قضايا وآراء

هل كانت عشرية حمراء؟ 3/3

بحري العرفاوي
إنّ من يفخَرُ بكونه هو من قدّم المجهودَ الأكبر في تعطيل الإسلام السياسي، عليه ألا يتبرّأ من المسؤولية- (الأناضول)
إنّ من يفخَرُ بكونه هو من قدّم المجهودَ الأكبر في تعطيل الإسلام السياسي، عليه ألا يتبرّأ من المسؤولية- (الأناضول)
3 ـ بدايات سيئة

وفي الوقت الذي كانت فيه الجماهير الشعبية تملأ الشوارع وتحرس الممتلكات وتواجه خطرا غير مرئي، كانت عديد وسائل الإعلام تحاول بث الرعب في قلوب التونسيين من خلال ترويج أخبار زائفة وادعاءات بحصول عملياتٍ إجرامية في أماكن معينة ومن خلال الحديث عن تلقي نداءات استغاثة من مواطنين بزعم تعرضهم لهجمات إجرامية.

كان المقصود هو تخويف الناس وجعلهم يندمون على التفريط فيما كان يسود البلاد من أمن وأمان حتى وإن كان الثمن فقدان الحريات واستشراء فساد المتنفذين.

لقد عملت عدة وسائل إعلام من البداية على النيل من أشواق "الثورة" بما هي عنوان للتحرر وللخروج من مرحلة إلى أخرى، فكانت القلابس لأول مرة تقدِّم رموزا سياسية في أشكال تدعو إلى السخرية، وكانت أغلب الملفات التلفزية التي يديرها منشطون فارغون مُعَدّةً خصيصا لتتفيه السياسيين وإحراجهم وتقديمهم للمتابعين في صورة مُهينة.

كانت تلك المنابر تستهدف أساسا تيارا محددا وهو التيار الإسلامي، لم تكن تبحث عن الحقيقة ولا عن فكرة جدية يمكن طرحُها للنقاش، إنما كان الهدف غيرَ بريء.

يقول الإعلامي الطاهر بن يوسف في كتابه الإعلام التونسي من خدمة النظام إلى خدمة الأجندات: "إنّ المتتبع للشأن الوطني يلاحظ بسهولة تشكل مشهد إعلامي سمعي بصري قوي ذي خط تحريري معارض للسلطة القائمة اتخذ من حرية التعبير المتوفرة فرصة لإطلاق النار على كل ما يتصل بالهوية العربية الإسلامية باسم الحداثة والتطور وروح المعاصرة . ومكونات هذا المشهد اعتمدت إثر انتخابات 23 أكتوبر 2011 أسلوبا يتمثل في إطلاق فزاعات عديدة الواحدة تلو الأخرى للإيهام بأن بعض المكتسبات والحقوق أضحت في خطر على غرار: حرية الإعلام، حقوق المرأة، حرية التعبير، حق التظاهر"، ص 138، 139.

في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الشعبية تملأ الشوارع وتحرس الممتلكات وتواجه خطرا غير مرئي، كانت عديد وسائل الإعلام تحاول بث الرعب في قلوب التونسيين من خلال ترويج أخبار زائفة وادعاءات بحصول عملياتٍ إجرامية في أماكن معينة ومن خلال الحديث عن تلقي نداءات استغاثة من مواطنين بزعم تعرضهم لهجمات إجرامية.
ظل الإعلام في بلادنا لعقود في خدمة السلطة مختزلة في شخص الرئيس تروج لصورته النمطية ولسياساته وتتصدى لكل من يهمس بما يخالفه أو يبدو أنه يخالفه.. وربما  كان ثمة ما يبرر ذاك الخضوع وهو استحكام قبضة الاستبداد وضعف المجتمع المدني وخفوت صوت المعارضين والحقوقيين في ظل دعم لا محدود من الدوائر الخارجية لرؤساء الدول الضعيفة باعتبارهم حارسين لمصالحها ومنفذين لتوجيهاتها الكبرى.. كانت ثمة منابر قليلة ومحدودة الانتشار تعبر عن رغبة عدد من التونسيين في الإصلاح وتنقل همومهم ومشاغلهم ومظالمهم مثل جريدة "الرأي" و"المستقبل" و"الموقف" و"المجتمع" و"الحبيب" و"البديل" و"مواطنون" و"أطروحات"،.. غير أنها كانت تفتقد السند المادي للاستمرار وكانت تتعرض كل مرة للمصادرة بما يؤثّر على ميزانيتها فيُضعفها ويضطرها غالبا للتوقف التلقائي بدافع العجز.

