لا تزال مذبحة
رابعة والنهضة عالقة في ذهني، ويأبى وجداني أن يغادرها، فلم تستطع السنين الخمس التي مرت عليها أن تطويها بين صفحاتها، فهي صفحة غير كل الصفحات، صفحة لا مثيل لها في التاريخ
المصري،
صفحة سوداء غامق لونها يشع بالسواد على كل من حولها، صفحة مات فيها الضمير المصري وشُيع أمام العالم أجمع مات ضمير من خطط ودبّر هذه المذبحة، ومن علم بها ووافق عليها.. مات ضمير الضباط الذين نفذوا هذه المذبحة وضغطوا على الزناد وقتلوا إخوة لهم في الوطن؛ عُزّلا بلا سلاح أو حتى ساتر يحميهم من سيل الرصاصات المنهمرة عليهم كسيل المطر.. مات ضمير المصريين الذين حرضوا على قتلهم ونزلوا في الشوارع شامتين في الضحايا، يرقصون ويغنون على جثثهم المحترقة أغنية "تسلم الأيادي".. مات ضمير الجالسين أمام التلفاز وهم يرون أصعدة النار والدخان تملأ السماء، والأرض غارقة في الدماء، وجثث الأبرياء تغطي المكان، ولا يحركون ساكناً!! بل أستطيع القول: يوم مات فيه الضمير الإنساني على مستوى العالم، فقد كانت بيانات الإدانة والشجب لهذه المجزرة (مجزرة القرن) خجولة تكاد لا تذكر، في الوقت الذي أيدها منذ أول لحظة ملك السعودية الراحل عبد الله، في بيان رسمي صادر عن المملكة. وكيف لا يؤيدها وهو راعي انقلاب 3 تموز/ يوليو العسكرى وداعمه الأساسي والمحرض الأول عليه؟!
كيف أنسى
أبشع مجزرة في التاريخ الحديث؟ آلاف القتلى في ساعات معدودات بأيدى أبناء الوطن! كيف أنسى الخديعة الكبرى التي روجوا لها، والتي أطلقوا عليها "الممر الآمن"، والذي كان بمثابة الشباك الذي اصطادوا بها المعتصمين العُزل لقتلهم؟! كيف أنسى نزعهم الوحشى للأجهزة الطبية المركبة للمصابين الذين يحاولون إسعافهم في المستشفى الميداني؟ كيف أنسى حرقهم للمستشفى الميداني لتُحرق جثامين الشهداء بداخله؟ كيف أنسى حرقهم للمسجد نفسه بكل غل؟! كيف أنسى الجرافات التي حملت جثث الأبرياء لتلقي بها في القمامة؟ كيف أنسى الأمخاخ التي خرجت من رؤوس أصحابها؟ كيف أنسى صراخ الأطفال والرعب والفزع الذي أصابهم من الرصاص وألسنة اللهب المتطايرة؟ كيف أنسى الأم المسنة التي تحتضن أبنها وهي تبكي وتقول: "قتلوك ما يعرفوش أنك سندي من بعد أبوك الله يرحمه؟ كيف أنسى الطفل الصغير الواقف أمام جثمان أمه ويقول لها: "أستحلفك بالله أن تصحي"؟! كيف أنسى... أو أنسى... أو أنسى كل هذه المآسي وغيرها التي يشيب لها الولدان؟! لقد توقف بي الزمن عند هذا اليوم الأسود في تاريخ مصر، والذي لم تشهد مجزرة مثلها من قبل عبر تاريخها الحديث، إنها حقاً مجزرة القرن!!
مجزرة القرن التي حدثت يوم 14 آب/ أغسطس عام 2013 لا يزال مرتكبوها (تخطيطاً وتنفيذاً) أحياءً ينعمون بالرفاهية ورغد العيش، ولم يقدموا للعدالة، على الرغم أن المجزرة كانت على مرأى ومسمع العالم أجمع، ومرتكبيها والجناة متلبسون بجريمتهم ويعرفهم القاصي والداني، بينما من عجائب القضاء المصري الشامخ أنه حاكم مَن تبقى حياً في اعتصام رابعة، وأصدر ضدهم أحكاما بالإعدام. وهكذا يُجهز القضاء على من فلت من المجزرة، لتسيل دماؤهم من على منصة القضاء!
ورغم
مرور خمس سنوات على مجزرة رابعة والنهضة، إلا أن الكثير من أسرارها لا يزال غامضاً لم يكشفه أحد بعد، حتى أن الدكتور محمد البرادعي، والذي كان نائباً للرئيس الصوري الذي عينه قائد الانقلاب ليحكم مصر من ورائه، لم يفصح عما يعرفه في الغرف المغلقة التي كان يتم فيها تحضير المجزرة، واكتفى بتقديم استقالته عقب حدوثها، مع إصدار بيان يدينها، وحزم حقائبه وغادر بلا عودة، مكتفياً ببعض التغريدات على فترات متباعدة، وعدد من اللقاءات التلفزيونية التي يبرئ نفسه فيها من المجزرة، ولكنه لم يشر إلى مرتكبيها وما دار وراء الكواليس، على الرغم من أن شهادة منه يمكن أن يحرك بها دعوى جنائية في المحاكم الدولية لما له من ثقل سياسي دولي، ولكنه لم يتحرك، ولم يتخذ أي خطوة تريح ضميره إذا كان حقاً يبرئ نفسه منها! وخاصة أن وزير الخارجية القطري السابق ووزير الدفاع الحالي، خالد بن محمد العطية، كان له تصريح عقب المجزرة مباشرة في لقاء تلفزيوني، قال فيه إنه "كانت هناك مفاوضات مع الجانبين، وأن الدكتور البرادعي كان مفوضاً من جانب سلطة الانقلاب للتفاوض، وأنهم كانوا على مقربة من الوصول لحل سلمي حقناً للدماء، ولكنه فوجئ بعدها بيوم بهذه المجزرة"! وكرر نفس الكلام منذ شهور قليلة في مقابلة أخرى. إذن مَن الذي عرقل المفاوضات وقطع الطريق على الحل السلمي، وأرادها مجزرة يستعرض فيها قوته وجبروته لإرسال رسالة رعب وإرهاب للطرف الآخر، بل للمصريين جميعاً مفادها أي خروج علينا أو تجمع ضدنا سيكون هذا هو مصيركم؟!
