مقالات مختارة

تصاعد الهستيريا المعادية للفلسطينيين

ميرون رابوبورت
1300x600
1300x600
من ممارسة القتل خارج إطار القانون إلى عمليات الإعدام في الشوارع، بات المجتمع اليهودي غارقا في موجة من الكراهية، وكل ما يفعله نتنياهو هو أنه يزود النار بالحطب.

لم يكن لحابطوم زيرهوم، طالب اللجوء الإريتري، أدنى علاقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولكن لسوء طالعه كان في وقت مبكر من هذا الأسبوع متواجدا في محطة الحافلات المركزية في بئر السبع في اللحظة التي دخل إليها فلسطيني مسلح. أراد زيرهوم أن ينجو بنفسه فلاذ بالفرار، ولكن مجموعة من الإسرائيليين الحاملين للأسلحة قرروا، ربما بسبب لون جلده، أنه هو الفلسطيني الذي هاجم المحطة.

أطلقت النار على زيرهوم، فأصيب وسقط أرضا، ولكن لم تكن تلك هي نهاية ما حل به من بلاء، فقد استمر رجال الأمن الإسرائيليين في إطلاق النار عليه بينما كان ملقى على الأرض، وأخذ المارة يركلونه بأرجلهم ويقذفونه بالكراسي والمقاعد، يسحقون جسده ويتمنون له الموت. فمات زيرهوم بسبب عملية الإعدام الميدانية على يد هؤلاء الغوغائيين، الذين تقوم الشرطة حاليا بالتحقيق معهم.

ويوم الأربعاء تبين أن من يقعون ضحية لمثل هذه العمليات من القتل خارج القانون ليسوا فقط فلسطينيين، وليسوا فقط ممن قد يظنهم الرعاع فلسطينيين مثلما حدث في حالة زيرهوم. ففي حادثة الأربعاء أطلق جنديان في القدس النيران على يهودي إسرائيلي، كان هو نفسه واحدا ممن خدموا سابقا في الجيش الإسرائيلي، فأردياه قتيلا، وذلك بعد أن واجههم لأسباب لم تتضح بعد، بدأت القصة حينما راح الجمهور من حوله يصيح "إرهابي"، "إرهابي" فما كان من الجنديين إلا أن أطلقا عليه النار.

هاتان الحادثتين، اللتان استسهل فيهما حاملوا الأسلحة إطلاق النار، تضفيان مصداقية على المزاعم الفلسطينية بأن بعض الفلسطينيين، إن لم يكن معظمهم، ممن قتلوا أو جرحوا بالرصاص الإسرائيلي بعد مزاعم بوقوع هجوم على مدنيين أو عسكريين إسرائيليين منذ بداية الموجة الأخيرة من العنف، لم يكونوا يحملون أي أسلحة أو لم يكونوا يشكلون أدنى خطر على غيرهم حينما أطلقت عليهم النيران.

ولكن السهولة التي يجري بها قتل من يشتبه بأنهم مهاجمون، بل ويتم من خلالها إعداهم ميدانيا من قبل الرعاع هذه الأيام داخل إسرائيل، إنما هي تعبير عن ظاهرة أكبر. فالمجتمع الإسرائيلي اليهودي تحكمه إلى حد كبير حالة من الهستيريا الجماعية، التي تدفع حتى المواطنين العاديين إلى المشاركة في هذه الأحداث الدموية.

الأرقام وحدها غير كافية لتفسير هذه الهستيريا الجماعية، فمنذ أن بدأت أحداث العنف في مطلع أكتوبر، قتل حتى الآن 50 فلسطينيا وثمانية إسرائيليين، بالإضافة إلى حالتين من القتل بسبب "خطأ في الهوية" في كل من بئر السبع والقدس. قد يبدو ذلك للوهلة الأولى ثمنا باهظا، ولكنه ليس كذلك على الإطلاق مقارنة بما كان ينجم عن الصراعات الإسرائيلية الفلسطينية السابقة. ففي الانتفاضة الثانية قتل 100 إسرائيلي و 250 فلسطينيا في مارس 2001 وحده، وهو الشهر الذي شهد سقوط أكبر عدد من الضحايا. ولكن، حتى في ذلك الوقت لم تجتح إسرائيل مثل هذه الموجة من الكراهية.

