لم يخطر ببال أي من الأدباء المصريين أن يجف نهر النيل لأي سبب بل تغنوا بتدفقه السرمدي.
ذلكم النهر الذي شغل الناس وألهم الشعراء والفنانين وعلّم الفلاح تفاصيل الحياة، وكوّن شخصية المصري.
ومنذ ظهوره والكتابة عنه إبداعا لا تحصىى؛ إذ لعب النيل أدوارا لها قيمتها في إطار القصيدة العربية، معبّرا عن الانتماء للوطن، والوطنية، وراصدا الحياة السياسية والاجتماعية في مصر، وربط مصر تاريخيا وإنسانيّا بالوطن العربي والعالم.
وقد أحصى د. مصطفى الضبع مؤخرا؛ ما يربو عن 400 قصيدة عربية تتناول النيل بصورة كلية أو جزئية، كما قدم الباحث خالد أحمد علي في كتابه عن صورة النيل في الشعر المصري؛ أعدادا أخرى لشعراء مصريين وعرب تناولوا النيل وصورته في عيونهم.
ومنذ ظهور الأعشى ليوم الناس هذا، كان النيل حاضرا، ومن شتى الأجيال والمدارس والأشكال؛ سواء كان خليليا أو تفعيليا أو قصيدة نثر.
ورغم تتابع الأجيال، فإن صورة النيل لدى الشعراء لم تكن على مستوى حضوره مجرد مفردة أو صورة تتدرج من الجزئي إلى الكلى، وإنما كان للنيل حضوره على مستوى تشكيل القصيدة وعلى مستوى تلوين موضوعاتها، وعلى مستوى رموزها الدالة.
كان النيل ملهما حينا، وعاشقة حينا، ومعادلا عن الوطن أو الحق والخير والجمال، وشيخا نبيلا ورمزا يشي بالوطنية والوحدة، وتجليا لكوثر في الجنان. وكلها صور إيجابية تنم عن جلالة دوره ومهمته، بدون إغراق في قداسة تمنحه ما ليس فيه.
وسواء كتب أحمد شوقي، أو حافظ، أو العقاد، أو البارودي، أو أحمد الحوتي، أو أحمد زكي أبو شادي، أو أحمد بن محمد الشامى، أو محمد الفيتوري، أو إدريس محمد جماع، أو بولس غانم، أو صالح عبد القادر، أو عامر بحيري، أو عبد المنعم كامل، أو فاروق شوشة، أو فاروق جويدة، أو الهادي آدم، وغيرهم كثيرون ممن يستحيل إحصاؤهم.. فإن تجربة النيل عند الشاعر السبعيني حسن طلب جدّ مختلفة. ففي ديوانه "لا نيل إلا النيل" تجاوز المرحلة الأيقونية الملهمة إلى مرحلة السقوط في الوثنية الوطنية؛ التي تستمد من من النيل حاكمية المعاش والممات. وقد أفرد ديوانا كاملا بعنوان "لا نيل إلا النيل"، عن دار شرقيات عام 1993 ، تدرج فيه زمنيا من القديم إلى الحديث، من مستوى زمنى يشى ببداية التاريخ خالقا رحلة لها طابعها الإنساني الدال، رحلة محتشدة بالرموز ومفعمة بالدلالات التي يستثمرها الشاعر لصالح رؤيته الخاصة، تلك الرؤية المتشكلة "لا نيل إلا النيل".
يقول طلب:
يا نيل أحكمت الخطط
ألفت من شتى الدماء عشيرة
ومن العشائر دولة
وبنيت مملكة فأرسيت البناء
ولم تزل
حتى رأيت دم العشائر يختلط
فأشعت فيها الأمن..
واستخلفت فيها شعبها
أسست دينا واحدا للمسلمين وللقبط
وكتبت: إن الحاكمية لى
لأول مرة ظهر الإله
فخيف قبل الموت من عدل الإله
وخيف بعد الموت
أول مرة صعد الدعاء إلى السماء..
وجاء
أول مرة وحى هبط
أفمحض نهر كنت؟ أنت مزيج خمر سال؟
أم ماء فقط؟
ويقول:
النيل أقنوم الأزل
في البدء كان
وفي الختام يكون
إن النيل نيل خالص كدمى
حقيقي كأحلام الصبايا
ويقول:
يا أيها النيل يارجائي
قضيت شيئا من القضاء
رويت غيرى بحر مائي
شفيت خصمي… فمن لدائي.
الشاعر هنا يغلب فكرة سرمدية النيل وهيمنته على الأشخاص والأشياء، فلا يُسلِّم إلاَّ بوجوده، ويرد كلَّ شيءٍ إليه، ويعتقد بإمكانية الخلاص من خلاله، وهو بذلك يؤدلج تجربته بطابعه اليساري النمطي، الممزوجة بالوثنية الوطنبة.
في حين رأه الشعراء غير ذلك، مثل أحمد محرم:
النيلُ ينظرُ أين قَادَتُه الأُلى مَنعوا الحِمَى أَتفرَّقوا أم بادوا
أحمد نسيم:
نآى النيل حتى صرت أشوق مولع إلى رشفاتٍ من لماه عِذاب
ويقول إسماعيل صبرى:
لا تَقرَبوا النيلَ إن لم تَعمَلوا عملا فَماؤهُ العذبُ لم يُخلَق لِكَسلانِ
ويقول التجاني يوسف بشير:
أَيُّها النيل في القُلوب سَلام الخُل د وَقف عَلى نَضير شَبابك
وتقول جليلة رضا، في قصيدة "نيلنا الخالد":
يانيل ما أبهــــى رؤاك بناظرى يا سائرا فوق الزمان الســــائر
ويقول حافظ:
النيلُ قَد أَلقى إِلَيهِ بِسَمعِهِ وَالماءُ أَمسَكَ فيهِ عَن جَرَيانِهِ
ويقول خليل مطران:
أَيُّهَا النِّيلُ مَا جَنَيْتَ عَلَيْهِمْ بَلْ جَنَى جَهْلُهُمْ وَلَسْتَ مُلِيمَا
زكي مبارك:
فثار النيل يسأل ما شجاها وما عين لأدمعها تثوب
ويقول علي الجارم:
النيلُ يستنجِدُ مُسْتَنْصِرا فأَسْرعوا الْخَطْوَ إلى نَصْرِه
ويقول مصطفى صادق الرافعي:
وما النيلُ في مصرٍ سوى دم قلبها
إذا حفظوهُ دامت الروح في مصرِ