تعتبر القضية
الفلسطينية قضية العرب المركزية، ولطالما تفاعلت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بحماسة شديدة مع أحداثها الدامية، وأخبارها المؤلمة منذ تهجير أهلها منها، بعد نكبة 1948م، ثم نكسة حزيران عام 1967، وعبر فصولها المأساوية المتعاقبة التي ما زالت جراحها تقطر ألما، وتنزف دما.
وتحتل
القضية الفلسطينية كذلك مكانة رفيعة في قلوب المسلمين، لما تحظى به من قدسية المكان، لاحتضانها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، الذي وصف الله الأرض المحيطة به بالمباركة كما في الآية الأولى من سورة الإسراء.
لكن ووفقا لباحثين ومراقبين فإن حضور تلك القضية شهد تراجعا ملحوظا في محيطها العربي والإسلامي، وفقدت بعضا من ألقها كقضية مركزية جامعة، ضبطت بوصلة العرب والمسلمين نحو عدو واحد لم يكونوا يختلفون على أنه العدو الأول والأخطر عليهم جميعا.
فما هي أبرز أسباب تراجع حضور القضية الفلسطينية في محيطها العربي والإسلامي؟ وهل المصالحة بين سلطة رام الله، وحماس في غزة ما زالت ممكنة، أم أنه مسار بائس ولا بد من البحث عن خيارات أخرى؟ وكيف يمكن إعادة ألقها من جديد عربيا وإسلاميا؟
أرجع الباحث السياسي الفلسطيني، والمتحدث باسم هيئة الحراك الوطني لكسر الحصار وإعادة إعمار غزة، أدهم أبو سلمية أسباب تراجع حضور القضية الفلسطينية في محيطها العربي والإسلامي إلى عدة أسباب.
وذكر أبو سلمية لـ"
عربي21" أن من أبرز تلك الأسباب "دخول الدول العربية في سلام وتطبيع مع
الاحتلال ممثلا باتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ثم اتفاق طابا، والاتفاقيات الأخرى، ما أدّى إلى تراجع القضية على المستوى الرسمي، وانعكس ذلك على المستوى الشعبي".
وأضاف: "وسبب آخر هو تراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، وانحسار دور القيادة الفلسطينية داخل قطاع غزة والضفة، وهو ما انعكس بشكل كبير على دور الجاليات الفلسطينية في الشتات".
وتابع الباحث الفلسطيني: "بالإضافة لذلك فقد كان للانشغال الإقليمي مؤخرا، خاصة بعد انكسار موجة الربيع العربي أثر خطير على القضية الفلسطينية وموقعها ومكانتها، في ظل التحريض الطائفي، والحروب المذهبية، التي استثمرها الاحتلال وأدواته الإعلامية في الترويج للظهور وكأنه حليف، وليس عدوا، وأن العدو هو إيران فقط، وما ترافق معها من موجة تطبيع هي الأخطر منذ الاحتلال".
اقرأ أيضا: خبراء: هذه تداعيات سياسة ترامب على القضية الفلسطينية
وحول إمكانية المصالحة بين السلطة في رام الله وحماس في غزة، لإخراج القضية الفلسطينية من مأزق الانقسام الداخلي، رأى أبو سلمية أن "طريق المصالحة متعثر، والفجوة كبيرة وتتسع، ولم يعد ممكنا إتمام المصالحة في ظل وجود شخص محمود عباس" على حد قوله.
وأشار إلى أن "الخلاف بين فتح وحماس ليس خلافا على وسائل، بل هو خلاف رؤى وبرامج بين سلطة ترفض المقاومة، ولا تؤمن إلا بالمفاوضات والتنسيق الأمني مع الاحتلال، وبين مشروع ركيزته الأساسية الكفاح المسلح والعمل المقاوم، ولن تكون هناك مصالحة إلا بقيادة جديدة لفتح تؤمن بضرورة المزاوجة بين العمل السياسي المستند إلى الثوابت الوطنية، وبين العمل المقاوم والكفاح المسلح".
