عنوان الكتاب: رواية "المدغور"
المؤلف: بشير الخلفي ورحمة بن سليمان
الناشر: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم
عدد الصفحات: 78 صفحةمن الحجم المتوسط
طباعة أنيقة عن الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم.. البشير الخلفي هو صاحب أطول مدة سجنية بتهمة الانتماء للحركة الاسلامية التي اعتبرها ابن علي خطرا على حكمه فحاكم كل قياداتها والآلاف من مناضليها وشرد منهم كثيرين توزعوا بين القارات الخمس وضيّق على عائلاتهم في الداخل وحاصرهم في رزقهم وحتى في نومهم وأحلامهم، استشهد تحت التعذيب العشرات وفيهم من لا يعلم أهله تاريخ وفاته ولا مكان دفنه وأبرزهم "شهيد" الرواية كمال المطماطي الذي تأكد للتونسيين بعد 2011 بكونه مدفونا في خرسانة جسر الجمهورية بتونس العاصمة بالقرب من وزارة الداخلية.
1: دلالات العنوان
"المدغور".. قبل أن يحسم أمر عنوان الرواية التقيت الصديق بشير الخلفي قال لي إنه موزع بين عنوانين: "المغدور" أو "المدغور".. وجدت أن مفردة "مدغور" كما لو أنها تشق صدري أو تخترق ضلوعي شعرت فعلا بأن المفردة كما لو أنها خنجر يُستل من غمده ليدغرني في سكوني وهدوئي... فأجبته في ثانية ودون تفكير "المدغور".
هذه المفردة تستل من معجم البداوة النقي الأصيل ولها دلالاتها الموجعة المفزعة وهي أعمق جرحا من مفردة "المغدور" ، الغدر يتخذ أكثر من معنى وفي أكثر من جهة / في جهة الجسد أو الشرف أو العهود والمواثيق أو الأمانات والأسرار... وأما "الدغر" فله إحالته المباشرة إلى معنى جريمة الطعن والبعج والدفن والردم والتغييب.
"المدغور" في الرواية هو الحق الذي يمكن أن تُغيّبه الدولة وصاحب السلطان، "المدغور" هو الوجود بما هو حضور في التاريخ وذهاب إلى المستقبل وأشواق دافقة وانجذاب نحو عالم أرحب وأصفى
رواية "المدغور" رواية على غير مثال لا تصنف ضمن أدب الذات ولا ضمن أدب السجون الذي ظهر بعد 14 كانون ثاني (يناير) 2011 في تونس، وسبق للمؤلف أن كتب فيه رواية "دراقا" ولا ضمن الأدب السياسي أو أدب الوجدان ... إنها تجربة جديدة متفردة.
"المدغور" رواية يشتغل فيها العقل الفلسفي والوجدان الفياض تتدافع فيها الأسئلة الوجودية والعواطف الدافقة يزدحم فيها القلق الفلسفي والشوق إلى مستقبل أرقى وأنقى... رواية منقوعة في الأحزان محبّرة بالأوجاع منطوقة في الغصص وفي الأسئلة المدمرة إنها رواية لا تطفح في جمال التصوير وتدقيق التشبيه وتكثيف الترميز والإيجاز وإنما هي رواية تنزف في خدوش الروح وندوب الجسد وكدمات الألياف العصبية وتصدعات الذاكرة الملتهبة.
