أعرف أنني سأخوض في موضوع شائك للغاية، وأن كثيرا ممن ينتمون للحركات الإسلامية لديهم قناعات مسلّم بها في مسألة
التمكين؛ باعتباره هدفا لا مناص عنه.. لكني ألتمس من القراء الأعزاء أن يتمهلوا قليلا في قراءة عرضي الخاص المتواضع، وأن يعرضوه على الكتاب والسنة وعلى عقولهم، قبل أن يصمّوا آذانهم عنه.
وأنا على علم بأنني لست من أهل العلم، ولكني باحث عنه، وأستميحكم عذرا في أن أنقل عن أهل العلم بعض ما كتبوه، في طريقي لعرض وجهة نظري، وأن ينتظروا قراءة السلسلة بكاملها لفهم المقصود.
مصطلح التمكين لدين الله، بمعنى السلطة والغلبة والقهر، هو مصطلح جديد نسبيا في قاموس العمل الإسلامي، وإن كان مصطلحا قرآنيا ورد في أكثر من موضع في كتاب الله. تمت عدة دراسات وأبحاث في مسألة التمكين ومتطلباته وشروطه، وكان أبرز هذه الدراسات هي:
1- المسلمون بين الأزمة والنهضة، للدكتور عبد الحي الفرماوي.
2- فقه
النصر والتمكين، للدكتور علي محمد الصلابي.
3- التمكين الحضاري في المنظور القرآني: دراسة معرفية، لعبد الله محمد الأمين النعيم.
4- مراحل التمكين: دراسة قرآنية.. وسنة التمكين في ضوء القرآن الكريم للدكتور. لرمضان خميس الغريب.
وكان الشيء الجامع لهذه الدراسات على حد علمي؛ هي أنها ربطت بين التمكين ومرادفات أخرى وردت في القرآن الكريم، مثل النصر والغلبة والاستخلاف، وهو في نظري الشخصي وجهة نظر معتبرة، لكني اختلف معها.
لقد تعلمنا لعقود أن النصر هو الثبات على الدين حتى نلقى الله، ومن ثم انتصر أصحاب الأخدود وانتصر الراهب والغلام، وانتصر كل رسل الله مصداقا لقوله تعالى: "إنَّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد". ونحن نعلم أن معظم الرسل قُتلوا أو صلبوا أو أخرجوا من ديارهم "قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتُم مؤمنين".. بل جاءالنصر أحيانا ليعبر عن النجاة من الظالمين دون تحقيق قهر عليهم، كما قال تعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا". واستخدم القرآن لفظ الغلبة أحيانا لنفس مدلول الثبات، كما قال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي". وجاء لفظ النصر والغلبة أحيانا ليدل علي قهر العدو كما قال تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة"، وقوله: "إذا جاء نصر الله والفتح"، وقوله: "فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين"، وقوله: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله".
وجاء النصر أحيانا مرتبطا بأداء المؤمن، حيث أن واجب المؤمن أن يثبت على الحق بداية، وأوجب الله على نفسه أن ينصره انتهاء، وأن يديم عليه الثبات على الحق. وهذا يبدو واضحا في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". وقد يكون فعلا محضا من المؤمنين، كقوله تعالى: "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه".
أما لفظ التمكين في القران فلم يأت إلا بمعنى الظفر والسلطة والقدرة، كما قال سبحانه: "ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون". ولقد ورد هذا اللفظ مكن 13 مرة في القرآن وإذا أضفت إليه لفظ "مكين" تصبح 18 مرة. والغريب أن هذا اللفظ خصوصا لم يأت إلا منسوبا لفعل عُلوي إرادي واحد من الله عز وجل، دون أن يكون للبشر فيه يد. ووردت لفظة "مكن" بصيغة الماضي (مكنا، مكناهم، مكناكم، أمكن)، ووردت بصيغة المضارع (نمكن) والمستقبل (وليمكنن).
بمعنى أوضح، التمكين بمعناه التمكن من السلطة منحة ربانية يعطيها الله للمسلم والكافر والفاسق والظالم. التمكين هو الملك الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"، فيكون الحاكم الممكن ظالما ليبتلي الله المؤمنين بالضراء، ويكون الحاكم عادلا ليبتلي الله المؤمنين بالسراء (ليبلوَ بعضكم ببعض). ولا يشترط أن تكون الفئة المؤمنة مقصّرة ليولي الله عليهم حاكما ظالما، وإلا أصبح جل الأنبياء وأتباعهم مقصرين. ولقد كان النجاشي العادل حاكما على دولة كافرة لا تستحق أن يكون هذا أميرها. ومكّن الله مبارك في مصر 30 عاما ومكّن القذافي في ليبيا 42 عاما، فهل يقول عاقل إن معظم الليبين والمصريين كانوا يستحقون هؤلاء الحكام؟
(يستكمل)