استهلال
منطقة القرن الإفريقي تعتبر واحدة من أهم المناطق الجيوسياسية في العالم، لوقوعها في موضع استراتيجي يجعلها تتحكم على أهم الممرات المائية، بالإضافة لقربها من مناطق إنتاج النفط وملاحته، لذلك كانت وما زالت محل اهتمام دولي وإقليمي في ظل الصراع على المعابر المائية، كما أن المنطقة منذ أمد بعيد لم تفارقها الصراعات الداخلية لأسباب دينية وعرقية، وأخيراً صراع السلطة والنفوذ بين المكونات.
فشل الدولة في الصومال
منذ انفلات عقد دولة الصومال والانسحاب الأمريكي من الميدان الصومالي، قل حماس المجتمع الدولي للدخول المباشر في المعترك الصومالي وحسم المعركة في الميدان لصالح الدولة الصومالية واستعادة هيبتها، كما أن الفرقاء الصوماليين مع كل المساعي الحميدة والحثيثة لم يوفقوا في إقامة حكومة وطنية قوية تمهد لدولة مستقرة يحكمها القانون وتسودها العدالة وتتساوى فيها المكونات وتنهي حالة المحاصصات القبلية في السلطة.
الصراع في الصومال اليوم لا يمكن قراءته بمعزل عن صراع الإقليم نفسه، فإثيوبيا الدولة الكبيرة في الإقليم التي كانت السبب الأكبر في الصراع الصومالي الصومالي الذي أدى إلى انهيار الدولة الصومالية؛ ما زال لها حضورٌ قويٌ في المشهد الصومالي عبر التدخل المباشر أو عبر تحالفاتها الإقليمية.
أما إرتريا التي ولدت مع انهيار دولة الصومال فقد حاولت وهي في مهدها مساعدة الصومال كرد الجميل للشعب الصومالي الذي دعم وساند قضية الشعب الإرتري، لكن القضية كانت أكبر من حجم إرتريا الوليدة رغم ثقة كل الأطراف الصومالية بالوسيط الإرتري، قبل اتهام بعض الأطراف الصومالية والمجتمع الدولي؛ النظام الارتري بالانحياز لحركة الشباب الصومالية، ورفضه الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية بقيادة الشيخ شريف محمد أحمد التي انبثقت من مؤتمر المصالحة الصومالي، والتي حظيت باعتراف إقليمي ودولي ويراهن عليها المجتمع الدولي ويتعاون معها في سبيل تحقيق السلام في الصومال.
فشل إثيوبيا وأرتريا في تحقيق السلام
النظامان الإرتري والإثيوبي اللذان وصلا للسلطة على ظهر الشرعية الثورية لشعوب المنطقة، ضمن الترتيبات الدولية للقرن الإفريقي ما بعد الحرب الباردة، استبشر بهما العالم خيراً، وحظيا باهتمام غربي ضمن ما كان يطلق عليه حكام
أفريقيا الجدد، لكن خيبا ظن العالم ودخلا في حرب ضروس لا تعرف أسبابها الحقيقية حتى اليوم، خسر فيها شعبا البلدين عشرات الألوف من القتلى والمعاقين، وتحولت المنطقة بأسرها من حلم الكونفدرالية إلى كابوس يهدد السلم والأمن المجتمعي.
تحرك المجتمع الدولي لاحتواء الكارثة
يشغل الوضع الذي استجد في الدولة المحورية في القرن الإفريقي في المنطقة (إثيوبيا) المجتمع الدولي وجعله يعيد النظر في كثير من القضايا التي عصفت بالقرن الإفريقي، فقد كان الاهتمام بالملف الإرتري الإثيوبي قد تراجع بعد توقيع اتفاقية الجزائر التي أوقفت الحرب التي خاضها البلدان ودارت رحاها بينهما خلال عامين (1998-2000م). وبالرغم من أن الطرف الإثيوبي لم يلتزم بمخرجات المحكمة الدولية التي حكمت على القضية الحدودية التي كانت السبب المعلن للحرب، إلا أن المجتمع الدولي لم يعر المسألة الاهتمام المطلوب، مع أن النظام الإرتري كان يعلق كل الإخفاقات والانتهاكات الإنسانية على قضية انسحاب إثيوبيا وترسيم الحدود بين البلدين.
اهتم المجتمع الدولي بالشأن الإرتري وفرض بعض العقوبات والقيود على النظام الإرتري، نسبة لتدخلاته في الملف الصومالي واتهامه بتقديم الدعم لحركة الشباب الصومالية وتعنته في خلافه مع دولة جيبوتي المجاورة، بينما كانت هناك انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في إرتريا، كانت تستحق معاقبة النظام الإرتري في نظر قطاع واسع من الشعب الإرتري، لكن لم يولها المجتمع الدولي الاهتمام رغم معاناته من تدفق اللاجئين الإرتريين إلى أوروبا؛ التي تسعى لحل أزمة تدفق اللاجئين بالتعاون مع النظام الإرتري ومساعدته في تحسين الأوضاع ومعالجة بعض القضايا التي تسببت في هروب مجموعات كبيرة من الإرتريين من بلادهم، إلا أن النظام الإرتري لم يلتزم بتعهداته.
ملف حقوق الإنسان في إرتريا أخيراً وصل الجمعية العامة للأمم المتحدة، يحمل تهماً بانتهاكات ممنهجة ضد الإنسانية بعد سنوات من التحقيق من قبل لجان مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، ووضع النظام الإرتري في حالة دفاع مستميتة عن نفسه وحالة من الترجي والتباكي بعد سنوات من التعامل المستفز مع لجان التحقيق الأممية ودعاوي المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان.