2 ـ فصول الكتاب
أ ـ الوثيقة والحقيقة من ص 17 إلى ص 26
"ومن لا وثيقة له فلا وجود له" ص 17.. هكذا تقول الوثيقة وهي تحاور الحقيقة... تقول الوثيقة: إن الوجود الحقيقي هو ما توثقه الدولة في دواوينها وأرشيف إداراتها... الدولة التي لا تغيب عنها شاردة ولا واردة وهي التي تحصي على الناس حركاتهم وسكناتهم وهي أعلم بهم منهم بأنفسهم، فهي التي تسلم وثائق الوجود أو وثائق الغياب ومن لا تعترف له الدولة بوجوده فهو في عداد المفقودين حتى وإن كان موجودا في عالم الحقيقة ومن لا تعترف له الدولة بوفاته فهو إما في عداد الموجودين حتى وإن لم يكن له حضور جسداني في الواقع أو هو في عداد المرتحلين في سؤال الوجود وفي رحلة تتمزق فيها أفئدة الأهل بحثا واشتياقا وأملا في لقاء هو أشبه ما يكون بسراب في قيعة بدولة لا تقدم أجوبة مطمئنة ولا تعترف إلا بحقائق هي التي تصوغها وفق تقديراتها ومصالحها... الدولة تمتلك القوة المادية لصناعة الحقيقة المطلقة: "أنا الحقيقة المطلقة، أنا التي لا تغيب عني شاردة ولا واردة، على صدري مدون تاريخ حياتكم بتفاصيله، أنا صنيعة الدولة وذاكرتُها والمتحكمةُ بها والحاكمةُ أوثق حياتكم وكل ما يجري عليكم ابتداء من ميلادكم وحتى نشأتكم..." ص 17
"المدغور" في الرواية هو الحق الذي يمكن أن تُغيّبه الدولة وصاحب السلطان، "المدغور" هو الوجود بما هو حضور في التاريخ وذهاب إلى المستقبل وأشواق دافقة وانجذاب نحو عالم أرحب وأصفى... تظل الحقيقة في نقاوتها ومثاليتها تطرق أبواب الوجود تريد أن تتحقق وأن يُعترف بها تظل مكابرة ومندفعة بروحية انتصارية لا تملك عليها دليلا ماديا أو حتى عقليا وإنما تملك ما تجده في ذاتها من اطمئنان وثقة فتتحدى الوثيقةَ قائلة: "أنا أكبر من سيدك الإنسان، فمهما حاول طمسي أو إخفاء معالمي فإن زبد ألاعيبه ومؤامراته ينكسر على صخوري العنيدة فيتلاشى في سماء الحقيقة، فأنا المد العارم وأنت الجزر المنقرض، قد أغيّبُ لسبب من الأسباب، أو تحت الإكراه فأختفي ولكن سرعان ما أتفلت من عقالي وأكسر قيودي وأبزغ كشمس في كبد السماء لا تعرف المغيب" ص 23.
ذاكرة الموجوعين هي الأقوى في تدوين الحوادث والأحداث وهي الأرسخ في تاريخ الشعوب والأمم وهي التي لا تقاومها أجهزة الدولة ولا يمكن أن تخترقها أجهزة البوليس فتزيف فيها الحقائق...
في آخر الفصل الأول من الرواية يتدخل في الحوار "المدغور" ذاتُه تناديه الحقيقة باسمه إنه "كمال".
كمال المعني بذاته يحاولُ الإجابة عن سؤال الوجود إن كان تحقّقًا أم توثيقًا؟ يقول: "أنا ميت أنتمي إلى عالم الأموات في الحقيقة، وحي يُرزق من عالم الأحياء في الوثيقة، أمتلك دليل وفاتي عندي وتمتلك الوثيقة دليل حياتي عندها... أنا انتهى وجودي بتاريخ كذا من شهر كذا من سنة كذا"... ص 25
إنها الدراما التي ليست نسج خيال أو تهويما شعريا أو مسرحةً أو سينما إنها مرارةُ العجز حين لا يقدر أهلك وأحباؤك وصغارك وحبيبتك على إثبات كونك ميتا رغم ما يجدونه في صدورهم من ركضاتِ شكواك واتقاد روحك التي غادرت الجسد في إحدى زنازين دولة البوليس.
"المشكلة كل المشكلة في رجال الدولة الثقاة، هل سمعتم عن ميت بلا جثة ولا شهادة وفاة، وتُصر الوثيقة على أني موجود حي ،على أني ميت على الحقيقة؟ آه يا وثيقة لقد انعدمت فيك الثقة..." ص 26
ب/ حديث الذاكرة من ص 27 إلى ص30
ذاكرة الموجوعين هي الأقوى في تدوين الحوادث والأحداث وهي الأرسخ في تاريخ الشعوب والأمم وهي التي لا تقاومها أجهزة الدولة ولا يمكن أن تخترقها أجهزة البوليس فتزيف فيها الحقائق... الذاكرة هي صفحات الروح التي لا ترتسم عليها بشاعة الكذب وهي روح التاريخ الشاهد الوحيد الذي لا يكذب أبدا "أنا الذاكرة التي لن تموت، ولن يطالها النسيان أنا الحَكم أنا القاضي..." ص 28
الحوادث كما النبات لها منابتها في الجغرافيا وفي الزمان ولها طقسها السياسي محليا وإقليميا ودوليا... مأساة "كمال" أو "المدغور" لم تكن مأساة فردية إنما كانت مأساة وطن ولم تحصل في زمن أومكان معزولين عن حوادث كبرى شهدتها البلاد العربية. تقول الذاكرة: "سأعود بكم إلى حقبة من زمن تسعينات القرن الماضي فيها بدأت مأساة وطن بأسره... وضع متفجر في الداخل... وعلى امتداد خريطة الوطن العربي هناك في بحر الخليج الحربُ عرت السوءات وأسقطت ورقة التوت وصار الأمر إلى سوئه وزاد، الإعلام مشدود إلى ما يجري في بلاد الرافدين ولا يأبه لرحى الاستبداد المحلية وهي تدوس الرقاب وتطؤها دون ضجيج ودون أن يُلقى لها بالٌ فأمام عظام الأحداث تصغر صغائرها... الإرادة السياسية تسعى إلى اجتثاث أي نفس معارض قبل نهاية حرب الخليج" ص 28/29.