بعد 14 كانون ثاني/ يناير 2011 وجد الإعلام نفسه بغير "آلهة" فراح يبحث في أغلبه عن "آلهة" يختارها لنفسه تماما كما الطفل الصغير الذي اعتاد مرافقة والده في الزحام وحين أضاعه راح يبحث في وجوه الرجال عن ملامح أبيه ولم يتخذ قرارا بالبحث عن مساره وباختيار طريق سَيْره.

لقد عبّر أغلبُ الإعلاميين عن درجة من الخضوع ل"سياسيين" متفرّقين كما عبر أغلب السياسيين عن خضوع لجهات خارجية متعددة.. لم يتجنّد الإعلام للقيام بدوره في صناعة الوعي وإنتاج المعاني ومرافقة الجماهير في مسار أشواق ثورة كان يمكن أن تُرسي بالتونسيين في ميناء الأمان والعدالة والتنمية وتحقيق قَدْر من السيادة الوطنية ووحدة المجتمع.. لم يقم الإعلام برسالته في التصدي للفوضويين وللفساد ولمحاولات التسلل الخارجي إلى القرار الوطني الحر.. كثير من الإعلاميين كانوا يشتغلون تحت إمرة مختبراتٍ خفية وكانوا جنودا في معسكراتٍ سرية تمارس حرب المصطلحات وحرب التشكيك والتشويه والإحباط...الإعلام الذي حرّرته أشواقُ الثورة من "الآلهة" القاهرة راح يبحث بنفسه عن آلهة جديدة يخدمها ويستظل بمالها وبتجهيزاتها وبمصادر معلوماتها السرية.. لقد قبل الكثير من الإعلاميين أن يكونوا أدواتٍ طيعةً بين أيدي أطراف متنفذة غامضة ولكنها صانعة للحوادث الكبرى.

لم يكن من باب الشجاعة والثورية والأمانة الإعلامية خوضُ حرب ضد حكومة الترويكا وضد رئاسة الجمهورية وضد بعض الرموز التي كانت في جبهة المعارضة للنظام السابق، ولم يكن من باب الانحياز للفقراء والمحرومين مبالغةُ وسائل إعلامية عديدة في نقل مظاهر البؤس والحرمان والكوارث الطبيعية كما لو أن الحكام الجدد هم من أنتجها ولم يمض على انتخابهم إلا أشهر معدودات.

ولم يكن من باب دعم الإبداع والثقافة ولا من باب الترفيه عن التونسيين المبالغةُ في بث حلقات "القلابس" وتفاهات من يزعمون أنهم فكاهيون وممثلون ومغنّون وهم يسخرون من رموز وطنية ومن شخصيات نضالية وثورية بهدف الحطِّ من شأنهم وتجرئة العامة عليهم وإفقادهم كل ثقة في النفس وفي الشعب أيضا حين يجدون أنهم أصبحوا محل تندّر وامتهان في مجتمع لم يتدرّب على فنون النقد وأدب الاختلاف وأخلاق المعارضة.

إن أغلب وسائل الإعلام متهمة بتضييع فرصة ثمينة توفرت للتونسيين كي يبنوا وطنا وكي يحققوا عدالة وتنمية وكي ينعموا بحرية مسؤولة وبأمن مدني وأمان نفسي، إنهم مسؤولون عن تخليق الفوضى وتمكين الفاسدين من العودة إلى السطح بل وإلى الجلوس إلى مقود القيادة.

لم يكن خافيًا على التونسيين يومها أن أغلب وسائل الإعلام قد أصبحت في وضع اصطفاف خلف أحزاب ولوبيات المال وأن أغلب "الملفات" التي تُقدّم للمشاهدين إنما هي وَصْفاتٌ مُعَدّةٌ في مُختبراتٍ يُديرُها خبراء في صناعة الوهم وفي تصنيع "نجوم" من رماد وفي تخريب الوعي وفي إشاعة الحيرة والقلق واليأس.

أغلب السياسيين يتحمّلون مسؤولية تهشيم صورتهم بسبب حرصهم المرَضي على الظهور الإعلامي وقبولهم الجلوسَ حيث لا يليق بهم الجلوسُ فأساؤوا لأنفسهم وللسياسة ولمشاريعهم التي قد يكون فيها الكثيرُ من الصواب.