من الجدير بالملاحظة أن مناخ الكراهية غير موجه فقط ضد المهاجمين الفلسطينيين، بل باتت الأقلية الفلسطينية في إسرائيل عرضة لموجة من جرائم الكراهية تكاد تكون غير مسبوقة. فهذا سائق حافلة في مدعين يتعرض لهجوم من قبل مجموعة من اليهود المدججين بالسلاح وينزلونه عنوة من الحافلة، وهذه امرأة فلسطينية من حيفا، ربما كانت مريضة عقلية، طرحت أرضا وتعرضت للضرب والركل في رأسها لمجرد أنها دخلت في جدل لفظي مع إسرائيلي يهودي.

بعض الجماعات اليمينية المتطرفة مثل ليهافا (اللهب) أو لا فاميليا (وهي مجموعة من مشجعي نادي بيتار القدس لكرة القدم) ينظمون باستمرار مهرجانات في المدن المختلطة التي يعيش فيها اليهود والفلسطينيون مثل القدس وحيفا واللد، حيث يهتفون بشعارات "الموت للعرب" ويطاردون المارة الفلسطينيين في الشوارع. وكثير من مواطني إسرائيل من الفلسطينيين يقولون إنهم يخشون الذهاب إلى المدن اليهودية أو حتى الانتقال في الحافلات.

وهناك مطالبات بمقاطعة المصالح التجارية التي يملكها أو يديرها فلسطينيون، وتأتي هذه المطالبات من شخصيات سياسية بارزة مثل وزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان، وهي مطالبات تجد أذانا صاغية لدى الكثيرين، حتى أن الناصرة ويافا والتجمعات السكانية الفلسطينية الأخرى داخل إسرائيل تكاد تخلو تماما من الزبائن اليهود.

يقول رون غيرليتز، مدير سيكوي (الفرصة)، وهي منظمة يهودية عربية مشتركة تعنى بالترويج للمساواة داخل إسرائيل: “تحرض القيادات السياسية، من مثل ليبرمان، وإيلي ييشاي (وزير الداخلية السابق) وغيرهما، على الخطابات المعادية للعرب وتعطي دفعا للرعاع المناهضين للعرب. كما أن مواقع التواصل الاجتماعي تساعد على نشر الكراهية، ولا أدل على ذلك من أن أي كتابة في هذه المواقع تتضمن عبارة "الموت للعرب" تتلقى الآلاف من الإعجابات.”

يرى غيرليتز أن السبب من وراء هذه الفورة من خطاب الكراهية والجرائم الموجهة ضد العرب هي أن الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل تزداد قوة، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية. ويبين غيرليتز أن اليهود الذين يخشون من فقدان احتكارهم للسلطة تصدر عنهم ردود أفعال غاضبة وعنيفة.

بينما نشأ جيل غيرليتز – الذي ولد في عام 1973 – في أجواء اتفاقية السلام مع مصر في عام 1979 ثم في أجواء اتفاقية أوسلو في عام 1993، نشأ الجيل الحالي في ظل العنف الذي شهدته الانتفاضة الثانية والعمليات العسكرية المتكررة ضد قطاع غزة. وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي يعلمها هذا الجيل.

ومع ذلك فثمة عنصر مهم آخر. منذ نهاية الانتفاضة الثانية في عام 2005، قبل الإسرائيليون بفرضية أن الأمر الواقع - أي استمرار الاحتلال والمستوطنات بدون أي مفاوضات حقيقية تضع حدا لهما – ليس فقط ممكنا وإنما أيضا مرغوب فيه. واعتقد الإسرائيليون أن الفلسطينيين سوف يقبلون في النهاية بهذا الأمر الواقع لما يعود عليهم فيه من مكاسب اقتصادية.

إلا أن هذا الاعتقاد المريح تعكر صفوه بسبب حقيقة صادمة مفادها أن العنف الذي بدأ قبل ثلاثة أسابيع ليس انتفاضة منظمة، وأن أي فلسطيني يمكن أن يكون المهاجم التالي، وأن الهجوم يمكن أن يقع في أي مكان، في القدس أو في تل أبيب أو في الضفة الغربية. وتشير دعوات كبار المسؤولين، بما في ذلك عمدة القدس، للمواطنين الإسرائيليين بحمل السلاح، إلى وجود قناعة لديهم بأن حكومتهم لم تعد قادرة على حفظ أمنهم وأن عليهم أن يعتنوا بأنفسهم.

