أحد أكبر الأوهام التي تتم صناعتها بشكل مكثف في الأشهر الأخيرة وفي سياق تقويض ما تبقى من مسار الثورات، تحديدا التأسيس لتشاركية سياسية تضمن الحد الأدنى من إمكان التداول على السلطة، هي اعتبار "
الربيع العربي" مصدرا لصناعة
الإرهاب.
في
تونس على سبيل الذكر لا الحصر، إثر كل عملية إرهابية تنتهي بخسائر في الأرواح واستشهاد عدد من التونسيين سواء من السياسيين أو الأمنيين او العسكريين تنطلق حملة منسقة وممنهجة ليس للتصدي للإرهاب بل لتوظيف الإرهاب لوقف مسار التاسيس للديمقراطية.
وفي خضم هذا الغبار من الدعاية الفجة يتم تمرير فكرة رئيسية أن الثورة في تونس أتت بالإرهاب لربوعها.
ومن ثمة يجب حسب هؤلاء أن نختار إما "النجاعة الأمنية" بالمقاييس المعروفة التي كانت عليها فيما قبل وإما الاستمرار في حالة "الفوضى" الحالية. يمكن توصيف هذه الحالة المرضية باختصار بأنها استعمال الإرهاب بوصفه تفويضا مطلقا لتبرير الانقلاب.
وبمعزل عن النقاش المؤامراتي العقيم الذي يشكك في صدقية تورط عدد من منتسبي التيار "السلفي الجهادي"، فإنه من المؤكد في المقابل أن التكتل الواضح في السياق العربي لمواجهة ووقف مسار التأسيس للديمقراطية يقوم بشكل حثيث بالاستفادة من الإرهاب في خطته للانقلاب.
سأعرض ثلاثة أفكار تدحض في الجوهر هذا الطرح:
1-استبداد
بن علي لم يهيئ الأجهزة المسلحة للدولة لمواجهة الإرهاب بل لإرهاب معارضيه:
لنبدأ من بديهيات أساسية في تجارب مواجهة الإرهاب. لم يكن هناك البتة أي حالة لم تتلقى فيها الدولة وقواتها الأمنية والعسكرية في بدايات المواجهة ضربات موجعة من قبل قوى الإرهاب. هذا يرجع لسبب بسيط. كل الدول التي واجهت الإرهاب كانت قواتها الأمنية والعسكرية مهيأة لمواجهات واضحة المعالم سواء نظامية كلاسيكية أو ضد الجريمة المنظمة.
تكتيكات الإرهاب كانت دائما مفاجئة. لنأخذ على سبيل المثال التجربة الجزائرية في مقاومة الإرهاب، من المعروف أن قوات "الدرك الوطني" و"الجيش الوطني الشعبي" تلقت ضربات موجعة وكبيرة بين سنتي 1991 و1995 قبل أن تتأقلم مع الوضع الجديد، وتغير تدريجيا تكتيكاتها وهيكلة قواتها لمواجهة أكثر نجاعة تكتيكات "الجماعة الإسلامية المسلحة" وبقية التنظيمات التي تدور حولها.
صعوبات مواجهة الإرهاب الآن لا يجب أن تخفي نجاحات، لكنها أيضا لا يمكن أن تجعلنا نتجاهل عدم كفاءة الجنرال المخلوع بن علي، إذ لم يقم بأي جهود جدية لرسكلة وتهيئة الأجهزة المسلحة للدولة طيلة أكثر من عقدين من حكمه لمواجهة الإرهاب.
إذ رغم تركيزه الخطابي على مقولة مقاومة الإرهاب فإنه لم يفعل تقريبا أي شيء للقيام بما يلزم في إعادة رسكلتها على أساس تكتيكات مقاومة الإرهاب، رغم أن الإرهاب كان نشيطا على حدودنا.
وبالمناسبة قلة العمليات الإرهابية تحت بن علي لا ترجع لصد محاولات التنظيمات الناشطة على الحدود مع الجارة الجزائر، إذ أن المحاولات الإرهابية القليلة التي تمت مثل بعض الهجمات على المراكز الحدودية حققت جزءا من مبتغاها، بما في ذلك عملية سليمان التي تسللت مجموعتها من جبال الشعانبي بعد ان استقرت فيها لفترة ثم لتتوجه الى منطقة جبلية على بعد بضع عشرات الكيلومترات في الضاحية الجنوبية للعاصمة، ولم يتم اكتشافها الا بعد ذلك وهو لم يحصل البتة بعد الثورة.
الحقيقة ان عقل التنظيمات الارهابية لم يبدأ في تركيز محاولاته لاختراق تونس لم يتم إلا بعد الثورة في سياق استغلال توسع التيار "السلفي الجهادي"، وضع الحريات العامة، وحالة الاضطراب وسهولة الحصول على السلاح التي بدأت مؤشراتها واضحة منذ شهر ماي 2011 (التصدي لعمليات تهريب اسلحة من ليبيا في تطاوين ورمادة ثم اعتراض مجموعة ارهابية في "الروحية").
2- "النجاعة الامنية" الصلبة لن توجد الا ضمن امن جمهوري مستديم وهو الامر الممكن فقط في سياق دولة ديمقراطية. في المقابل الاستبداد يتعايش مع الارهاب ولا يقتلعه. نحن في تونس الان في وضع دقيق: من جهة يجب ان تتأقلم الاجهزة المسلحة للدولة بما في ذلك مؤسساتها الاستعلاماتية مع الوضع الجديد وتستوعب التكتيكات والتدريبات الخصوصية لمقاومة الارهاب، ومن جهة أخرى يجب ان نعالج اثار الثورة الجانبية السلبية على تماسك الجهازين الامني والعسكري وخاصة الاستعلاماتي للدولة حيث لا يمكن أن تتواءم الديمقراطية مع الترتيبات القديمة للجهاز قبل الثورة.