الفشل ليس دائما بسبب الآخرين، إنما علينا تحمُّلُ مسؤولياتنا في كل النتائج التي تنتهي إليها تجاربنا السياسية وخاصة حين يتعلق الأمر بالحُكم وخاصة حين يكون الحُكم مُستحَقّا بانتخابات ديمقراطية.

لقد كان حُكام ما بعد انتخابات التأسيسي مرتبكين وخائفين، وهذه الحالةُ مفهومة، فلم تكن لهم تجربة في الحكم ولا معرفة بدواليب الدولة بل وكانوا مُبعَدين عن عوالم الناس إما بسبب التهجير وإما بسبب الملاحقات الأمنية.

لم يكن مسموحًا لهم قبل 2011 بالتواجد في مؤسسات الدولة ولا في المنظمات الوطنية، وكلما "اشتُبِهَ" في انتماء شخص لجهة معارضة اعتُبِر متسللا كما لو أنه تسرّب من جهة معادية.

بعد 14 كانون ثاني / يناير 2011 وجد الإعلام نفسه بغير "آلهة" فراح يبحث في أغلبه عن "آلهة" يختارها لنفسه تماما كما الطفل الصغير الذي اعتاد مرافقة والده في الزحام وحين أضاعه راح يبحث في وجوه الرجال عن ملامح أبيه ولم يتخذ قرارا بالبحث عن مساره وباختيار طريق سَيْره.
وقد تجلت هذه الحقيقة خاصة في اتحاد الشغل ونجد الدليل على كلامنا في اعترافات حسين العباسي في كتابه تونس والفرص المهدورة حيث يكشف عن حقائق داخل الاتحاد إثر مجيء بن علي للسطلة وبدء حلّ ازمة الاتحاد قائلا:" تم الأمر إذن باعتماد لجنة مشتركة وكان الانطلاقُ في بيع بطاقات الاشتراك في الاتحاد، وهو ما فتح الباب أمام من كانت له الأموالُ أن يشتري بطاقات أكثر. وكان هناك اتجاه معين له أموال أكثر من غيره للاشتراك وهو الاتجاه الإسلامي، فالمنتسبون اليه اعتبروا ذلك فرصة ذهبية بالنسبة إليهم لتشكيل قوة كبيرة داخل الاتحاد وتقوية الهياكل المحسوبة عليهم وافتكاك المنظمة، وقد ساعدهم في ذلك نزوعهم الحركي الكبير، فتسللوا إلى الاتحاد أفواجا" ص 89.

إن مفردة "تسلل" تُحيل إلى عقلية إقصائية وتُفسّر ما حدث ويحدث من تحالفات مع كل الآخرين بما في ذلك السلطة لمنع الإسلاميين من التواجد داخل المنظمات والجمعيات، قد يكون لدى الإسلاميين "نزوع حركي" كما يقول العباسي، وقد تكون صلةُ الانتماء للجماعة  هي ضمن الانتماء لمنظمة أو جمعية، وضمن انتماء وطني أصيل، ولكن هذا "النزوع" لا يختصون به لوحدهم، فكل المنتمين لأحزاب إيديولوجية لا يتخلصون من ولائهم لأحزابهم  عند انتمائهم لأي منظمة أو جمعية، بما في ذلك موقف حسين العباسي، إنه "نزوع" حقيقي لميولاته الفكرية والسياسية وله مطلق الحق في ذلك ، ولكن أيضا، ليس له حق إدانة الآخرين بما يمارسه هو.

هذا "النزوع" لدى قوى معادية للإسلاميين هو الذي سيجعلهم يُشكلون جبهة داخل الاتحاد بتوجيه من السلطة، وفي كتاب حسين العباسي نقرأ: "ولكن كان هناك ما هو أبعد وأخطر إذ كانت هناك مجموعة من الشرعيين منحازة الى الإسلاميين داخل المكتب التنفيذي. فحين جاء المؤتمر وجدنا أنفسنا أمام قائمتين متنافستين جديا، قائمة تتكون من الشرعيين ولكنهم مسنودون من الإسلاميين الذين ترشح عدد منهم أيضا، وقائمة أخرى تنسج خيوطها مع السلطة، وبما انه لم يكن لدينا أمين عام، وكان الموقف مرتبكا فيبدو أن السلطة تدخلت لإقناع قسم كبير من المكتب التنفيذي ليكون الأمين العام القادم هو إسماعيل السحباني ليتم انقاذ الاتحاد من الإسلاميين" ص 91.

