قال الأمريكي: "نتطلّع إلى إنقاذ البقية الباقية من اليهود في وسط أوروبا، الذين يذوقون رُعبا لا يوصف على يد النازيين من طرد وتعذيب وهدم لمنازلهم، وقتلهم عمدا.. إن للناجين من اليهود رغبة عاطفية في السكن في
فلسطين، وإنهم في الحقيقة يخشون الإقامة في ألمانيا، خوفا من أن ينالهم العذاب ثانية".
ردّ العربي وقد تجهّم وتغيّر وجهه: "امنحوا أرض ألمانيا لليهود، فهم الذين اضطهدوهم، أي شر ألحقه العرب بيهود أوروبا؟ المسيحيون الألمان سرقوا أموالهم وأرواحهم، إذن فليدفع الألمان الثمن، لماذا ندفعه نحن العرب؟".
ورد هذان المقطعان ضمن حوار جرى بين الرئيس الأمريكي "روزفلت"، وبين العاهل السعودي الملك عبد العزيز بن سعود، خلال أول قمة بين البلدين عام 1945، وردت في كتاب "القمة الأمريكية
السعودية الأولى"، نقلا عن وثيقة تم الكشف عنها مؤخرا، كتبها عقيد بحري متقاعد "وليم إيدي"، الذي يعدّ أول وزير مفوّض من قبل أمريكا في السعودية بين عامي 1944 -1946.
* يكشف هذا الحوار بداية تحرّك الدولة السعودية الناشئة تجاه القضية الفلسطينية، الذي اختتم بالتدخل العسكري السعودي ضمن القوى العربية التي شاركت في حرب فلسطين 48.
استدعيت من ذاكرة التاريخ المعاصر ذلك الحدث، انسجاما وتأمّلي الراهن تجاه الأزمة السورية (التحرّك السعودي)، ليفرض عليّ أسلوب المقابلة ذاته، وأضع التدخل السعودي بالحقبتين أمامي في صفحة واحدة، لأكتشف أن ثمّة أوجه تشابه عديدة تستثير الاهتمام، إضافة إلى أوجه اختلاف تستحقّ إبرازها.
* يتشابه ظرف التدخل السعودي في الحالتين، من حيث التحرُّكات الدبلوماسية والتركيز على الحلول والتفاهمات المشتركة مع القوى العربية والدولية، قبل التوجّه للحل العسكري.
قبل حرب فلسطين أرسلت الحكومة السعودية مذكرتي احتجاج لبريطانيا والمفوضية الأمريكية، على قرار التقسيم وبيان إخطاره على العرب، وقام الملك عبد العزيز بحملة ضد الدولتين محملا إياهما مسؤولية الأزمة الفلسطينية، في الوقت الذي كان فيه الأمير فيصل بن عبد العزيز يُفنّد مزاعم اليهود أمام الأمم المتحدة، ويُنافحُ عن حق الفلسطينيين.
الأمر يتكرر في المشهد السوري الراهن، حيث تحركت المملكة السعودية خلال الأُطر الدبلوماسية، مع الدول الغربية ودول الوطن العربي، من أجل إقناع المجتمع الدولي بضرورة رحيل الأسد، حلا أساسيا للأزمة السورية، ما حدا بالسياسة الخارجية السعودية لأن تصطدم برغبات روسية وإيرانية لإدماج الأسد في أي حلّ سياسي، في الوقت الذي يتحرك الوزير الشاب عادل الجبير بخطوات مدروسة تجاه القضية السورية، بما يتناسب ومُتطلبات المرحلة والدور الجديد للمملكة.
* تتشابه ظروف التدخل في الحالتين، في كون المملكة دخلت في مواجهة مشاريع متقاربة الأبعاد، ففي فلسطين كانت تواجه المشروع الصهيوني الذي يرمي إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين قلب الأمة، بما تُمثّله فلسطين من مكانة دينية وأهمية جيوسياسية تكون إحدى الحواجز الفاصلة بين العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا.