يقود مثل هذا المناخ المجتمع الإسرائيلي اليهودي إلى دوائر في غاية الخطورة. ففي استطلاع للرأي جرى بين الناخبين اليهود في الأسبوع الماضي، أعرب 58 بالمئة منهم عن دعمهم لفكرة "النقل الطوعي" للفلسطينيين من الضفة الغربية، وهي فكرة كانت تعتبر من قبل على هامش السياسة الإسرائيلية وأصبحت الآن في القلب منها. يقول غيرليتز: “يعتقد بعض الشباب من اليهود الإسرائيليين أن بإمكان إسرائيل بالفعل طرد الفلسطينيين وحل المشكلة.”

يقول الدكتور ثابت أبو راس، وهو جغرافي سياسي ويعمل مديرا لصندوق أبراهام: “لقد نجح (رئيس الوزراء بنيامين) نتنياهو في إقناع المجتمع اليهودي داخل إسرائيل أن جميع العرب هم ضدهم. بعد إيران، انتقل نتنياهو إلى الفلسطينيين معتبرا إياهم مصدر الخطر الوجودي على إسرائيل. وهذه هي ورقته الأخيرة.”

سيسهل في ضوء ذلك فهم تصريحات نتنياهو التي تبدو متهافتة والتي تحدث فيها عن مزاعم بتورط الحاج أمين الحسيني، أحد القيادات الفلسطينية الشهيرة في فترة الحرب العالمية الثانية، في إيجاد صيغة "الحل النهائي" لليهود تحت النظام النازي.

في إشارة إلى اللقاء الذي جرى بين هتلر والحسيني في نوفمبر 1941 في برلين، قال نتنياهو: “لم يكن هتلر يريد في ذلك الوقت إبادة اليهود. ولكن الحاج أمين الحسيني ذهب إلى هتلر وقال له "إذا طردتهم، فإنهم سيأتون إلى هنا". (أي إلى فلسطين) فسأله هتلر "ماذا يجب أن أفعل بهم إذن"، فأجاب الحسيني "احرقهم".

جرت تصريحات نتنياهو تلك عليه انتقادات متعددة الأطراف ومن كل الاتجاهات دخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي. ليس فقط لأن ما قاله يناقض تماما كافة الأدلة التاريخية التي تثبت أن هتلر بدأ التخطيط لإبادة اليهود منذ عام 1923 وأنه قبل ذلك الاجتماع الذي جرى في نوفمبر 1941 كان النازيون قد قتلوا فعلا ما لا يقل عن نصف مليون يهودي، وإنما لأن تصريحاته برأت هتلر والنظام النازي من المسؤولية عن المحرقة، الأمر الذي جعل نتنياهو، فعليا، ينضم إلى نادي المنكرين للمحرقة، ولكنه منكر من نوع جديد.

 عندما يجول بالخاطر مشهد المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل وهي تتحدث في مؤتمر صحفي مشترك مع نتنياهو وتعلن على الملأ أن الشعب الألماني وقيادته كانوا مسؤولين عن المحرقة، فإن إصرار نتنياهو على أن المحرقة كانت في الواقع من صنع الفلسطينيين يعتبر أغرب ادعاء على الإطلاق شهدته إسرائيل – التي من المفروض أنها دولة اليهود – في تاريخها.

قد تكون صورة نتنياهو قد تلطخت نتيجة لهذه التصريحات الغريبة والعارية تماما عن الصحة. ولكن لربما كان لهذا الجنون منطق ما. يقول البرفسور موشيه زيمرمان، أحد أهم الباحثين الإسرائيليين في التاريخ الألماني: “لقد سعى نتنياهو إلى تجريم عرب اليوم بأعمال عرب الأمس.”

وبعد أن تتبدد السحب التي كونتها تصريحات نتنياهو، قد تبقى مستقرة في وجدان الإسرائيليين مزاعمه بأن الفلسطينيين يتحملون إلى حد كبير المسؤولية عن أسوأ جريمة تعرض لها اليهود في تاريخهم. ومثل هذه المشاعر ستساعد نتنياهو، لا ريب، في إقناع الإسرائيليين بأن الفلسطينيين هم أعداؤهم الأزليون الذين يستحيل أن تبرم معهم أي اتفاقية سلام. وإذ ذاك، ليس من الصعب فهم لماذا يظن عدد متزايد من اليهود الإسرائيليين بأن الترانسفير (النقل الجماعي للفلسطينيين) بات في مثل هذه الظروف حلا منطقيا.

(عن ميدل إيست آي)
0
التعليقات (0)