كتاب عربي 21

الجمعة السوداء في تركيا

1300x600

شهدت تركيا، أمس الجمعة، انهيارا غير مسبوق في سعر صرف العملة المحليّة -الليرة التركية- لا سيما أمام الدولار الأمريكي. تقف خلف هذا التدهور مجموعة معقدّة ومتداخلة من العوامل المتراكمة خلال السنوات القليلة الماضية، والتي أدّت في نهاية المطاف إلى حصول صدمة جرّاء هذا التدهور السريع والكبير لقيمة الليرة التركية.

استعراض هذه العوامل مهم من دون شك، لكن الأهم يكمن في ضرورة تسليط الضوء على بعض الملاحظات أو الحقائق المتعلقة بها، والتي لا تزال ربما محل تشكيك أو استفهام من قبل شريحة واسعة من القراء. 

الحقيقة الأولى هي أن ما يجري لا يتعلق بالاقتصاد فقط، وإنما بالسياسية أيضا وهذا أمر مقطوع به من دون شك. بمعنى آخر، فان تدهور سعر العملة المحلية لا يعود إلى أسباب صرف اقتصادية أو مالية، وإنما إلى أسباب سياسية كذلك، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي أيضا. يأتي في طليعة الأسباب السياسية الداخلية الصراع السياسي الذي كان قائما في السنوات الأخيرة داخل الحكومة التركية، والذي تحدثنا عنه بالتفصيل سابقا، بين الاتجاه الذي يرى التركيز على تحقيق النمو الاقتصادي وتخفيض سعر الفائدة على حساب المؤشرات الأخرى، والاتجاه المعاكس الذي يرى أن مثل هذه النظرية مناقضة لأساسيات الاقتصاد وتتجاهل حقائق السوق وسيكون لها تداعيات سلبية.

انتهت المعركة السياسية بانتصار الفريق الأوّل المتمثّل بالرئيس أردوغان، لكن الوقائع اليوم على أرض الواقع تنصف الفريق الثاني الذي أصبح خارج المعادلة الآن، والذي لطالما حذّر من نتيجة مماثلة لما جرى بالأمس. لا يمكن لأحد من الساسة الأتراك أن يدّعي انه لم يكن يعلم أنّ الوضع سيصل إلى ما وصل إليه اليوم. سبب أساسي من أسباب تقديم الانتخابات الأخيرة قبل موعدها كان يتمثل في محاولة استباق هذه الأزمة التي تقع اليوم. وبهذا المعنى، فانّ التعنّت السياسي بخصوص التوجهات الاقتصادية نجم عنه أضرار انعكست بالتأكيد على المواطن.

أمّا الأسباب السياسية الخارجية، فهي تكمن بالدرجة الأولى في الصراع الدائر مؤخرا مع الولايات المتّحدة. وبغض النظر عمّا نعتقده في هذا الصدد، أو نؤمن به، فان شريحة واسعة من الشعب التركي بالإضافة إلى المسؤولين الرسميين يؤمنون حقيقة بوجود حرب اقتصادية تشنّ ضد بلادهم. تغريدة الرئيس الأمريكي ترامب الأخيرة والتي نُشرت في الوقت الذي كان فيه وزير الخزانة والمالية التركي يطرح رؤيته لإدارة الاقتصاد في المرحلة القادمة، جاءت لتقضي على أي آمل بالتشكيك بانطلاق الحرب الاقتصادية رسميا. فرض رسوم جمركية على صادرت تركيا من الألمنيوم والصلب هي إحدى فصول هذه المعركة التي تمّ التمهيد لها بعقوبات مالية وتقنية، ومن المنتظر أن تشمل المزيد لاحقا.

الحقيقة الثانية هي أن التصريحات العلنية والخطابات الشعبوية لا تعالج واقعا حاصلاُ. ورغم أن كثيرا من الخطاب الشعبوي موجّه للاستهلاك الداخلي فقط ولمحاولة تهيئة الناس للتأقلم مع الوضع الجديد، إلا أن الخارج بدأ منذ فترة يتابع باستمرار هذا التصريحات والخُطب ويبثها على أنها رسائل موجّهة له. نجم عن هذا الأمر أخطاء فادحة في فهم طبيعة السياسية التركية وما يريده الساسة الأتراك بالضبط، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى إلحاق أضرار هائلة بالمصالح التركية. خطاب الرئيس الأخير يوم أمس يعد نموذجا على ذلك، ففي حين كان من الواضح انه يتوجه بكلامه إلى الداخل التركي وليس إلى المستثمرين أو إلى السياسيين الغربيين، إلا أن الخطاب بُث في الخارج بكثافة حتى من قبل المواقع الاقتصادية الغربية، وعندما لم يسمع المستثمرون ما كانوا ينتظرونه أثّر ذلك بشكل سلبي عليهم وانعكس هذا الأمر بدوره سلبا إلى سعر الصرف. 