أي أننا ازاء مهام اصلاح في مستويين: قصير الامد يخص التأقلم السريع مع تكتيكات مقاومة الارهاب تدريبا وتسلحا وتجهيزا، ومتوسط وبعيد الامد يخص الاصلاح المؤسسساتي والعملياتي والهيكلي للجهاز لكي يتأقلم مع شروط الدولة الديمقراطية.
إن "النجاعة الامنية" تحت بن علي لم تكن مرتبطة بما يفعله في مواجهة الارهاب، بل بالشروط الضعيفة لدولة الخوف وما تسمح به من سطوة مؤقتة وهو ما برهنت على هشاشته الثورة عمليا وبالقوة المادية، وايضا لان الارهاب كان يضع تركيزه في بؤر أخرى.
3-الفارق بين ارهابيي قبل الثورة في تونس وارهابيي ما بعد الثورة لايزال فارقا كميا وليس نوعيا: كان عدد المساجين الذين حوكموا بقانون "مقاومة الارهاب" تحت نظام بن علي حوالي 2000 سجين، كان منهم حوالي 350 من المصنفين من ذوي "التدريب العسكري" او ممن نشطوا في تنظيمات عسكرية سواء في افغانستان او الجزائر او العراق.
وفي هذا الاطار كشفت "سجلات سنجار" (المدينة الواقعة على الحدود السورية العراقية حيث حصلت القوات الامريكية على سجلات سرية لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين لمقاتليها الاجانب سنة 2007) على حضور تونسي بارز الى جانب الليبي في العراق قبل الثورة وكان المقاتلون التونسيون هناك ينتقلون من تونس الى العراق عبر سوريا (بدعم لوجستي واستعلاماتي من النظام السوري انذاك) تحت انف نظام بن علي بل كان حضورهم في المعارك في العراق بارزا سواء على مستوى العمليات العادية او الانتحارية.
هذا في الوقت الذي تجاوز عدد الموقوفين بعد الثورة مساجين عهد بن فإن المصنفين ضمن دائرة "التدريب العسكري" لا تتجاوز حتى ضعف العدد أعلاه.
ومصدر التدريب والنشاط المسلح في الاغلب خارج تونس (ليبيا، سوريا، مالي، الجزائر) ولكن حتى اولائك الذين نشطوا في معسكرات ارهابية في تونس في الشعانبي او جبال خمير كانوا يخضعون لتأطير جزائريين ينتمون لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي".
ومثلما يرشح من مكالمة عبر "سكايب" (تم التقاطها ونشرها من قبل وزارة الداخلية التونسية) بين ناشط ارهابي من تونس ومؤطر ذي لهجة مشرقية فإن ميزة تونس في كم المستعدين للالتحاق بالنشاط الارهابي وليس في نوعيتهم ودرجة كفاءتهم العملياتية.
الثورة فسحت المجال للارهاب للاستثمار في المآسي الهيكلية العميقة لمخلفات دولة الاستبداد خاصة في الجهات الحدودية المهمشة وعدم قدرة الحكم بعد الثورة على استيعاب هذه المخلفات، واستغلال حالة "العفو العامة" (مجسدة خاصة في "العفو التشريعي العام" في فيفري 2011)، ومساحة الحريات الهائلة، لتأسيس خلاياه لغدر المجموعة الوطنية. كل ذلك سمح له بتوسيع دائرة المنتدبين والمرشحين للانتداب.
لكن الى حد الان الفارق بين ارهابيي ما قبل الثورة وما بعدها في الكم. اذ ان التدريب والتأطير والتسليح يأتي اساسا من خارج تونس. ربما ما يجري في سوريا يغير بعض الشيء الوضع الراهن من خلال رجوع قيادات ارهابية تونس جيدة التدريب ومتمرسة بشكل كبير على المعارك اليومية القوية الدائرة هناك وقادرة بالتالي على القايدة والمبادرة والتخطيط.
بناء عليه فإن هناك ثلاثة اسبابا، على الأقل، لعدم السقوط في فخ التفويض للانقلاب عبر مبرر الارهاب. "الربيع العربي" لم يصنع الارهاب، الذي كان موجودا من قبل، وتعايش مع الاستبداد، بل يعاني من اثاره المتتفاقمة.
كل الثورات تمر مباشرة بفترات انتقالية تصبح فيها الدولة هشة. ومخلفات الاستبداد من حالات إرهابية ورثناها تفاقمت باستغلال تلك الهشاشة.
ليس هناك خياار بين استرجاع الاستبداد لمقاومة الارهاب والحفاظ على الديمقراطية مع "الفوضى". الخيار الوحيد الممكن والحل المستديم لمواجهة الارهاب هو التحصين الديمقراطي للدولة.
وفي النهاية أليس من المفارقات البارزة أن من يريد الانقلاب على الديمقراطية لمواجهة الإرهاب إنما في النهاية يحقق السبب الرئيسي للإرهاب الآن والمعلن بوضوح في كتاباتهم المرجعية ("ادارة التوحش") والأبحاث والاستنطاقات للمورطين في الارهاب وحتى النصوص والتصريحات العلنية اي خلق الفوضى واضعاف الدولة لافشال "النظام الكفري الديمقراطي".
وبهذا المعنى فإن القول بالتحالف الموضوعي بين الانقلاب والإرهاب ليس من قبيل الإعلانات البلاغية والشعاراتية والتنميطات المؤامراتية بل هو ترجمة مباشرة للوقائع.