ج/المخطوف من ص 31 إلى ص 44
فصل يستجمع فيه الراوي تفاصيل الإيقاف والتحقيق والتعذيب الجسدب والمادي ويستحضر ملامح الجلادين يُطلق عليهم أسماء مستعارة يأتلف فيها الدال والمدلول: قتلة/ هراوة/ زلاط/ دبوس/ ماتراك/... أسماءُ أشياء وجادات تحيل إلى فراغ الكائن من وجدانه وعواطفه وإنسانيته حتى يستحيل كما الخشبة تقع على الأجساد الحية تؤذيها ولا تشعر بها بل لكأن الجمادات تصبح أكثر عاطفة من هؤلاء الأجلاف الغلاظ ".
في هذا الفصل معركة الدم والسيف... روح التحرر في كمال تقاوم الأوجاع والعذابات ولا تبرد ولا تستكين: "لن أكون ذليلا ربما تستطيعون أن تفعلوا كل شيء ولكن لن تستطيعوا أن تسلبوا عزتي وشموخي ولن تستطيعوا إذلالي..." ص 35.
قاومتْ روح كمال ولم تنهزم ولكن الجسد لم يحتمل كل ذاك الأذى فخار بلا حراك وانطلقت روح كمال إلى عوالم الخلود وسبحات الوجود... وابتدأت رحلة أهله في البحث عنه ليصطدموا بحقيقة بوجع الغصة مفادها "دولة وكانتلو (كانت له) بلاعة".
مأساة "كمال" أو "المدغور" لم تكن مأساة فردية إنما كانت مأساة وطن ولم تحصل في زمن أومكان معزولين عن حوادث كبرى شهدتها البلاد العربية.
كمال أو "المدغور" أوالمطمور أو المغيب أو المُرسلُ إلى ما وراء حُجب الحقيقة ومعاني الوجود... لن تسلم حتى روحه من الفواجع وقد غادرت الجسد سيظل يرقب حبيبته وهي تتعب في البحث عنه تحاججهم بالوثائق فيجيبونها بنفي الدولة صاحبة قرار الوجود والموت في دولة البوليس... سترى روحُه حبيبة قلبه وهي تغوص في الأحزان والوحدة الموحشة تتداعى عليها الفواجع: موت ابنها في حادث مرور ووفاة حماها وانتقال حماتها وحتى زواج ابنتها كان فرحا غير مكتمل لغياب الأب.
عذابات رفيقة دربه مضاعفة تتعذب لغيابه وتتعذب لغياب الدليل وتتعذب لأسئلة الأولاد، تقول: "وفي الصباح أستجمع شجاعتي وأقول: يا أولادي أبوكم مسافر، وقريبا سيعود، ولكن لا أدري متى.. سفر... سفر... سفر..." ص 44
د/ الجثة والذباب من ص 45 إلى ص 49
هذا الفصل يختزل في عنوان مستخرج من خثار تجربة الأجداد حين يعبرون عن يأسهم من العثور على أية دفينة أو طريدة: "الذبان الأزرق ما يعرفلوش طريق ولا جرة".