وأضاف: "وأعتقد أن اتفاقية 2005، أو ما عرفت بـ(اتفاقية الأسرى) تراعي الحدود المشتركة التي يمكن أن يبنى عليها مصالحة وطنية، وهذا قد يتحقق في حال غياب عباس عن المشهد السياسي".
من جهته اعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة آل البيت الأردنية، الدكتور جمال الشلبي تداعيات الربيع العربي ومآلاته أحد أهم أسباب تراجع اهتمام الجماهير العربية بالقضية الفلسطينية، لانشغالها بقضاياها المحلية، وهمومها المأساوية بعد تفجر أوضاعها الداخلية.
وأضاف الشلبي لـ"
عربي21": "كذلك فإن الانقسام الفلسطيني الداخلي بين فتح وحماس، وجغرافيا بين رام الله وغزة، أثر كثيرا على ألق القضية الفلسطينية، وأفضى إلى تراجع حضورها عربيا وإسلاميا".
أما عن كيفية إعادة الألق من جديد للقضية الفلسطينية في عمقها العربي والإسلامي، فأشار الشلبي إلى ضرورة الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي، واستثمارها بطريقة جيدة ومدروسة، فهي من أكثر الوسائل تأثيرا وفاعلية وتفاعلا.
ولفت الشلبي إلى أن "التطاول
الإسرائيلي المستمر على الإنسان الفلسطيني بطرق مزرية يجب التركيز عليه وتوصيل صوره ومشاهده للرأي العام الغربي، لكشف الوجه الحقيقي للاحتلال في تعامله المهين مع الإنسان الفلسطيني"، لكسب تأييد الشعوب العربية والإسلامية، وتعاطف الرأي العام الأوروبي.
وحذر الشلبي من تداعيات السياسات الأمريكية على القضية الفلسطينية في عهد ترامب، لانحيازها السافر لإسرائيل، وهو ما يجب أن يستفز الفلسطينيين ـ على اختلاف فصائلهم ـ للتوافق على مشروع وطني جامع، لمواجهة تلك الأخطار الجدية المحدقة بقضيتهم في هذه المرحلة العصيبة من تاريخها، واستثمار ذلك في استجاشة الشعوب العربية لدعم القضية ومؤازرتها من جديد.
بدوره رأى الأكاديمي والإعلامي الأردني، الدكتور موسى برهومة أن "تراجع الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية يرجع إلى انكفاء العالم، بشكل عام عن القضايا الكبرى، وانغماسه في التفاصيل المحلية".
وتابع: "أضف إلى ذلك تعدد الدول المنكوبة بالحروب الداخلية، أو الثورات والثورات المضادة في الإقليم الشرق أوسطي الملتهب والمتفجر، وقد تعددت الجراحات والآلام، وما عاد الألم الفلسطيني وحده يحظى بقصب الاهتمام، مع أن المأساة الفلسطينية واحدة من أفدح التراجيديات في التاريخ".
وأتى برهومة في حديثه لـ"
عربي21" على ذكر التراجيديا السورية المعاصرة التي زاحمت نظيرتها الفلسطينية، والتي يكاد المرء يشعر إزاءها بأن فلول المتوحشين الصهاينة أرحم من عصابات نظام الأسد وزبانيته والميلشيات المتحالفة معه".
ولأن القضايا الكبرى، طبقا لبرهومة "ترتبط بهمم كبرى، وشخصيات ذات تأثير شعبي وعالمي ملهم، فقد كان لغياب الرمز التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات أثر كبير في خفوت الضوء على الألم الفلسطيني المفتوح".
ووصف برهومة الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس بأنه "هشّم الصورة المثالية لتماسك الشعب، وقدم القضية النبيلة في سياق صراع سياسي تناحري، ما أضعف اللحمة، وفتَّ في عضد المفهوم الناصع للمقاومة".
