ها هي
سيناء التي تحدثت عن نفسها، ثم ساءلت من يقتلها ويدمرها، وهو في الوقت نفسه يدعي أنه يؤمنها ويحافظ على أمن الوطن من خلالها، ها هي اليوم تطرح على الوطن طريقا آخر، طريقا آمنا يضمن لها وللوطن النجاة من شر محدق، ومخطط ماحق. هذا الملف سيفتح اليوم أو غدا، أبواق الانقلاب يتحدثون عنه حديث المستحيل؛ أنه لا طريق آخر لسيناء غير مشروع تدميرها الجاري فيها الآن، يتساءلون أو ينكرون في صورة التساؤل: هل من سكة أخرى، أو بدائل غير تلك التي تذهب بها إلى الجحيم؟
ونحن وسيناء نقول لهم: إن الطريق موجودة، ومعروفة، وهي أيسر، وأربح للجميع، لكن هناك من يستحبون العمى على الهدى. لقد قالها قائد الانقلاب من قبل: الحل الأمني وبال على سيناء؛ لأنه على المدى القريب يقتل المواطنين والمواطنة، وعلى المدى البعيد يقتل الوطن والوطنية، ويدمر
الأمن القومي والوطني. إن المعالجة الأمنية العمياء كتلك الماثلة في أرض الفيروز مآلها التقسيم والانفصال على الأرض، أو الحرب بين أهلك وناسك، على حد تعبيره.
إن الطريق لا يمكن أن يكون في هذا الأفق الضيق الذي يصنعه الاستبداد وعقلية المعسكر التي لا تسمع ولا ترى إلا ما يتفق وفكرها الحربي المحدود. إن أمن سيناء لا يقوم إلا على رباعية من المهام والمفاهيم الاستراتيجية التي تقوم على ثوابت التاريخ والجغرافيا والتطور السياسي الحقيقي، لا تقوم إلا على ثوابت الوطن الواحد والمواطنة المتكاملة، لا يقوم إلا على أمن إنساني شامل وأمن حضاري فاعل، لا يقوم إلا على مراعاة المستقبل والمآلات التي قد تتحرك إليها المسارات الراهنة والبدائل الممكنة. هذه الرباعية هي:
أولا- الأمن القومي لم يكن ولم يعد ذلك المفهوم الضيق القائم على أبعاد عسكرية محضة، بل هو اليوم أمن إنساني شامل، أمن حقيقي يقوم عليه الجميع لصالح الجميع. إن تأجيج نيران الحرب الأهلية بين أهل سيناء هو على الضد من ذلك تماما. المجتمع السيناوي يحتاج إلى مزيد من التماسك والتكتل لأجل السلام الاجتماعي واللحمة الوطنية لا لأجل ضرب بعضهم ببعض، وإثارة النعرات القبلية والخصومات المفتعلة على النحو الذي يخطط له الآن. أمن سيناء هو أمن إنسانها بتمام الكلمة ومعناها، إن السياسات الخطيرة التي تقوم بها منظومة الانقلاب قد تؤدي مع تراكمها إلى مسارات انفصالية خطيرة في اطار تفكيك الدول وتوريط جيوشها في معارك مصطنعة أو متوهمة في داخلها في إطار إشغال هذه الدول التي تمثل خطرا على أمن
إسرائيل، وما يحدث في سيناء في تلك الآونة ليس بعيدا عن سياسات التهميش التي لا تصب في النهاية إلا في أمن إسرائيل.
ثانيا- لا أمن في سيناء قبل تحقيق المواطنة الكاملة لأهلها بلا تمييز ولا استبعاد ولا إقصاء ولا تهميش، إن مفهوم المواطنة الذي يشكل قاعدة في الدول الفاعلة المستقرة إنما يشكل صمام أمان حينما تعبر هذه المواطنة عن سياسات المساواة بين المواطنين بحيث لا تجعل من الجغرافيا مساحة لعزلهم أو تهميشهم وربما توطد المعاني التي تتعلق باعتبار أن مواطني سيناء مواطنون من الدرجة الثالثة أو الرابعة ينظر إليهم باعتبارهم محل شك وعدم ثقة، ومن المؤسف حقا أن يمارس الإعلام دورا مشبوها في تشويه صورة المواطنين في سيناء يجعلهم محل تخوين أو تحريض في ما يتعلق بالتعامل مع أهل سيناء، يؤكد على ذلك سياسات بعضها قديم وبعضها الآخر مستجد، فمع استمرار سياسات التهميش تستجد سياسات أخرى تتعلق بتفريغ منطقة عازلة لمصلحة الأمن الإسرائيلي، تفريغ بنسف البيوت وتهجير أهلها، ولا يمكن أن يصب في أمن الوطن بالاعتبار الذي يؤكده مفهوم الأمن الإنساني بامتدادات هذا المفهوم، إذ يعتبر أمن إنسان سيناء ومواطنها جزءا لا يتجزأ من تمكين مفاهيم المواطنة بحيث تؤسس لعلاقة حقيقية وجوهرية من الولاء والانتماء، أما أي سياسات أخرى فإنها لا تصب إلا في إضعاف وتشويه هذه العلاقة وعدم القيام بتمكين معاني المواطنة بكل مستلزماتها.
