قالوا في المثل الصيني: "قل لي وسوف أنسى، أرني وربما أتذكر، أشركني وسوف أحفظ".
تلك المشاركة بالضبط هي ما تستميل المشاهد للأعمال الدرامية، حين يتفاعل مع أحداث الكلمة التي تجسدها الحركة، والإيحاءات النفسية والكلمة المنطوقة، فتغرس في نفسه القيم غرسا، سواء كانت إيجابية أم سلبية.
الحديث عن الدراما هو حديث عن لغة تصنع الرأي العام، وكما يقول د. سلمان العودة عن الدراما: "لغة ضخمة في التعبير والتغيير وصناعة الرأي العام، تعتمد على مجموع الحواس، وليس على مجرد السماع، وتخاطب الإنسان كله، وتستهدف المتعة والإثارة والتعليم في وقت واحد".
الأعمال الدرامية من
أفلام ومسلسلات ومسرحيات، ليست فقط أداة للترفيه والإمتاع والتسلية والتثقيف، إنما هي أداة لتوجيه الرأي العام، الذي يعرف على أنه "الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعية في فترة معينة بالنسبة لقضية أو أكثر يحتدم فيها الجدل والنقاش، وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الإنسانية الأساسية مسا مباشرا".
ولذا كانت الدراما التي هي جزء من الإعلام العام ترتبط بالأنظمة الحاكمة وسياساتها ارتباطا وثيقا، فهناك نظريات عدة تحكم العلاقة بين السلطة وبين الإعلام، منها النظرية الليبرالية، والشيوعية، والتنموية، ونظرية المسؤولية الاجتماعية، والمشاركة الديموقراطية.
لكن النمط السائد في الوطن العربي هو النظرية السلطوية، حيث تكون مهمة الإعلام في ظل هذه النظرية دعم وتوطيد وحماية سياسة النظام الحاكم، والتأكيد على الفلسفة القائلة بأن الدولة تحل محل الفرد.
ولذا تخضع الأعمال الدرامية في الدول العربية للرقابة الصارمة من الأنظمة، فهناك أعمال درامية كثيرة منعتها الحكومات، أو رفعت عنها الحظر بعد عقود من تصويرها، منها (على سبيل المثال) ما ذكره الباحث فهد بن عبد العزيز السنيدي "منعت الداخلية المصرية فيلم (زائر الفجر) 1972م، وفيلم (الكرنك) 1972م، وفيلم (إحنا بتوع الأتوبيس) 1979م".
وهذه الأفلام معروفة بأنها تتناول واقع الاستبداد السياسي والقمع الأمني في حقبة جمال عبد الناصر، ومعاناة الشعب المصري من جراء بطش البوليس السياسي.
الدراما العربية الخاضعة للسلطة هي أداة لمواجهة الخصوم السياسيين للنظام، وأبرز مثال على ذلك الأعمال الدرامية التي استهدفت الإسلاميين بتشويه صورتهم والتشغيب عليهم وسلبهم شعبيتهم وجماهيريتهم.
فمن ثَمّ كان التركيز في الأعمال الدرامية على تعميم الإرهاب والتوسع في إطلاقه على جميع فصائل العمل الإسلامي، هذا الخلط والتخليط ساق الرأي العام في اتجاه التشكيك بالدعاة والمصلحين قياسا على النموذج المرئي الذي تعرضه الشاشات.
ولعل الدراما المصرية أبرز ما يدل على هذا الاتجاه، فمن مِن الوطن العربي لا يذكر فيلم الإرهابي الذي عرض في التسعينيات، الذي كان بداية لمسار ممتد نحو تشويه صورة الإسلاميين بصفة عامة دون التمييز بين من يتبنى العنف منهجا، وبين من يتبنى العمل السياسي والدعوي والإصلاحي.
وفي المقابل، نرى الدراما في السنوات الأخيرة تركز بصورة مكثفة على التصوف وإبرازه كأنه الوجه الحقيقي للإسلام، ويتم حشو الأعمال الدرامية بأدبيات التصوف ومفرداته ومصطلحاته ورموزه.
وفي هذا السياق، يتردد مصطلح العشق الإلهي الذي يُتوصل إليه بالمحبة المطلقة للناس، واعتبار العشق بين الرجل والمرأة أحد الطرق الموصلة لذلك لعشق الإلهي، وهو ما يرمي إليه اعتقاد وحدة الوجود لدى الطبقة الثالثة من الصوفية.