مسألة أخرى تتعلق كذلك بالتصريحات الإيجابية التي يقصد بها طمأنة السوق والمستثمرين الأجانب، والتي غالبا ما تصدر عن وزير الخزانة والمالية. هذه التصريحات أيضا لم تعد تحمل معها الرسالة الإيجابية التي من المفترض أن تحملها إلى الجهة المستهدفة، وذلك لأنّ هناك تناقضا مستمرّا بين ما يقال وما يتم فعله في نهاية المطاف، وقصة دور البنك المركزي خير مثال على ذلك. الجميع يستطيع أن يرى أن البنط ليس حرّا أو مستقلا في اتخاذ القرار فيما يتعلق بالسياسة المالية وسعر الصرف والفائدة، بالرغم من الادعاء المتكررة بعكس ذلك. هناك حاجة لإعادة الثقة إلى المستثمرين.

الحقيقة الثالثة هي أن تسليم القس برانسون ما كان لينهي هذه الأزمة الحاصلة اليوم. كثير من المعارضين لسياسة الرئيس التركي لاسيما المقيمين منهم خارج تركيا يلومون السلطة السياسية على ما يجري، ويدّعون أن السبب الأساسي لما يحصل هو عدم تسليم القس الأمريكي، وأنّه لو سلّمت أنقرة برانسون إلى واشنطن لانتهى الأمر. لكن في الحقيقة، يتجاهل مثل هذا الطرح وجود مشاكل أخرى سواء في الوضع الاقتصادي أو في العلاقات التركية- الأمريكية. ليس هذا فقط، بل يفترض مثل هذا الطرح أنّ الاستجابة لشروط وتهديدات الجانب الأمريكي ستعفي تركيا من العواقب، في حين يتجاهل حقيقة أن الاستجابة للشروط والتهديدات تعني أن الطرف المستجيب –أي تركيا- ضعيف، وهو إن خضع هذه المرة فسيضطّر إلى الخضوع كل مرّة تحت تهديد سيف العقوبات المسلّط على رقبته من قبل الولايات المتّحدة. هذا الوضع يعني أن تركيا في موضع الابتزاز وليس في موضع الحليف للولايات المتّحدة الأمريكية.

الحقيقة الرابعة هي أن تركيا لا تستطيع أن تتحمّل حربا اقتصادية مع أمريكا. نعم البلاد قد تصمد في نهاية المطاف، لكن حجم الخسائر سيكون أكبر من قدرة تركيا على التعافي السريع، كما ستترتب عليه تكاليف باهظة ليس من الناحية الاقتصادية فقط، بل من الناحية السياسية أيضا. الولايات المتّحدة من أكبر المستثمرين في سوق الأسهم التركية وثاني أكبر حامل لسندات الدين التركية، وهو ما يجعلها في موقع القادر على التأثير سلبا على الاقتصاد التركي بشكل مباشر. الأَضرار التي تصيب الليرة لن تقتصر على الداخل التركي فقط وإنما يُخشى أن تمتد أيضاُ إلى الأوروبيين الدائنين للبلاد. فضلا عن ذلك، فانّ التوجه نحو روسيا والصين الآن لن يحل المشكلة. هذه الدول لا يهمّها التحالف مع تركيا بقدر مع يهمها مناكفة واشنطن، وبالتالي فإذا لم توازن علاقاتها، فقد تجد تركيا نفسها في مرحلة من المراحل رهينة لهذه الدول أيضا.

المشكلة أن الخطوات الأمريكية التي تسبب الأضرار مؤخرا للجانب التركي، غير مكلفة من الناحية المالية أو السياسية، وهو ما يجعل اتخاذها سهلا بالنسبة إلى صانع القرار الأمريكي، ولذلك فان هذه المعادلة بحاجة إلى تصحيح حتى في حال اتجه الجانب التركي إلى التهدئة والدعوة للحوار والمفاوضات.