وفي الحالة السورية، تواجه السعودية مشروعا قوميا آخر مُحمّلا على رأس طائفي، يتمثل في الأطماع الإيرانية الرامية إلى ابتلاع دول العالم السُنّي، تُعدّ
سوريا الأسد أحد أهم حلقاته وقواعده، ولذا دخلت السعودية في مواجهة مع الحوثيين الذين يُنفّذون أجندة إيرانية في اليمن، ودعمت المعارضة المعتدلة في سوريا، وتعد للتدخل البري في سوريا بأهداف مُعلنة، وأخرى غير معلنة لكنها واضحة المعالم، إضافة إلى مواجهة القوة الإيرانية الناعمة في دول الوطن العربي، وذلك وفق مزيج من المنطلقات المتلاحمة، تتعلق بالأمن الوطني السعودي، والأمن الإقليمي، وتماسُك العالم الإسلامي أمام مشاريع التفتيت.
* ويتشابه التدخل السعودي في الحالتين، من جهة مواجهة مشاريع التقسيم، حيث واجهت مع مجموع الدول العربية في الحالة الفلسطينية ـبغضّ النظر عن تقييم المواجهة- مشروعا لتقسيم فلسطين صدر به قرار عام 1947.
وفي الأزمة السورية، تواجه السعودية وحلفاؤها أطروحة تقسيم سوريا، وإقامة دولة علوية للأسد خطة بديلة عن حل الإطاحة ببشار، ما من شأنه أن يُعدّ ترسيما لحدود دولة جديدة تستكمل فيها إيران مشروعها في المنطقة.
* ويختلف التدخل السعودي في الحالتين، من زاوية الموقف العربي العام، ففي حرب الـ 48 دخلت القوات السعودية إلى فلسطين ضمن توافق عربي على إرسال جيوش نظامية للقضاء على العصابات الصهيونية.
بينما في الأزمة السورية، نرى أن السعودية تواجه حيال تدخلها رفضا من بعض الجهات العربية التي أظهرت ميلا إلى بقاء نظام الأسد، وهو ما عرّض المملكة لانتقاد الدول المُمانعة، ما يُشكّل عبئا على تحرّكاتها.
* ويختلف التدخل السعودي من جهة التبعية والتبايُن في حجم القوة العسكرية التي تمتلكها السعودية في الحالتين، ففي حرب فلسطين كانت مشاركة القوات السعودية تتبع القيادة المصرية، وقد ذكر القائد (عبد الله التل) أنها كانت عبارة عن كتيبة للمشاة تابعة للجيش المصري، وقيل غير ذلك، وعلى أقصى التقديرات كانت مشاركة السعودية بـ 3200 مقاتل، بقيادة العقيد (سعيد بك الكردي) ووكيله (عبد الله نامي).
وكان التسليح عبارة عن أسلحة خفيفة وبنادق تقليدية، ورشاشات وقذائف هاون ونحوه، ولم يكن بحوزة القوات السعودية دبابات ولا طائرات.
بينما يأتي التدخل البري السعودي المُحتمل في سوريا، في ظل تبوُّء المملكة موقع القيادة لتحالف يضمّ العديد من الدول الإسلامية، في الوقت الذي تقودُ فيه السعودية تحالفا آخر في اليمن منذ انطلاق عاصفة الحزم.
* كما يأتي التدخل السعودي المُحتمل في سوريا، في ظل امتلاك السعودية لترسانة ضخمة من الأسلحة الثقيلة والطائرات الحديثة، ومستوى عال من التدريب وصلت إليه القوات السعودية.
وها هي المملكة تستضيف على أرضها واحدا من أكبر التدريبات العسكرية في العالم (رعد الشمال)، كما وصفته بعض وسائل الإعلام، بمشاركة درع الجزيرة ودول قطر والإمارات والأردن والبحرين والسنغال والسودان والكويت والمالديف والمغرب وباكستان وتشاد وتركيا وتونس وجزر القمر وجيبوتي وعُمان وماليزيا ومصر وموريتانيا.
* ويختلف التدخل السعودي في الحالتين، من جهة النظر الى ضرورة التدخّل، ففي حرب فلسطين، كانت الرغبة السعودية تتجه لدعم المقاومة الفلسطينية ضد العصابات الصهيونية دون تدخُّل من الجيوش النظامية، وكان ذلك الرأي يتّفق مع رؤية الشيخ حسن البنا التي طرحها أمام الملك عبدالعزيز آل سعود في مأدبة كبار الحُجّاج، خلال رحلته للحج 1946.