مثل هذا "الإرث" من العداوة تجاه الإسلاميين يُسعفنا بتفسيرِ ما تعرّض له بعض قادة اتحاد الشغل من مهاجمة على صفحات التواصل الاجتماعي، ونحن نفهمه ولا نبرّره، ولستُ أتذكر موقفا سلبيا صدر عن قيادات حركة النهضة أو شركائها في حكومة الترويكا.

ما كان يُروَّج على مواقع التواصل الاجتماعي بعد 2011 هي صورة الأمين العام الأسبق عبد السلام جراد (ترأس اتحاد الشغل من 21 سبتمبر من سنة 2000 إلى سنة2012 )، وهي صورة يظهر فيها الأمين العام منحنيا أمام الرئيس بن علي مؤديا التحية، ولا يُعلم إن كانت الصورة حقيقية أم معدّلة، وكان المقصود بنشر الصورة هو تذكير الاتحاد بمواقفه التي كانت مهادنة للسلطة وللسؤال عن سرّ الشراسة التي يُبديها قادة الاتحاد في "مواجهة" حكومة منتخبة مازالت تتحسس ملفات الحُكم، وقد كانت أول كلمة توجه بها الرئيس منصف المرزوقي للاتحاد هي التي طلب فيها إمهال الحاكمين الجدد ستة أشهر فقط، ولكن طلبه لم يُستَجَبْ له، وكان ضغط الاتحاد شديدا ومُنهِكا حتى قال رئيس الحكومة يومها حمادي الجبالي :"إن محنة السجن أهونُ من محنة الحكم" وقد صرّح محسن مرزوق مرة بأن المعارضة ستجعل الحاكمين الجدد يشتغلون مطافئ حرائق، ولعل أخطر اعتراف هوما صدر عن حسين العباسي أثناء حفل تقديم كتابه "تونس والفرص المهدورة" في أحد النزل بالعاصمة يوم 17 مارس 2023، حين قال إن الاتحاد لم يترك فرصة للإسلام السياسي يتنفس فيها، وتواصلت اعترافاته في عدد من القنوات والاذاعات، ولعل أخطر مفردة قالها العباسي هي مفردة "سلاح" حين قال أن الكثير من الاعلاميين "كبّوا سلاحهم" "ولكن الاتحاد لم يكبّ سلاحه"،  ومفردة "سلاح"  رمزية بالتأكيد، ولكن إحالتها حربية ، ولا تكون الحرب إلا مع عدوّ.

وسنجد مثل هذه الشحنة "القتالية" مبثوثة في مواطن عدة من الكتاب، فهو لم يخاطب وزير داخلية حكومة الترويكا بعد أحداث 09 أفريل 2012 بشارع الحبيب بورقيبة، خطابا نقابيا ولا سياسيا بل كان خطابه "قتاليا" يقول في كتابه :"اتصل بي علي العريض حينها وأشار إلى بيان الاتحاد ، سألته إن كان قرأه جيدا فأجاب بالإيجاب ، فقلت له: وأنا أيضا قرأت منشور وزير الداخلية ، وأنه يمكن اعتبار بيان الاتحاد ردا على المنشور، فقال لي : هل تريد القول إننا دخلنا مرحلة ليّ الذراع؟ فأجبته بالقول إن مسألة ليّ الذراع لم تنطلق الآن، بل كان ذلك منذ زمن طويل، أما الآن فقد دخلنا مرحلة كسر العظام" ص 161.

يتحدث هنا عن منشور وزارة الداخلية الذي يُحجّر التظاهر بشارع بورقيبة بعد حادثة 09 أفريل 2012، وعن بيان الاتحاد الذي جاء فيه بأن الاحتفال بعيد الشغل في غرة ماي سيكون بذات الشارع كسرا لمنشور التحجير.

من حق اتحاد الشغل بل ومن واجبه التصدّي لكل قرار غير دستوري ولكل إجراء يحدّ من الحريات، غير أن ما يلفت انتباه المتابع هو أسلوب الخطاب وشحنة "الحرب" المخبّأة فيه، فقد مرّت مرحلة ليّ الذراع ودخلنا مرحلة "كسر العظام"، بمعنى أنها معركة وجود يستحيل معها تعايش طرفين متناقضين.