والهدف واضح، وهو التأكيد على وحدة الأديان، وتذويب العقيدة الإسلامية في قيم عالمية.
هذا الاتجاه الذي تقدمه الدراما يتماهى وينسجم مع التوجهات الغربية لاعتماد النموذج الصوفي بدلا من الإسلام السياسي، أو الأصولية الإسلامية، التي ترى الإسلام بشموليته دينا ودولة، عقيدة وشريعة وسلوكا، منهاجا عاما يرسم معالم الحياة بجميع مناحيها، وهو ما تؤكد عليه تقارير المؤسسات التي تسهم في صناعة القرار الأمريكي مثل مؤسسة راند ومعهد نيكسون وغيرهما.
سيطرة العلمانية والعلمانيين على الإعلام العربي، يخدم توجهات الأنظمة الحاكمة، وتجمعهما رؤية مشتركة.
فالحكومات القمعية ترغب في وأد الإسلام السياسي الذي ينازعها السلطة وينادي بأسلمة الدولة بقوانينها ومؤسساتها بمعنى إخضاعها للنمط الإسلامي، وهو ما يعني نزع السيطرة المطلقة للحكومات، والخروج عن التبعية الأمريكية والصهيونية التي تضمن لهم الكراسي والعروش.
وهو الشيء ذاته الذي يتجه إليه العلمانيون الذين تقوم فكرتهم على إقصاء الدين عن شؤون الحياة، وحصر الدين في مجموعة من القيم الروحية.
في ظل هذه السيطرة العلمانية والفاشية على الإعلام العربي، باءت محاولات تقديم الفن الهادف بالفشل، وغاب النموذج الإسلامي عن الساحة، ولعل تجربة فن
المسرح في عهد حسن البنا مثال على ذلك، حيث تم وأد هذه التجربة في مهدها.
إن تقديم الدراما الهادفة لابد أن يكون على قائمة اهتمامات قادة العمل الإسلامي من علماء ودعاة ومصلحين، وكما قيل قديما: "فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل"، فكذلك يمكن صياغة الشخصية الإسلامية من خلال العمل الدرامي الهادف.
عندما قدم التلفزيون العربي
مسلسل عمر بن الخطاب، كان له أثر بالغ في المشاهدين، ورصدتُ تفاعلا كبيرا من العديد منهم مع شخصية عمر بن الخطاب.
وكان القائمون على مراجعة السياق التاريخي للمسلسل نخبة من العلماء أبرزهم الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور سلمان العودة، حرصا على السيناريو من عبث العابثين المبغضين لعمر وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنّي لأثمن لهؤلاء العلماء تجاوز مسألة الخلاف في تجسيد الصحابة من أجل الإبقاء على سيرة عمر نقية كما وردت إلينا من طرقها الصحيحة، رغم ما تعرض له هؤلاء العلماء من انتقادات في مسألة تعدّ من موارد الاجتهاد والخلاف فيها بين العلماء واسع.
فأين تكمن المشكلة؟ لماذا لا نرى البديل الهادف للدراما العربية الحالية؟
هل هي مشكلة حكومات وأنظمة قمعية؟ هناك دول يجد فيها مثل هذا النوع من الفن مجالا رحبا للتعبير عن نفسه.
هل هي أزمة تمويل؟ هناك العديد من المستثمرين أصحاب الملايين والمليارات لهم توجهات هادفة، فلماذا لا يتم التنسيق بينهم للعمل على تقديم مشاريع قوية في هذا المجال؟
هل هي أزمة تقنيات وندرة فنيين؟ يمكن الاستعانة بخبرات أجنبية، والتواصل مع أهل الفن الذين يرغبون في تقديم دراما هادفة للاستفادة منهم.
من وجهة نظري، فإن المشكلة تتمثل في عدم وجود الإيمان الكافي بهذه الفكرة، ما بين شخصيات فقهية جامدة لا تراعي متطلبات العصر، ولا تستغل المساحة الواسعة في الفقه الإسلامي من أجل مزاحمة العلمانيين والأنظمة المستبدة في توجيه الدراما.
وما بين شخصيات أخرى ترى أنه لا جدوى من البدء في عمل من الصفر فيما بلغ الآخرون الذروة، وآثروا الدعة والراحة.
لو استطاع المصلحون التركيز فقط على أفلام الأنيميشن لتقديم أعمال هادفة، فسيكون نقلة كبيرة في التوعية والتربية لهذه الأمة، فيا له من أمر، لو أن له رجالا.