وتبنّت السعودية ذلك الاتجاه بسبب اختلاف الأهداف والغايات المُحرّكة لبعض الدول العربية التي ترغب في المشاركة بالحرب، والأهم من ذلك أن دخول الجيوش العربية النظامية سيؤدي إلى تعاطف الدول الغربية مع اليهود، حيث يُبرز بعض العصابات الصهيونية المسلحة في مواجهة جيوش من دول عربية عدة، وهو ما يخدم (مظلومية اليهود واستدعاء المحرقة النازية)، إضافة إلى تدخّل الأمم المتحدة وتلقّي اليهود مزيدا من الدعم من قِبل الدول المُساندة للوجود الصهيوني.
ولعل هذا الرأي كان هو الأصوب، وهو ما أثبته سياق الحرب وخاتمتها السوداء، علما بأن السعودية تعرّضت لسيل من الإشاعات بعد إعلان ذلك التوجّه، بالرغم من أنها استجابت لرأي الدول العربية وشاركت في الحرب بقوة وبسالة شهد بها قادة العرب، على الرغم من أنها لم تكن وجهة نظر سعودية بحتة، إذ إنها سبقت جامعة الدول العربية إلى هذا المنحى في كانون الأول/ ديسمبر 1947.
* وأما في سوريا فالأمر مختلف، والتدخّل ضروري، لأن سوريا صارت مسرحا للعمليات الإيرانية والروسية والطائفية الداعمة لنظام الأسد على حساب المُكوِّن السُنّي، وعلى حساب الأمن الخليجي وأمن المنطقة بأسرها، لذا لن يحسم دعم المعارضة المعركة.
إضافة إلى ذلك، فإن وجود تنظيم داعش ودخوله حربا ضد المعارضة المعتدلة، يزيد الأمر تعقيدا، ويُشتّت جهود فصائل المعارضة بين قتال الأسد وقتال داعش، ما يستلزم تدخّلا قويا من السعودية وحلفائها.
* ويختلف التدخل السعودي في الحالتين، من جهة الصيغة، ففي فلسطين كان التدخل السعودي واضحا من أجل دحر العصابات الصهيونية والدفاع عن أرض فلسطين، ولم يحتجّ العرب آنذاك لصيغة أخرى، إذ إن القضية الفلسطينية كانت محور التفاف الشعوب.
أما في الوضع السوري الراهن، فالسعودية تدعم تحرير سوريا من النظام الطائفي الدمويّ، عبر المسار الدبلوماسي مع الدول العربية والغربية، وعن طريق دعم المعارضة المعتدلة في سوريا.
لكن التدخل العسكري البري المُرتقب للقوات السعودية، جاء في صيغته المعلن عنها ضمن سياق الحرب على الإرهاب ومواجهة تنظيم داعش، وذلك لأنها تحتاج إلى غطاء قانوني دولي.
يكاد المحللون والمراقبون إضافة إلى المؤسسات الإعلامية، أن يُجمعوا على أن للسعودية أهدافا أخرى تتمثّل في مواجهة المشروع الإيراني بإسقاط الأسد.
وقد فصلتُ القول حول هذه المسألة في مقال سابق على موقع "
عربي21"، بيّنتُ فيه أهمية التدخل السعودي، حيث إنه سيُضعف قوة داعش، ما يترتب عليه تعضيد المعارضة في قتالها ضدّ نظام الأسد.
كما أن ذلك التدخل سيُلغي ذريعة التدخل الروسي والإيراني لمواجهة الإرهاب واتخاذه مظلة لضرب القوى المناهضة لنظام الأسد.
اقرأ أيضا: التدخّل السعودي المحتمل في سوريا.. ضد من؟ ولصالح من؟
ومما لا شكّ فيه، أن السياسة الخارجية السعودية قد تغيّرت منذ تولّي
الملك سلمان الحكم، بل انتقلت من خانة التعامُل بردّ الفعل الى أخذ زمام المُبادرة، وأصبح لها دورٌ قويّ في رسم الخارطة السياسية في المنطقة، وهي مُهمّة ليست سهلة، وتحتاج الى مقوّمات وأدوات وخطط مدروسة وتنفيذ مُحكم، إضافة إلى التفاف الشرفاء ودعمهم.