لقد كان الاتحاد حاضرا بقوة وفاعلا في المشهد بل وقائدا حقيقيا يفرض شروطه ويملي اختياراته ويضغط على السياسيين حتى قبل انتخابات 2011، فلا يمكنه القول بأنه لم يكن شريكا في أزمة العشرية السابقة، فهي عشرية من إنتاج قوى سياسية وإعلامية ونقابية وثقافية ومالية متعددة، ومحاولة إلقاء المسؤولية كاملة على حركة النهضة هي محاولة لا تؤكدها الوقائع، فرئاسة حمادي الجبالي للحكومة استمرت من 26 ديسمبر 2011 إلى 13 مارس 2013، ليخلفه علي العريض من 14 مارس 2013 إلى 28 يناير 2014. وكان الرجلان واقعين تحت ضربات ميدانية مهينة ومُذلة لا يقدران على مواجهتها لا بالقانون ولا بأجهزة الدولة لاعتقادهما بان الزمن ثوري ولا يجوز لاي سلطة الحدُّ من حرية النقد والتعبير حتى وإن كان التعبير سخرية وتحريضا وترذيلا.

وربما كانا خائفين من ممارسة "الحسم الثوري" إذ لا أحد من السياسيين كلهم كان واثقا من أنه كان ثوريا أو أنه زعيمٌ ثوريّ.

وفي حين كانت حكومة الترويكا أشبهَ ما تكون بـ "توليفَةً" هشة، كان الاتحاد أشبه ما يكون بـ "ماكينة" مركّبة من عدة "قطع" حمراء، وكانت تلك الماكينة تتحرك بوقود إيديولوجي أحمر، إنها ماكينة مصمَّمة جيدا وأضواؤها قوية جدّا وليس لها قلب يحب أو يُشفق.

التاريخ يصنعه المقتدرون وهو ليس أُمّا ولا أبًا يمشيان على خطى الضعفاء من أبنائهما، إنه لا ينتظر أحدا ولا يُبرّر لفاشل فشله ولا لضعيف ضَعفه.

كان الاتحاد هو القوة الوحيدة الجاهزة للّعب في كل الميادين وعن دراية ومعرفة فمناضلوه لم يغادروا المشهد التونسي لا هجرة ولا سجنا ولا ملاحقة أمنية بالقدر الذي يجعلهم غريبين وغرباء، كان الاتحاد سريع الاستجابة ومتوثبا للتفاعل مع كل طارئ، ولعل ذلك معنى شعاره الذي يُردّده مناضلوه في كل التحركات يومها "الاتحاد أقوى قوة في البلاد".

ففي اليوم الموالي لهروب بن علي تحرك اتحاد الشغل "للإحاطة بالثورة وحمايتها" يقول حسين العباسي في كتابه: «يوم 15 جانفي 2011 عقدنا اجتماعا بمقر الاتحاد المغاربي، وبطلب من الاتحاد حضر عدد من المنظمات والأحزاب التي نقدّر انها منظمات وأحزاب مناضلة مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان وعمادة المحامين، والحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد وحزب العمال وبعض الحركات اليسارية، وكان التفكير في ذلك الاجتماع يدور حول تشكيل لجنة للإحاطة بالثورة وحمايتها حتى لا تنقلب الأمور وتحيد عن مسارها.. ص 143.

كانت حكومة الترويكا أشبهَ ما تكون بـ "توليفَةً" هشة، كان الاتحاد أشبه ما يكون بـ "ماكينة" مركّبة من عدة "قطع" حمراء، وكانت تلك الماكينة تتحرك بوقود إيديولوجي أحمر، إنها ماكينة مصمَّمة جيدا وأضواؤها قوية جدّا وليس لها قلب يحب أو يُشفق.
على أي أساس تم تحديد الأحزاب المناضلة؟ ألم تكن حركة النهضة مناضلة؟ لماذا لم تتم دعوتُها من البداية؟ هل كان المقصود ب"تنقلب الأمور" هو استفادة النهضة أكثر من غيرها من موسم الحرية الذي انطلق بعد هروب بن علي؟

وبعد تشكل "لجنة حماية الثورة" على أيدي الأطراف المناضلة المذكورة، يقول العباسي: «وكانت حركة النهضة تحضر تلك الاجتماعات أيضا" ص 144، ولمن يفهم في دلالات "أيضا" يعي شعور الاستعلاء لدى جماعة "الماكينة" تجاه النهضة تحديدا، فهي لا تحضر كطرف شريك وفاعل أصيل وإنما كطارئ أو كمراقب أو كمدعُوّ، إنها تحضر "أيضا".