سمعنا كلاماً كثيراً عقب المجزرة مباشرة عن دعاوى قضائية ستقام في محاكم دولية ضد مرتكبي المجزرة، وخاصة أن منظمة "
هيومن رايتس واتش" قد حددت أسماء الجناه، وقد وكلت جماعة الإخوان المسلمين أحد المكاتب القانونية الكبرى في بريطانيا لرفع الدعوى، ولكن قيل إنها رُفضت شكلاً ثم قيل إنهم سيرفعونها في بلد آخر، لكن لم نسمع بعد ذلك أي شيء عنها، والخوف كل الخوف أن تطوى في طي النسيان، وخاصة أن الدولة تريد طمس كل آثارها ومعالمها. وما قانون الحصانة للضباط الذي أصدره مجلس النواب مؤخراً إلا خوفاً من المساءلة القضائية مستقبلاً، وخاصة أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. فالفقرة الأولى من المادة السابعة من نظام روما المؤسس للمحاكم الجنائية تصنف ما حدث على أنه جريمة ضد الإنسانية، والمادة الخامسة عشر من نفس الاتفاقية توجب على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مباشرة التحقيق في مثل هذه الجرائم. ولكن للأسف، فإن المحكمة الجنائية الدولية قد رفضت الطلب المقدم من عدد من المحامين بالنظر في المجزرة؛ لأن الطلب غير مقدم نيابة عن الدولة المصرية، ولأن مصر ليست طرفاً في نظام روما الأساسي الذي يشمل المحكمة الجنائية الدولية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المرتكبة على أراضي الدول الأطراف أو من قبل مواطني دولة طرف، لذلك فإن نظر المحكمة الجنائية في القضايا المتعلقة بمصر لا يتم إلا بناءً على قبول الدولة باختصاص المحكمة أو إحالة من مجلس الأمن الدولي، مثلما حدث في الوضع في دارفور. ومن المفارقة أن الذي لم يوافق على التوقيع على نظام روما هو الرئيس محمد مرسي!
منذ أشهر، حاولت بعض المنظمات الحقوقية إعادة فتح الملف وتحريكه دولياً عن طريق مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وإذا نجحت في ذلك، فسوف يفتح تحقيق دولي محايد بشأن تلك المجزرة، ومحاكمة الجناه الحقيقيين..
ولا بد من توثيق كل ما حدث في مجزرة رابعة صوتاً وصورة وشهادات الشهود الذين نجوا منها؛وحفظها في أرشيف عالمي يطّلع عليه العالم كله، لتظل الذكرى حية في وجدان الشعب وفي الضمير العالمي ولا تدخل دائرة النسيان. ويا حبذا لو استطعنا جعل يوم 14 آب/ أغسطس يوماً عالمياً لضحايا المظاهرات السلمية..
يحضرني مقولة للكاتب الراحل "نجيب سرور": "إذا تاهت حقوق الأموات فلا حقوق للأحياء، وإذا غاب القصاص وهان الدم هان الوطن".
رابعة العدوية ألم في الصدور، وجرح عميق في النفوس لا يزال ينزف؛ لأن القصاص من الجناه لم يحدث بعد، وقد قال الله سبحانه وتعالى: "ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب".
وأخيرا، فإن رابعة كانت الصرخة الأخيرة للمقاومة ضد المشروع الإقليمي لقتل ثورات الربيع العربي، وعلى رأسها ثورة 25 يناير، والتي أخرسوها برصاصاتهم القاتلة ليقضوا على أحلام الشعوب العربية بالحرية والكرامة والعدل، وليعيدوها لسيرتها الأولى، حيث العبودية والقهر والمذلة والفقر! رابعة العدوية كانت المدينة الفاضلة التي لم يريدوا أن نعيش في كنفها وتحت ظلالها، لذلك محوها وقضوا عليها.. حتى اسمها يثير الرعب في نفوسهم، فغيروا اسم الميدان وأطلقوا عليه اسم النائب العام المزور "هشام بركات"؛ الذي وقع على قرار الفض وسمح بهذه المجزرة!!
ملحوظة: كتبت هذا المقال وكأن المجزرة حدثت للتو، فكما قلت لحضراتكم لقد توقف بي الزمن عند هذه اللحظة، رغم أنني لا أعرف أحد من الضخايا من قريب أو من بعيد، ولم أذهب لميدان رابعة، ولكن المجزرة ساكنة في قلبي!!