أما إثيوبيا التي كانت تبدو فيها الدولة دولة مؤسسات بغض النظر عن قوتها وضعفها، كما أن المسار الديمقراطي كان الأفضل مقارنة بإرتريا التي تعتبر النقطة الأكثر سواداً عالمياً في النهج الديمقراطي والحكم الرشيد، لكن في الآونة الأخيرة أصبحت تشهد احتجاجات كبيرة سلطت الضوء على الانتهاكات الإنسانية التي تمارسها الحكومة الإثيوبية ضد مواطنيها، وجعلت المنظمات الحقوقية تتهم الحكومة الاثيوبية بانتهاكات إنسانية، إلا أن الوضع المنفجر حالياً في إثيوبيا والاحتجاجات المطلبية التي في طريقها للتحول لصراعات عرقية انتقامية؛ إن لم يتم معالجتها ووضع حد لها ستحول المنطقة إلى منطقة صراع من الصعوبة السيطرة عليه.
فقد لاحت في الأفق بوادر صراع عرقي تقوده كبرى قوميتين إثيوبيتين من حيث التعداد، فبينما قومية الأرومو التي تعتبر كبرى المجموعات العرقية في إثيوبيا كانت تقود احتجاجات مطلبية في إقليمها الذي يحتضن العاصمة أديس أبابا منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، جاءت احتجاجات قومية الأمهرا مصحوبة بالعنف، والأمهرا هي المجموعة العرقية الثانية بعد الأرومو، لكنها ذات نفوذ قوي باعتبارها كانت حاكمة قرابة قرن من الزمان، قبل انتقال الحكم للتحالف الذي تقوده قومية التجراي.
إن احتواء الصراع العرقي المندلع في إقليم الأمهرا الذي تسبب في نزوح مجموعات كبيرة من قومية التجراي اجتاز بعضها الحدود الإثيوبية إلى السودان، والصدام اليومي بين قوات الأمن والمحتجين من قومية الأرومو الذي سيتحول أيضا إلى صدام عرقي واستهداف الناس لانتمائهم العرقي، يعتبر أولوية قصوى للمجمتع الدولي، لذلك المبادرات الدولية تنبأت بالكوارث التي سوف تحل بالمنطقة إذا لم يتم احتواء الوضع في إثيوبيا، فبدأت المساعي من كل الأطراف لكن على شكل مطالب بحماية حقوق الإنسان.
مبادرات تدارك الموقف
قبل فترة وجيزة طالبت الأمم المتحدة بالسماح لبعثة دولية لتقييم الوضع الحقوقي في إثيوبيا، تلتها جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي، بجانب عدد من المبادرات والتصريحات من مسؤولين أمريكيين، وبما أن الوضع في إرتريا يخيم بظلاله على الوضع في إثيوبيا حيث تتهم الحكومة الإثيوبية النظام الإرتري بالعمل على زعزعة أمن إثيوبيا، يتحرك الملف الإرتري بالتوازي مع ملف حقوق الإنسان في إثيوبيا لكن بوتيرة أسرع، بينما تجري الاستعدادات لدفع النظام الإرتري للتفاوض مع معارضيه وفتح أفق جديد للوفاق الإرتري ولو بصورة صورية، لترتيب الوضع والسيطرة على حالة عدم الاستقرار في المنطقة ولو بشكل نسبي.
الاحتمال الأوفر حظاً
إن السيناريو الأكثر بروزا في المرحلة القادمة هو إخضاع النظامين في إثيوبيا وإرتريا لعملية جراحية، يتنازل فيها الحزب الحاكم في إثيوبيا عن بعض سلطاته ويمنح الآخرين جزءاً مما عنده من سلطات، ويوقف زحف أبناء قومية التجراي على أراضي المجموعات العرقية الأخرى التي اتخذت وسيلة لتهييج الشارع الإثيوبي، والاستمرار في المسار الديمقراطي، وفي نفس الوقت تنفيذ قرار المحكمة الدولية لإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم بين إرتريا وإثيوبيا.
أما العملية الجراحية المعدة للوضع الإرتري فتبدو، إن تمت، بمثابة غرفة انعاش يستمر فيها النظام الإرتري في الحكم لفترة اطول بطريقة مختلفة مما هو عليه الآن، فقد تشير المؤشرات إلى سيناريو المصالحة وإخضاع النظام الإرتري للتفاوض مع المعارضة وتحسين وضع حقوق الإنسان في إرتريا بعد إنهاء مسألة الحدود التي يتعلل بها النظام الإرتري، وهذا ما تدل عليه التحركات الدولية في الملف الإرتري والتعامل مع النظام القائم بالترهيب والترغيب، فمع إحالة ملف حقوق الإنسان في إرتريا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والتلويح بتحويله إلى مجلس الأمن؛ نشاهد حراكاً ناعماً للنظام الإرتري في الدوائر الغربية، واهتمام المراكز الغربية الفاعلة في صناعة القرار بعملية التفاوض مع النظام الإرتري والمجموعات التي يمكن أن تجلس في طاولة المفاوضات مع النظام.
لعل الأيام القادمة تحمل الكثير من المفاجآت للقرن الإفريقي، يدفعها تحرك شعبي في المنطقة وشركات غربية كبرى تولي استقرار المنطقة أولوية في هذه المرحلة للحصول على النصيب الأوفر من المشاريع الضخمة التي يسيل لها لعاب هذه الشركات في كل من إرتريا واثيوبيا، كما أن الصومال الذي تراجعت فيه الفوضى نسبيا، يدور فيه صراع ناعم بين دول الإقليم تغذيه تداخل المصالح والأيدلوجيا وساحته حاليا حملة الانتخابات القادمة.