كتب

الانتقال الديمقراطي في الجزائر أصبح ضرورة وليس خيارا

خبراء: تغيير نظام بوتفليقة والتحول إلى نظام جديد لا يتحققان برموز النظام القديم (الأناضول)

الكتاب: نهاية زمن بوتفليقة- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر
الكاتب: رياض الصيداوي
الناشر: المركزالعربي للدراسات السياسية والاجتماعية، تونس- جنيف 2019
(264 صفحة من الحجم المتوسط).

هل تملك السلطة الحاكمة في الجزائر إمكانية للالتفاف على مطالب الحراك الشعبي المتصاعد للمطالبة بالانتقال الديمقراطي؟ ماذا أعد قياديو الحراك الشعبي لمستقبل الجزائر السياسي؟ وماذا عن دور النخبة السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وقبل ذلك المؤسسة العسكرية؟

الباحث التونسي توفيق المديني، وفي الجزء الثالث والأخير من عرضه لكتاب الباحث رياض صيداوي عن نهاية زمن بوتفليقة، يناقش سيناريوهات المستقبل السياسي للجزائر في ضوء ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي.

 

سيناريوهات الخروج من الأزمة

في سيناريوهات المستقبل، يناقش الباحث الصيداوي في نهاية كتابه، اثنين من هذه السيناريوهات، وهي كالآتي:

1 ـ عودة النظام إلى النهج التسلطي، ويستبعد الباحث مثل هذا السيناريو لأن الشعب الجزائري يرفض مقايضة الاستقرار بنوع من عودة التسلطية السياسية الأبوية.

2 ـ ديمقرطية الحياة السياسية، يقول الصيداوي: "إن الإشكال المطروح في الجزائر يتمثل في عدم وجود ثقافة التداول الديمقراطي على السلطة لدى الأحزاب في الجزائر أو حتى في كل أرجاء الوطن العربي. نلاحظ باستمرار الحضور القوي للفكر الكلياني، من قومي عربي أو وطني أو ماركسي، أو إسلامي.. إن غياب ديمقراطيين حقيقيين في السلطة أوال معارضة يهدد مباشرة التطلعات الشعبية نحو حياة ديمقراطية فاعلة" (ص 253 من الكتاب).

في الوقت الذي يصر فيه الحراك الشعبي الجزائري على التغيير الشامل وذهاب كل من كان متورطا مع النظام السابق، وتحقيق التحول الديمقراطي عبر تسليم  أمور المرحلة الانتقالية إلى هيئة تشرف على الانتخابات، نجد بالمقابل أن الرجل القوي الذي يقود الجيش الجزائري الجنرال القايد صالح، وأصبح الرقم واحد في صناعة القرار السياسي وتصويب البوصلة في الاتجاه الذي يراه سليماً، لا يتناغم مع طموحات الحراك، ويُصِرُّ على الحَلِّ الدستوري المتمثل في إشراف الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح بالتحضير لانتخابات رئاسية في 4 تموز/ يوليو المقبل، متناسياً أنه لا يستطيع حل الأزمة بأسباب وجودها أو برجالات صالت وجالت في الساحة السياسية الجزائرية لأكثر من عقدين من الزمن وأوصلت الجزائر إلى ما هي عليه اليوم، علماً بأنّ الرئيس المؤقت الحالي عبد القادر بن صالح كان قبل شهرين ضمن التحالف الرئاسي يعمل على فرض الرئيس المتنحي بوتفليقة لولاية خامسة. 

 

بين الجزائر وأمريكا اللاتينية


ويُصِرُّ الحراك الشعبي على تحقيق التحول الديمقراطي الراديكالي في الجزائر، ومقارنة مع أمريكا اللاتينية يمكننا القول إنّ ما حدث في الجزائر، كان التطور الطبيعي لما بعد ثورة التحرر الوطني (1954-1962)، والدكتاتورية، هو ما عرفته بلدان أمريكا اللاتينية في "المراحل الانتقالية من الحكم الدكتاتوري" إلى مرحلة التحول نحو الديمقراطية. فالمراحل التي مرت بها الأنظمة في أمريكا اللاتينية، في تحولها إلى الديمقراطية، على شكل "احتلال، ثورة وتحرر، أنظمة دكتاتورية عادت للخضوع للهيمنة الاستعمارية الجديدة "الأمريكية"، مرحلة انتقالية للتحول للديمقراطية، أنظمة ديمقراطية". 

