مع مرور ست سنوات على مذبحة رابعة العدوية التي
وصفت بالأبشع تاريخيا في مصر، وصنفت باعتبارها جريمة ضد الإنسانية لا تسقط
المساءلة عنها بالتقادم يحلو للبعض تحويل الذكرى إلى (مندبة) لجلد الذات بدلا من
التفكير في علاج أوجه القصور، والتفكير في خطط عمل لاستكمال طريق شهداء المذبحة
ومن سبقهم ولحقهم على طريق الحرية والكرامة.
يعود البعض للوراء لا لاستلهام طاقات الثبات
والصمود من ثوار رابعة الذين واجهوا الرصاص الحي من الجو والبر لمدة 12 ساعة بصدور
عارية بعد ثبات استمر لـ 45 يوما وسط تهديدات وتضييقات، ولكن لمحاسبة المعتصمين
وقادتهم على ذلك الاعتصام، وتحميل هؤلاء القادة -الذين ضحوا أيضا بأنفسهم
وأبنائهم- المسئولية عن تلك الدماء العزيزة في تكرار سمج لمقولات عبد الفتاح
السيسي وأذرعه، وأيضا لمقولات ياسر برهامي وحزبه، وكانت أشهر مقولاتهم عن شهداء
رابعة حين أرادوا التنصل من دمائهم "قتلهم من أخرجهم" وهي كلمة حق أريد
بها باطل، فقد أطلقها معاوية بن أبي سفيان حين قتل جيشه سيدنا عمار بن ياسر ليتجنب
بذلك الوصف النبوي عن عمار "تقتله الفئة الباغية" وقد رد عليها الإمام
علي بن أبي طالب في حينه قائلا "وهل قتل محمد صلى الله عليه وسلم عمه الحمزة
وغيره من الشهداء في أحد؟!!"
.
يتلذذ البعض بنشر اليأس والإحباط بين الصامدين
الذين يستلهمون صمودهم من ثبات وصمود أهل رابعة والنهضة، ويقف هذا البعض بالمرصاد
ضد أي مؤتمر أو وقفة لتذكر المذبحة والتأكيد على الوفاء لدماء شهدائها، بدعوى أن
تكاليف تلك الفعاليات ينبغي أن توجه لدعم المعتقلين أو أسر الشهداء إلخ، ويتناسون
أن تخليد ذكرى رابعة بكل الطرق الممكنة (وقفات- مؤتمرات- معارض) هو عمل ضروري في
وجه محاولات النظام وأتباعه لطمس تلك الذكرى (ولا يغني ذلك بطبيعة الحال عن مواصلة
الجهد القانوني والحقوقي لملاحقة القتلة وتحين الفرص المناسبة لذلك).
يتلذذ البعض بنشر اليأس والإحباط بين الصامدين الذين يستلهمون صمودهم من ثبات وصمود أهل رابعة والنهضة
ولا يكتفي البعض بذلك بل يعودون إلى الوراء
لإثارة شبهات حول اختيار المكان والزمان للاعتصام، وهذا أمر يمكن الأخذ والرد فيه،
وتنوع وجهات النظر، ولكن أن تصل الأمور إلى حد الطعن في الاعتصام من حيث المبدأ
باعتباره عملا انتحاريا يورد صاحبه المهالك، فتلك هي الطامة الكبرى.
إن مقاومة الظلم
والاستبداد لم تنتظر يوما تكافؤ الفرص بين المقاومين والمستبدين والطغاة والمحتلين حتى تبدأ عملية المقاومة، وهل كان المسلمون في بدر في قوة المشركين؟ وهل
كانوا أيضا كلك في أحد؟ بل هل كان الجيش المصري في قوة جيش الاحتلال الصهيوني في
حرب 1973؟ أو كانت كتائب المقاومة الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي في قوة الجيش
البريطاني، وهل كان عمر المختار ورجاله في قوة جيش الاحتلال الإيطالي أم كان ثوار
الجزائر في قوة جيش الاحتلال الفرنسي؟!