وهي صياغة مختصرة للتعبير عن قدرة دولة البوليس على إخفاء الحقائق خاصة حين يتعلق الأمر بحقيقة شهيد انتزعت روحَه عصي الجلادين في أقبية الداخلية... حتى الذباب الذي أودع فيه الخالق ملكة تتبع روائح الموتى أصبح عاجزا وتعطلت ملكاته أمام فنون الإخفاء التي تجيدها أجهزة القمع، الذباب نفسه أضحى ملاحقا ومتهما بالتجسس على الدولة والتآمر ضدها: "نعرف عنكم كل شيء، طنينكم مسجل عندنا،أنتم تتآمرون على الدولة لتُفشوا سرها ، نعلم مع من تتعاملون ونعلم الجهة التي تموّلكم..." ص 47
هـ/ وجع الانتظار من ص 50 الى ص 62
هذا الفصل هو طقوس مناجاة وبثّ بين المدغور والمغدورة حبيبته التي ظلت تنتظره وتستدعيه في الوحشة والذاكرة والأحلام تحاوره وتبثه أشواقها وخيباتِها... ويجيبها يصور لها المشهد ويروي لها التفاصيل... المدغور لا يتهم فقط دولة البوليس وإنما أيضا يتهم من حوله من أبناء شعبه حين لم ينتصروا إليه وظلوا يتابعون المشهد كما لو أنهم ليسوا معنيين به.. إنهم لا ينتصرون للضعفاء ولا يصطفون إلا خلف الغالبين: "الجميع يسترق النظر من وراء الجدران أو من وراء ستار، لم يجرؤ أحد على الاقتراب أو حتى السؤال عن هوية غربان تختطف إنسانا، أليسوا مني وأنا منهم؟ فما بالهم إذن يتغاضون عني؟... كنتُ بينهم ولكن كنتُ وحدي، كم كنتُ وحدي، والحق أنهم بذلوا جهودا جبارة لحماية رؤوسهم... في مثل هذه المواقف ينفضون عنك، يُسلمونك لمصيرك، يرفعون أيديهم عنك لأنك وقتها لست الغالبَ ولو عدتَ إليهم ذات نصر سيقولون لك احتفاءً... ألم نكن معك؟"
وـ ثورة النور والنار من ص 63 إلى ص 72
روح كمال التي ظلت تطوف في عالم الكمال والخلود شاهدة على بشاعة فعل الإنسان بأخيه الإنسان ها هي تتوزع في الجماهير لتخرج متحدية السوط والجلاد صارخة أن ارحل "تصيح الحناءُ والخليج والحجر وكل مفردات الوطن ارحل... ارحل... ارحل.." ص 65.. روح كمال كانت شاهدة ولكن جسده لم يكن مشهودا يومها وها زوجته تتفقده وتستغرب غيابه عن هذا الحدث التاريخي العظيم: "أين كمال؟... ما باله تغيب اليوم، والحال أنه ليسمن عادته، هو الحاضر في كل معركة في صف الحق،في صف الشعب، في صف المظلومين" ص 65
الذاكرة تنطق في هذا الفصل وللمرة الأولى الإسم الكامل للمدغور إنه "كمال المطماطي" وتسأل الدولة: " كمال المطماطي... وين دغرتوه... وين دغرتوه... وين دغرتوه...؟ ص72
ز ـ الفصل الأخير أو شهادة الوفاة من ص 73 إلى ص78
محكمة:
"اليوم هو الثلاثاء 30 من شهر حزيران (يونيو) 2015، وبعد سماع الشهود ولسان الدفاع وبعد كل الحيثيات التي ذُكرت وبعد أن حصل اقتناع لدى هيئة المحكمة أن المسمى كمال المطماطي قُتل بتاريخ 8 تشرين أول (أكتوبر) 1991 حكمت المحكمة بالتاريخ المذكور بوفاة المسمى كمال المطماطي والإذن لعائلته باستخراج حجة وفاة... رُفعت الجلسة" ص 73
ذاك كان كل نصيب الشهيد من ثورة وهبها روحه وجسده... "شهادة وفاة"... حين يكون اعتراف الدولة لأحد ضحاياها بأنه فعلا قد تُوفي مكسبا فذاك تعبير عن حجم القهر والظلم والاستخلاف الذي تعرض له أناس كثيرون بسبب أفكارهم ومعتقداتهم...
اعتراف الدولة بحقيقة أن كمال المطماطي قد دُغر فعلا لا يكفي لتبريد وهج الأسئلة والأشواق عند زوجته وأهله... سيظلون يسألون عن رماد جسده يوقدون منه فوانيس الحرية وأقباس المستقبل وجمرات الثورة الدائمة.
الأرض التي تعرف أولادها الذين نبتوا منها لا تقبل بالتستر على القتلة فتصرخ: "تتحلل فينا الأجساد ولكن لن تتحلل فينا جرائم الجلاد... اليوم تُخرج الأرض أثقالها وتكسر أقفالها ،وتفضح أعمالهم... لن تتستر عمن يُفسد فيها ويسفك الدماء ويقترف الإخفاء" ص 76