وتبدو هذه المراحل متطابقة تماما مع مراحل النظام الجزائري الذي عرف التحرر والاستقلال ليعود للخضوع للدكتاتورية الوطنية الخاضعة بدورها للقوى الاستعمارية المهيمنة الجديدة "الأمريكية والفرنسية"، إلا أن ما لم تكن تفهمه الدكتاتورية الجزائرية، أنه ليس بإمكانها الاستمرار إلى الأبد، ولذلك فهي لم تستجب لقوى الحراك الشعبي لصياغة مرحلة انتقالية للديمقراطية، كضرورة تاريخية كان يجب أن تحدث.

المتابعون للشأن الجزائري يرون أنّ الفشل في تحقيق الانتقال السلس للسلطة في الجزائر سيجلب الخراب لهذا البلد العربي الكبير. والجيش مطالب لتجنب الانهيار في الجزائر أن يكون عنصراً مهما لتطهير النظام السابق من رموز الفساد، بتشجيع أنماط سياسية جديدة لتطوير النظام السياسي، ما يمكن في النهاية من الانتقال الديمقراطي للسلطة. ولم يفهم الجيش الجزائري تلك الحقيقة، أنّ تغيير نظام بوتفليقة والتحول إلى نظام جديد لا يتحققان برموز النظام القديم، بل عبر كسر حالة الجمود والإحباط السياسي، وتشجيع وتبني أنماط سياسية جديدة تقود في النهاية للانتقال الديمقراطي، بوصفها حاجة للشعب الجزائري لتجنب الخراب أيضاً.

غير أن هذه المرحلة من "التحول الديمقراطي" حساسة جدّاً، وأي ما سيتم فيها هو ما سيحدد ملامح المرحلة القادمة، وعما إذا كان التحول الديمقراطي ممكناً بدون الدخول في "الفوضى" أو قابليته للاستمرار بدون أن ينتكس.

هل هناك استراتيجية للخروج من الانسداد؟

هناك الكثير من علماء السياسة والخبراء يعتقدون بأن طريقة الانتقال الديمقراطي تلعب دوراً مهما في تحديد مصير توطيد الديمقراطية في الجزائر، لا سيما إن طريقة الانتقال الديمقراطي تحدد السياق الذي تحدث فيه التفاعلات الاستراتيجية، والذي بدوره يحدد ما إذا كان سينتج ديمقراطية سياسية، والبقاء على قيد الحياة.  فإسقاط النظام الجزائري ليس بصعوبة هذه المرحلة الانتقالية التي تمثل تحدّياً كبيراً للنخبتين السياسيتين الحاكمة والمعارضة في الجزائر.

ويشير المحللون للشأن الجزائري إلى تحديات إضافية تسببه الصراعات السياسية وطبيعة المؤسسة العسكرية أمام النخبة الحاكمة والمعارضة لصياغة مرحلة "التحول الديمقراطي"، حيث يجدون أنّ هناك ارتباطًا بين نماذج تفكك النظام، والأنماط المختلفة من التحول المرتبطة، بالصراعات القائمة، وواقع المعارضة وبرامجها من جهة، وطبيعة المؤسسة العسكرية، والأجنحة التواقة للإصلاح من جهة أخرى في النظام ذاته. 

فما يخيف الحراك الشعبي الجزائري اليوم هو تنامي وتصاعد الدور السياسي للمؤسسة العسكرية واختفاء دور الطبقة السياسية أو النخبة من المشهد السياسي، والسبب في ذلك أنّ المعارضة الجزائرية لا تمتلك مشروعاً وطنياً حقيقياً لتحقيق التحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة الوطنية. وهذا ما يجعل العديد من الخبراء السياسيين في عملية الانتقال الديمقراطي يعتقدون أن الحراك الجزائري في حقيقة الأمر لم يحقق الكثير، ولم يفكك النظام إلى حدِّ الساعة، حيث إنّ أركان هذا الأخير ما زالت قائمة وموجودة وما زالت تسير البلاد وتستعد لإدارة وتنظيم الانتخابات الرئاسية القادمة. فعملية التحول من نظام دكتاتوري إلى نظام سياسي جديد لا يتوقف على الحراك الشعبي فحسب، ولا على المعارضة السياسية العاجزة عن تقديم البديل الوطني الديمقراطي، بل من خلال الجلوس حول طاولة الحوار الوطني مع الجناح الإصلاحي داخل النظام الجزائري للبحث عن الحلول والسبل التي تخرج الجزائر إلى بر الأمان بعيداً عن المصالح الضيقة، وتمجيداً للمصلحة الوطنية الجزائرية.

