الناس المثقفة والمفكرة شاركت في الثورة وأعطت رأيها كيف يمكن أن يكون التغيير المطلوب، وحتى لو وصفتها بعض وسائل هذه العفوية بفوضى المطالب من ناحية التنوع في المطالب، وهذا يدل كم كانت فردية هذه الثورة، وصحيح أنها تركز على "كلن يعني كلن" إنما هذا يعني المساءلة والمحاسبة وليس إسقاط الأشخاص كأفراد إنما إسقاط الرموز الذين يمثلون الأحزاب والطوائف والفساد الذي نحاول الخروج منه".
3 إنجازات تحققت
ومع استمرار الحراك بشكله السلمي، تحققت الكثير من الانجازات. يقول سليم: "هذا الحراك حقق حتى اليوم 3 أشياء على الأقل: أولها أن موضوع الفساد أصبح ملازما لموضوع النظام، لم يعد بالإمكان الكلام عن الفساد خارج منظومة العلاقات التي تربط أهل السلطة ببعض وهذا أمر مهم كثيرا". ثانيا، "ليس هناك أحد من السياسيين الذين رفعوا ذات يوم إلى مرتبة الألوهة لم يصب إصابة طفيفة أو بالغة".
وثالثا "أن هذا الحراك بات يملك ديناميته الداخلية، لم يعد يحتاج إلى محرك خارجي من قبيل فرض ضريبة جديدة أو من قبيل محاولة تعيين رجل غير مناسب لرئاسة الحكومة، فالحراك يعمل ضمن ما يسمى قوة الدفع الذاتية".
انشطار سياسي
آليات التحرك، تدفع الباحثين للابتعاد عن تسميته بـ"الثورة".
يقول سليم: "أفضل أن لا أسميها ثورة أو انتفاضة بل حراك، لأن الحراك هو شيء جامع فيما الثورات قد تحيل إلى أفكار مسبقة عما هي الثورات، فلنقل اليوم إننا في لحظة حراك أو لحظة سيولة مواطنية وكأن هناك شيئا يتماوج، هذا الحراك كان مناسبة كي يظهر إلى العلن كل ما كان يختمر في الأحشاء اللبنانية من طاقات ومن إبداعات لم تنل حظها من الاعتراف بها خلال السنوات الماضية".
ويضيف: "صحيح أن الحراك لم يأت بعد بحلول اقتصادية ولكنه فتح الباب العريض أمام حلول اقتصادية جذرية إذ لم يعد ممكنا بعد اليوم معالجة الأمور معالجات موضعية لا تتصدى للأسباب الحقيقية لما كان".
وعليه، "ما شهدناه في لبنان هو أشبه بانشطار نووي"، بحسب ما يقول سليم، وأضاف: "هناك طاقة انشطارية تحركت ولم يعد ممكنا اعادة هذه الطاقة الى القمقم الذي كانت مسجونة به. بغض النظر عن الأشكال التي يتخذها الحراك أكان رسما أو موسيقى أو إعادة صياغة دستور جديد أو إجراء انتخابات مبكرة لأن كل هذا موضوع آخر".
ويشير إلى أن "السلطة في لبنان هي كناية عن طرف واحد هو الأقوى وقد طرح نفسه بوصفه حامياً لهذا النظام، وأعني حزب الله، وفي هذا الطرف أيضا كل الأفرقاء الآخرين، والسلطة بطبيعة الحال ستراهن على الملل وعلى الإنهاك وربما على الطقس وستراهن على كل ما تراهن عليه أي سلطة لكن أظن أن هذا الرهان سيفشل، ولحسن الحظ أن لا مجارير الصرف الصحي تساعد كما رأينا في الأيام الماضية ولا الخيارات السياسية التي تتخذها السلطة تساعدها، ولبنان ذاهب باتجاه حالة طويلة، حالة لا يمكن فصلها عن الإقليم، فالأرض في بغداد وفي طهران وفي بيروت تهتز ولبنان أصبح على خط زلازل واحد".
حراك أم ثورة؟
الواقع أن الشكل المتبع في التحرك، يخفي غضباً ثورياً يمكّن السلطة من إنعاش نفسها، كما في بعض البلدان الإفريقية.
تقول حمود: "هذه ليست ثورة غضب وإن لاحظناه فيها، لأن فيها الكثير من الحزن والألم ومصدرها وجع الناس، فالغضب ليس ضمن الأهداف والنهج الخاص بها، وليس ضمن سلوكها، وقد تم امتصاص الثوار الغاضبين، الأهم التركيز الدائم على الهدف، لأن عامل الضجيج وبأي وسيلة اتصالية وخاصة خلال الثورة، هو ما يجعل الناس تحيد عن الهدف وأقصد الالتهاء بعوامل غير أساسية، فضلا عن العمل على التخفيف من حدة الخوف لأنه ما من داع للخوف فالثورة هي ضد سلوك الأحزاب الذي يجب أن لا يتجاوز حدوده".
ويبدو أن الأيديولوجيا لا تزال "متخمرة" في أذهان بعض من في السلطة فيما الوضع الاقتصادي بات متدهور جدا والفساد بلغ أعلى مستوياته، فطموح الشباب اللبناني وبمعظمهم هو الهجرة. لكن في المقابل، "هذه الثورة تقدم أشياء جديدة كل يوم"، بحسب ما تقول حمود.
وأضافت: "ألم يراقب مثلا المجتمع الدولي السلسلة البشرية التي نظمتها، وكذلك موضوع بوسطة الثورة، فهي لا تعتمد خطاً مستقيماً دائما تعتمده في كل المناطق، فالجامعات والثانويات أصبحت جزءاً من هذه الثورة، فضلا عن سقوط ضحايا في صفوفها بالرغم من ذلك لا تزال تحافظ على أهدافها وسلميتها"، وفق تعبيرها.
قصر الرئاسة بتونس والعوام.. أنسنة أم تجريف للوعي الديمقراطي؟
عوائق العلمنة في لبنان.. الطائفة كملاذ خلاصيّ
"اتحاد الكتّاب اللبنانيين".. الترهّل يقصيه عن حراك التغيير