واستدرك برهومة قائلا: "لكن ذلك كله على مرارته، لا يقلل أبدا من عدالة القضية الفلسطينية باعتبارها جرحا نازفا وطعنة أخلاقية كبرى في خاصرة الزمن الكوني الذي أغمض عينية طويلا عن الشر، وآزر في أحيان كثيرة القتلة".
أما عن كيفية إعادة الألق للقضية بعد خفوت حضورها، فهذا مرهون بتوحد الإرادة الشعبية، واستعادة خيار المقاومة بأشكاله كافة، لأن العدو الصهيوني استمرأ الاستسلام والهوان، والتنازل الفلسطيني الرسمي على المستوى السياسي والتفاوضي، ولن يقبل إلا بتفريغ الأرض من سكانها الأصليين أو جعلهم عبيدا، وهو ما تأنفه الروح الفلسطينية المكافحة وفقا لبرهومة.
في السياق ذاته قال أستاذ العلوم السياسة في جامعة اليرموك الأردنية، الدكتور أحمد سعيد نوفل: "إن القضية الفلسطينية كانت حاضرة في الحراك الشعبي العربي إبان الثورات العربية، وكان الاهتمام بها كبيرا في هتافات الجماهير وشعاراتها".
وأضاف نوفل في حديثه لـ"
عربي21": "أما على الصعيد الرسمي فليس ثمة تراجع يُذكر، لأن الأنظمة العربية لم تكن مهتمة بالقضية الفلسطينية ذلك الاهتمام الذي يرقى لمركزيتها، وكانت جميع الأنظمة مقصرة بهذا الخصوص".
ووفقا لنوفل فإن الجماهير العربية وعلى الرغم من تداعيات الربيع العربي التي تأججت معها الصراعات العربية الداخلية، والتي أثرت بالتأكيد على اهتماماتها بالقضية الفلسطينية، إلا إن فلسطين وقضية شعبها ما زالت حاضرة في الوجدان العربي.
وجوابا عن سؤال: كيف يمكن إعادة الألق للقضية الفلسطينية عربيا وإسلاميا؟ قال نوفل: أول ما ينبغي القيام به في هذا الشأن، العمل على إنجاز المصالحة الوطنية بين السلطة في رام الله وحماس في غزة، وإنهاء حالة الانقسام.
وأضاف: "والأمر الثاني وهو مهم جدا، اتفاق كافة الفصائل الفلسطينية على مشروع وطني فلسطيني جامع، يتوافق عليه الجميع"، مبديا أسفه الشديد على غياب المشروع الوطني الفلسطيني الذي يجتمع عليه الجميع، وهو ما يضعف القضية ويشتت جهود العاملين من أجلها، والمؤازرين لها.
وحذر نوفل من بقاء الحال على ما هو عليه، والمتمثل في ركون السلطة الفلسطينية إلى التنسيق الأمني، والتعامل مع الكيان الصهيوني، خاصة بعد تجاوز الرئيس الأمريكي ترامب لحل الدولتين، ما يوجب على السلطة الفلسطينية البحث عن بدائل حقيقية وجدية.
واستنادا إلى ما اقترحه نوفل فإن "شرعنة المقاومة" ينبغي أن تكون على رأس تلك البدائل، ردا على "شرعنة" الاحتلال للاستيطان، ومضيه قدما فيه.
ووفقا للباحث السياسي الفلسطيني، أبو سلمية فإن إعادة الألق للقضية الفلسطينية عربيا وإسلاميا ممكن جدا، لكنه يحتاج لجهد كبير، مشيرا إلى أن المؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج، الذي سينعقد في تركيا بتاريخ 25 ـ 26 من الشهر الجاري، ربما سيساهم في ذلك.
وعن الآلية التي يمكن أن تساعد في إنجاز ذلك قال أبو سلمية: "نحن بحاجة للوبي ضاغط لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وهذا اللوبي يرتكز على جهد شعبي ورسمي وإعلامي وجماهيري من أجل تحقيق الأهداف المطلوبة".