ثالثا- سيناء
التنمية هي أول أبعاد الأمن في سيناء، إن المدخل التنموي في الاقتراب من قضية سيناء يعبر في حقيقة الأمر عن استكمال لجوهر الأمن الإنساني ولا يمكن بأي حال اتباع الفراغ السكاني في سيناء بتفريغ متعمد للشريط الحدودي مع قطاع غزة، كل ذلك يعبر عن رؤية عليلة وكليلة لمنظومة الانقلاب، لا يكفي فيها أن تدبج الخطب بكلمات الزينة حول تنمية سيناء والتي لا تتخذ بهذا الشأن أي سياسات تنموية فعلية على الأرض، ولكن يظل هذا الحديث إبراء للذمة وذرا للرماد في العيون، ووعودا متكررة لتنمية سيناء، وهي في حقيقة الأمر تشكل منطقة احتكار أمنية وعسكرية، وفي هذا السياق فإن هذه السياسات التي لا تبادر إلى تنمية سيناء أو تلتف حول هذا الموضوع إنما تشكل تكريسا لفراغ جغرافي وسكاني لا يشكل تأمينا حقيقيا لأرض سيناء، أمن سيناء في تنميتها وعمرانها بامتداد كثافة سكانية تجعل من المكان مؤمنا بأهلها وبشرها ضمن عملية متراكمة في التنمية المستدامة واستثمار كافة الطاقات والإمكانات البشرية والمادية لمصلحة أهل سيناء والارتقاء بهم، أما أن ينظر إلى المكان باعتباره جغرافيا مصمتة يشكل البشر فيه أمرا هامشيا فإن ذلك أخطر ما يكون في السياسات التي تكرس معاني التهميش وسياسات الفراغ والتفريغ، وتأجيل متوالٍ لسياسات التنمية وتفعيلها على الأرض، تنمية البشر وعمران الجغرافيا يحقق لسيناء القدرة على تأسيس استراتيجية تقوم على "أمنها في نمائها".
رابعا- تأمين مستقبل سيناء هو المدخل الحقيقي لأمن واقعها الراهن، ولا شك أن هذا لا يقوم إلا على استراتيجية بعيدة المدى، النظر إلى المستقبل في سيناء يجب أن يتحرك ضمن رؤية استراتيجية شاملة لمفهوم الأمن الممتد الذي يجعل من سيناء البوابة الشرقية للوطن
المصري، ولا بد أن يدخل في الحساب قاعدة تأسيسية أن أمن سيناء لا يمكن أن يمر- حتما وقطعا- عبر أمن إسرائيل، ومن هنا فإن تصريحات هنا أو هناك من المنقلب التي تجعل أمن إسرائيل محورا للحركة والممارسة إنما تشكل في حقيقة الأمر انقلابا غير مسبوق في "مفهوم العدو"، وهو أمر من الخطورة بمكان أن نقلب الأمور فنقلب العدو حليفا وصديقا بينما نصم أهلنا في غزة كأعداء ينالون من أمن مصر، لا شك أن مستقبلا يجعل من سيناء موقعا لا موضعا على ما يؤكد "جمال حمدان" هو الذي يضمن اعتبار سيناء امتدادا استراتيجيا لامتداد جغرافي لأرض الوطن مصر، وإن إقامة علاقات الثقة والأمان والتأمين لا بد أن يعبر عنها بسياسات مقصودة في جعل مفهوم الأمن القومي يأخذ مكانه الأمين والرصين ضمن منظومة للأمن الإنساني الذي يضمن مستقبل سيناء بتمكين أبنائها لا بتهميشهم أو إغفالهم أو تأجيل عملية إنمائهم.
تعتبر هذه الرباعية التي تحدثنا عنها "مخرجا آمنا" حينما تتحدث سيناء عن نفسها وتصدع باحتياجاتها ومطالبها في الأمن الإنساني والإنماء الحقيقي والعمران الحضاري، إنها سيناء حينما تكون في القلب والعقل خروجا على سياسات الإغفال والإهمال، إن جغرافيا البشر غير جغرافيا المكان والرمال، إنها جغرافيا تجعل من سيناء مدخلا لتشييد مفهوم الأمن وعمرانه وأمان مواطن سيناء وإنمائه.