 

من المهم للمعارضة الجزائرية أن لا تنسى أنّ الإصلاحيين ليسوا بالضرورة ليبراليين أو ديمقراطيين


إنّ كافة عمليات "الانتقال الديمقراطي" تصبح ممكنة بسبب الانقسام بين المتشددين والإصلاحيين في نظام الحكم الجزائري، فقد يكون المتشددون انتهازيين يعارضون اعتماد الديمقراطية في البلاد لمجرد كونهم يريدون التمسك بالسلطة والصلاحيات والامتيازات، أو أنهم يعارضون اعتمادها على أسس مبدئية، أما الإصلاحيون فيعتقدون بوجه عام أنّ نظام الحكم يحتاج إلى درجة معينة أو شكل معين من الشرعية الانتخابية في المستقبل، ولذلك فإنّهم يناصرون الشروع في الإصلاحات السياسية في الوقت الذي يكون فيه نظام الحكم لا يزال قادراً قبل أن ينهار بسبب جموده. ومن المهم للمعارضة الجزائرية أن لا تنسى أنّ الإصلاحيين ليسوا بالضرورة ليبراليين أو ديمقراطيين، بدلاً من ذلك فإنّهم أفراد يفهمون أنّ البلاد لا تستطيع أن تبقى جامدة، وأنّ التكيف من خلال الإصلاحات السياسية العميقة أصبح ضرورياً.

تؤكد ديناميكية السيرورة الديمقراطية على أهمية كفاءة النخب السياسية الجزائرية في إيصال هذا "التحول الديمقراطي" إلى هدفه، بدلا من الدخول في "الفوضى" أو استبدال النظام السلطوي بنظام سلطوي آخر. فهل يمثل الحراك الشعبي موجة جديدة في عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي في الجزائر؟ هل أتى دور الجزائر لتستنشق حصّتها من الديمقراطية في نظرة حتمية إلى التطورات التاريخية العالمية؟ أي أن ما من هروب من شكل من أشكال "نهاية التاريخ" كما عرضه الكاتب الأمريكي ـ الياباني فرنسيس فوكوياما من خلال عدم الإفلات من روحية الأنظمة السياسية، كما وضعها الفكر السياسي الغربي في التاريخ المعاصر؟

هذا، وكان الأكاديميون قد بحثوا إشكالية النظم العربية من ناحية "حالة الاستثناء" التي كانت منغمسة فيها لعقود وعقود، حتى إن بعض المفكرين بدأوا يتساءلون ما إذا كان الوطن العربي قد شهد "نهاية اللحظة الديمقراطية" في ظل مقاومة الدول العربية ضد عملية التحرر السياسي واحترام حقوق الإنسان، فنتذكر سؤال الباحث اللبناني غسان سلامة قبل نحو 20 عاماً "أين هم الديمقراطيون العرب". وهنا فتح الحراك الجزائري آفاقاً جديدة من حيث إمكانية الخروج من مستنقع الاستبداد والدخول في عصر الديمقراطية.

 

شروط الانتقال الديمقراطي

إن ما يتطلع إليه الشعب الجزائري في محاولة إعادة بناء دولة الحق والقانون في الجزائر، يقتضي الإمساك بالحلقات الأساسية في هذا المشروع الوطني الديمقراطي.

أولاً ـ في الجزائر التي تعاني نقصاً في الاندماج الوطني، وغياباً للمؤسساتية السياسية الفاعلة، وانعداماً للمشاركة السياسية من جانب الشعب، ووصول السلطة السياسية فيها إلى درجة عالية من الاستبداد المحدث، يجب إعادة الاعتبار لبناء دولة الحق والقانون، والتأكيد عليها في مواجهة سلطة "العصابة"، وهذا يتطلب من قوى الحراك الشعبي أن تمتلك مشروعاً على درجة عالية من الراديكالية من أجل إقامة الدولة الوطنية الحديثة الملتزمة بحكم القانون، حيث يعمل الحكام فيها لأجل المصلحة العامة، ولمصلحة النظام العام.

وتكون هذه الدولة متمايزة عن الدولة التسلطية الجزائرية السائدة، بمستوى عال من المشاركة السياسية، وتماسك المؤسسات الجديدة في المجتمع القادر على التكيف مع متطلبات السياسة العصرية التي تقتضي وجود أحزاب سياسية حديثة تقوم بعملية تسييس الشعب، وترسي بنياناً ديمقراطياً للممارسة السياسية، وتحقق التواصل الديمقراطي الحقيقي بين المجتمع والدولة، وهذا التواصل يجد تجسيداً له في مؤسسات ديمقراطية فاعلة تضمن استمرار هذا التواصل عبر ضمان المشاركة السياسية وتحقيق الاستقرار السياسي، وتمنع تحول النظام السياسي إلى مجرد غطاء شكلي يقنع الاستبداد والفساد.