لكن لا يمكن أبدا توجيه اللوم للمعتصمين في رابعة الذين خرجوا بسلمية دفاعا عن حريتهم وكرامتهم كما تفعل كل الشعوب الباحثة عن الحرية
معروف تاريخيا أن الشعوب التي تنعم بالحرية
والكرامة والديمقراطية دفعت ثمنا باهظا في سبيل ذلك، وما فعله معتصمو رابعة هو
دفاع عن حريتهم وإرادتهم، لقد لجأوا إلى وسيلة سلمية تماما، ولم يلجأوا لعنف أو
سلاح (ثبت كذب ادعاءات أبواق النظام عن الاعتصام المسلح)، ولم يكن يدر في خلد أحد
أن النظام مهما بلغت قسوته سيجرؤ على مثل هذه المجزرة، كان أقصى تقدير أن يعمد إلى
قطع الإمدادات الغذائية والصحية عن المعتصمين ليجبرهم على الرحيل، أو استخدام
خراطيم المياه الملوث أو حتى قنابل الغاز لفض الاعتصام عند اللزوم لكن أحدا لم
يتوقع استخدام الرصاص الحي برا وجوا، وحتى المرات التي تدخل فيها بالرصاص الحي كما
في الحرس الجمهوري والمنصة فقد كانت الواقعتان تدعمان رأي المعتصمين حول عدم قدرة
النظام على فض الاعتصام بالقوة، حيث إنه فشل في المحاولة الأولى لفض الاعتصام من
ناحية المنصة رغم أنه قتل حوالي مائة معتصم وقتها، كما أن تجربة الاعتصام في ميدان
التحرير في قلب القاهرة خلال أيام الثورة كانت مطمئنة لمعتصمي رابعة بأن النظام لا
يجرؤ على فض هذه الأعداد الضخمة بالقوة.
يمكن تفهم انتقادات البعض لعدم وجود خطط بديلة
حال الفض، وهو ما أوفع المتظاهرين في ربكة في الأيام التالية، ويمكن تفهم وجهات
نظر البعض لعدم تقدير الموقف بصورة حقيقية عقب الفض مباشرة ومن ثم تحديد خطط العمل
المناسبة، ولكن لا يمكن أبدا توجيه اللوم للمعتصمين في رابعة الذين خرجوا بسلمية
دفاعا عن حريتهم وكرامتهم كما تفعل كل الشعوب الباحثة عن الحرية مثل الصينيين
الذين قتلوا بالمئات أيضا في الميدان السماوي في بكين عام 1989، وما اعتصام
القيادة العامة في السودان عنا ببعيد، فلو كانت الحسبة تعتمد على حجم قوتك مقابل
قوة الخصم في معركة الحرية فما كان لمعتصمي السودان أن يرموا بأنفسهم أيضا إلى
التهلكة ويضعوا انفسهم في فم الأسد، ورغم أن اعتصام القيادة في السودان تم فضه
بطريقة بشعة أيضا وخلف عشرات الشهداء إلا أن المعتصمين حققوا هدفهم أو أغلبه في
النهاية عبر إجبار العسكر على التنازل عن السلطة تدريجيا خلال مرحلة انتقالية
تنتهي بديمقراطية كاملة.
ولماذا نذهب بعيدا ألم يستشهد في ثورة 25 يناير
عدد مماثل لشهداء رابعة تقريبا، فلماذا لم تظهر عبارة قتلهم من أخرجهم أو قتلهم ائتلاف
شباب الثورة مثلا حينها؟ ببساطة لأن دماءهم لم تذهب هدرا بل حققت نصرا ولو مؤقتا،
أما دماء شهداء رابعة فلم تحقق المستهدف بشكل عاجل وهو استعادة الشرعية، لكنها
بالتأكيد لن تذهب هدرا، بل هي لبنات صلبة في بناء الحرية الذي قام في كل الدنيا
على مثل هذه التضحيات، وحين يتحقق النصر على الاستبداد، وحين تزول العصابة
المنقلبة سيذكر الجميع في مصر وخارجها شهداء رابعة بأنهم كانوا أحد الأسباب
الرئيسية وراء ذلك، وسيتم تكريمهم في كل قرية وكفر وفي كل ميدان فاضت فيه أرواحهم،
وستزين أسماؤهم المنشآت الحكومية من مدارس ومستشفيات ومراكز شاب وكذا الميادين والطرق
والشوارع، ويومئذ يفرح المصريون بنصر الله.