من سنن السياسة أن
التحالفات والمحاور لا تبقى إلاّ بالقدر الذي تسمح به الظروف الإقليمية لها أن تستمر؛ فإذا ما تغيرت الموازين وصعدت قوة ذات منعة وسيادة كان لزاماً على الآخرين أن يعيدوا حساباتهم، فلا يمكن لقوتين سياسيتين متعاظمتين أن تستمرا في الحلف ذاته أو التجمع عينه، والعرب في تجمعهم عام 1945م بما عرف حتى الآن باسم "جامعة الدول العربية" يمثل تحالفاً سياسياً، شكل في فترات متعددة محوراً لدول عدم الانحياز.
وقد برز دور جامعة الدول العربية بتبنيه لمطالب الشعب الفلسطيني بحقه في الحرية وتقرير مصيره بعد إنهاء الانتداب البريطاني، وقد وُضِعَ ملحقاً خاصاً بفلسطين ضمن ميثاق الجامعة، حيث تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية قبل جامعة الدول العربية عام 1964م بقرار من مؤتمر القمة العربي الأول عام 1964م، الذي دعا إليه الرئيس المصري جمال عبد الناصر في القاهرة.
وخلال سنوات طويلة، يرى كثير من الفلسطينيين أن قضيتهم تاهت بين قرارات الأنظمة العربية التي تمثلها جامعة الدول العربية، التي لا تعدو كونها مطالبات خطابية وأمنيات لا تدعمها تحركات الحكومات والسفارات العربية عوضاً عن الجيوش!
إن القمة العربية الأخيرة "الـ26" في شرم الشيخ حوت عبارات متواترة تأييداً للقضية الفلسطينية!
فلم تخل كلمة أي زعيم عربي من ذكر فلسطين والقضية الفلسطينية، وأنها لا تزال في "مقدمة اهتمامات الدول العربية"، كما قال الملك سلمان بن عبد العزيز، حتى إن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الذي تعاني بلاده من حرب مستعرة دعا إلى "ضرورة الاهتمام بالقضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية الأولى للأمة العربية".
"سيحتاج هذا النظام –بلا شك- إلى حليف فلسطيني فاعل على الأرض، وقادر على تمثيل تطلعات ذلك النظام، وعلى حركة
حماس أن تعد برنامجها الوطني الجامع، وتستمر في بناء تحالفاتها الفلسطينية والعربية والإقليمية؛ استعداداً لتلك اللحظة، وانسجاماً مع تلك المرحلة التي لا بد لها من أن تأتي قريباً"
ورغم كل ذلك إلاّ أن الفعل العربي لم يرق إلى مستوى التأثير، فهو إلى هذه اللحظة –بعد 13 عاماً- يرفع لواء المبادرة العربية للسلام التي أعلن عنها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2002م، والتي تهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967
وعودة اللاجئين وانسحاب من هضبة الجولان، مقابل اعتراف عربي بإسرائيل وتطبيع عربي كامل معها! وهي–بلا شك- تعدّ تفريطاً واضحاً بالحقوق الفلسطينية، بما تقدمه من تنازل مبدئي عن معظم أرض فلسطين، واعترافها بحق إسرائيل في اغتصاب الأرض، وتبرير كل جرائم الاحتلال للمحافظة على وجوده عليها! وهي رغم كل ذلك لم تلق ترحيباً ولا قبولاً إسرائيلياً!
ولا يزال التاريخ الفلسطيني يسجل أنه في 12 إبريل 1948م أصدرت جامعة الدول العربية قرارا بتوجيه الجيوش العربية نحو فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني وبعيد انسحابه المقرر في 15 مايو 1948م، إلاّ أن هذا القرار لا يزال حبراً على ورق، ورسماً لا فعلاً، بل لا يكاد يذكر في أدبيات العرب خوفاً من استحضار "العار والبوار"!
غير أن الحراك العربي الأخير الذي تقوده المملكة العربية السعودية لحسم الصراع في اليمن شكل حالة من التفاؤل بأن العرب قد يدركوا بأنهم من يجب أن يتحرك لانتزاع الحقوق العربية، وتشكيل نظامهم الأمني، وتقديم مصالحهم الجيوسياسية على أساس الاحتياجات العربية والإقليمية، وأنهم ليسوا بحاجة لاستجلاب الغرب للقيام بذلك الدور بالنيابة، والاكتفاء بدفع فاتورة الحساب، ومن ثم اجترار ويلات الذلة والتبعية والخضوع للشروط الأجنبية.
إن عملية "عاصفة الحزم" بما تمثله من تغير واضح في الموقف السعودي لصالح الخروج من حالة الصمت والمراقبة إلى حالة الفعل والمواجهة المباشرة، تعدّ بداية لتشكيل نظام عربي وإقليمي جديد يضم كلاً من المملكة السعودية وتركيا وقطر، وغير بعيد عنه باكستان ودول عربية أخرى تحتاج لدعوة لكي تنضم! هذا التغير والحراك العربي-الإقليمي الذي بدأ قطاره بالسير لا يمكنه أن يقف، فهو تجاوز "حالة الصمت" وسياسة "المراقبة السلبية".
إن أي تغير في منهجية العرب عن آخر أربعة عقود، التي اعتمدت مبدأ "عدم الانحياز"، والنأي بدولهم عن التحالفات الإقليمية، واعتماد المجاملات -الدبلوماسية- بين الدول العربية، كل ذلك سينعكس إيجاباً على مجمل القضية الفلسطينية باعتبار أن جيلاً من "العرب الجدد" سينشأ من جديد على إرادة الفعل وصوت الحرية ورفض التبعية للأجنبي.
ولا تزال قضية فلسطين-حتى اللحظة- هي محور اهتمام الشعوب العربية والإسلامية، وبالتالي فإن البعدين الإقليمي والعربي على أهمية بالغة في استراتيجية التحرر الفلسطيني على مبدأ المقاومة وانتزاع الحقوق.
وفي ظل إعادة صياغة
النظام العربي لنفسه، فإنه -في لحظة ما- سيبحث عن حليف فلسطيني قوي يعبر عن تلك الإرادة بالفعل، ويمثل رفض التبعية! وهنا لا بد أن تكون حركة حماس هي الوجهة بما تمثله من قوة ميدانية على الأرض، في ظل عدم موائمة لمشروع حركة فتح "السلمي"، الذي لن يكون معبراً عن الإرادة العربية والإقليمية في الضغط على إسرائيل وحلفائها في المنطقة.
إن نظاماً عربياً جديداً يتشكل في الإقليم، يمتد ليضم دولاً إقليمية كتركيا وباكستان، يعبر عن رؤية جديدة لإعادة صياغة المواقف على أساس من المصالح الحيوية التي لطالما تم تجاهلها خلال عقود مضت، استناداً إلى توفر حامٍ خارجي وقوة مقتدرة تحتاج إلى مال العرب للقيام بكافة الأعمال بالنيابة عنهم!
سيحتاج هذا النظام –بلا شك- إلى حليف فلسطيني فاعل على الأرض، وقادر على تمثيل تطلعات ذلك النظام، وعلى حركة حماس أن تعد برنامجها الوطني الجامع، وتستمر في بناء تحالفاتها الفلسطينية والعربية والإقليمية استعداداً لتلك اللحظة وانسجاماً مع تلك المرحلة التي لا بد لها من أن تأتي قريباً.