ثانياً ـ مقاومة جميع أشكال الامتيازات التي نجمت عن نظام الحكم التسلطي، وقسمت المجتمع إلى مجتمع السلطة صاحب الامتيازات المتباينة، ومجتمع الناس المهمشين المحرومين. وهذا يعني العمل على تحرير الفرد من هيمنة السلطة الشمولية، وأدوات هذا التحرير هي أدوات معرفية ـ فكرية، أولاً، وسياسية ثانياً، بالتلازم.

ثالثاً ـ تحرير الأفراد من أطر المتحدات الاجتماعية التقليدية، وإطلاقها في الفضاء الاجتماعي العام كخطوة أولية لدمجهم في الفضاء السياسي العام للمجتمع، وهذا المسعى مرتبط أوثق الارتباط بعملية الاندماج الوطني التي هي عملية مزدوجة تعني تهديم الأطر الاجتماعية ما قبل الوطنية وإعادة بنائها على أسس مواطنية حديثة علمانية وديمقراطية.

رابعاً ـ استقلالية الفكر والثقافة عن السياسة بالمعنى الضيق للكلمة على الرغم من وحدتهما الجدلية، ذلك لأن عملية تحديث المجتمع تبدأ بتحديث الفكر والسياسة، وعقلنتهما، وديمقراطيتهما. وعبء هذه العملية يقع بصورة أساسية على كاهل المثقفين وكتلة الانتلجنسيا، التي تتولى صياغة إيديولوجيا تنسجم في آن معاً مع بناء دولة الحق والقانون والمجتمع المدني بالتلازم، ومع سيرورة تقدم المجتمع الجزائري نحو التحديث الشامل والتحرر من إرث المجتمع التقليدي.

خامساً ـ استقلالية مؤسسات المجتمع المدني ولاسيما النقابات والجمعيات، والاتحادات المهنية والوظيفية، والأحزاب السياسية، والصحافة، ولجان حقوق الإنسان، وأجهزة الإعلام، ودور العبادة، عن هيمنة السلطة.

سادساً ـ فصل السلطات، ومركزية السلطة التشريعية، ورقابتها على السلطتين التنفيذية والقضائية. السلطة التشريعية التي تسن القوانين وتعد لها وتطورها، هي التعبير المباشر عن الكلية الاجتماعية، وهي من هذه الزاوية الدولة السياسية ومرجعية السلطتين التنفيذية والقضائية، والمشاركة فيها هي مشاركة في الدولة، وبها يحقق الفرد وجوده السياسي بصفته عضواً في الدولة.

سابعاً ـ تحرير المرأة ومساواتها بالرجل.

ثامناً ـ توفير الشروط الموضوعية اللازمة لإعادة بناء الاقتصاد الجزائري على أسس وطنية توفر له فرص الفكاك من هيمنة المراكز الرأسمالية الاحتكارية عليه، وربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية والبشرية والنهضة الفكرية والعلمية، في إطار تحقيق الشراكة الإقليمية المغاربية، بدلاً من الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وهذا يؤدي موضوعياً إلى نشوء سوق مغاربية قادرة على إقامة علاقات ندية أو متوازنة مع التكتلات الاقتصادية الإقليمية ومع السوق العالمية بوجه عام. إذاً فعملية الوحدة المغاربية، مدخلها الواقعي هو تحويل الدولة القطرية ديمقراطياً وقومياً.

تاسعاً ـ التأكيد على عروبة الجزائر بوصفها الخيار الأيديولوجي والمشروع الثقافي للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي.  كما أن الاستثمار في العروبة مقترن بالتزام الدولة الوطنية الجزائرية بلعب دور إقليمي فاعل، والاندماج في المشروع القومي الديمقراطي المتصادم مع المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، من أجل تحرير فلسطين، وكل الأراضي العربية المحتلة.

ومن دون هذه الشروط مجتمعة، وقبل توافرها ربما لا يكون الوقت قد حان لإطلاق سيرورة إعادة بناء الجمهورية الثانية الجزائرية، وتوحيد المغرب العربي ضمن سياق الثورة القومية الديمقراطية. هذه الثورة كاحتمال تاريخي قائم، لا تزال بكل منطوياتها الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية على جدول أعمال الأمة.

 

إقرأ أيضا: الحراك الشعبي واستعصاء الانتقال الديمقراطي في الجزائر

إقرأ أيضا: الجزائر.. صراع الأجنحة والحرب على الفساد أبرز عناوين المرحلة