وحين توسعت تلك اللجنة لتصبح شبيهة بالبرلمان الذي تم تعليقه، "تشكلت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي برئاسة عياض بن عاشور" ويعترف العباسي بحقيقة مهمّة قائلا: "كان الاتحاد ومنظمة الأعراف أكثر المنظمات تمثيلية في الهيئة".. ص144.

لقد أشرفت تلك "الماكينة" على ترتيب مقدمات المشهد قبل أن تتسلم النهضة وشركاؤها باقة ورد في شكل تتويج انتخابي ولكنها كانت باقةً ملغومة، كان الفائزون مبتهجين كما عريس يرقص ليلة زفافه دون وعي بكونه عرسا مثقلا بالديون.

في ملف العفو التشريعي لم تكن حركة النهضة حاضرة أصلا وإنما كان آخرون، وسيخاصمونها لاحقا بسبب التيار السلفي تحديدا، ورد في كتاب حسين العباسي قوله: "في الحقيقة طُرٍحتُ مسألةُ العفو التشريعي العام مع محمد الغنوشي الذي كان يُسيّر الأعمال في مبنى بقرطاج لا في القصبة بحكم تعذّر دخوله قصر الحكومة أثناء الاعتصامات. وانعقدت اجتماعاتٌ متواصلة حول قضية العفو كان يحضرها عن الجانب الحكومي بشكل قار محمد النوري الجويني وأحمد نجيب الشابي والطيب البكوش وأحمد إبراهيم، ولكن الكلمة الفصل في هذا الموضوع كانت لأحمد نجيب الشابي. ولم تكن النهضة حاضرة في تلك الاجتماعات" ص 145.

وبخصوص ملف جماعة سليمان يعترف صاحب الكتاب بكون اتحاد الشغل هو من دافع عن حقهم في العفو التشريعي العام رغم معارضة أحمد بن إبراهيم ومحمد الغنوشي، ويُعلل العباسي موقف الاتحاد بقوله: "وكان موقفنا في الاتحاد مختلفا، اذ كنا نعتبر أن ما مارسوه من إرهاب دفعتهم إليه الدولة التي يجب أن تتحمل المسؤولية فيما آل اليه الوضع" ص145.

هذا الموقف يُعتبَر جيدا، لكون الفرد هو ابن بيئته الثقافية والسياسية والاجتماعية، ولا يمكن معالجة الانحرافات بأسلوب عقابي، فالسجون لم تغير أفكارا ولا معتقداتٍ، نحتاج اتباع أكثر من أسلوب في إعادة تأهيل المجرمين، وفي تعديل طبائع المتشددين، وفي تنقية صدور الحاقدين، إن الإنسان هو الكائن الأكثر تعقيدا ولا يمكن التعاملُ معه كما لو أنه آلة خاضعة لنظام آلي يسهل فهمُه والاشتغال عليه، وحدهم الكسالى ذهنيا والأنانيّون هم من يتبرؤون من أبناء وطنهم ويتركونهم للأخطاء والخطايا دون بذل أدنى جهد للفهم وللمعالجة.

موقف الاتحاد هو موقف سليم وعلمي ومسؤول، إن الدولة بنظامها التربوي وبأدائها السياسي وبسياستها الاجتماعية وبتوجهاتها الثقافية وبفلسفتها الأمنية قد تُنتج مظاهر اجتماعية غير سوية وقد تدفع إلى ردّات فعل عنيفة، وهذا الموقف هو نفسه ما عبر عنه راشد الغنوشي حين قال أنهم "أولادنا"، فهم أولادنا بالمعنى الثقافي والاجتماعي لا بالمعنى البيولوجي ولا بالمعنى الإيديولوجي، غير أنّ حسين العباسي يعتبر أن موقف الإتحاد كان متسرعا في هذا الموضوع قائلا: "الآن وحين أراجع موقفي، وبعد ما حصل لاحقا يمكنني القولُ أنّ فيه الكثير من التسرع والذي كان نتيجةً لـ "حسن النية" ص 146.

وفي ملف الانتدابات، رغم تحميله المسؤولية لحكومة الباجي قائد السبسي ثم للترويكا، فإنه يُقرّ بجزء من المسؤولية في ذلك حين يقول: «لقد طلبنا من قائد السبسي من قبلُ عدم الاستمرار في تلك السياسة، ولكن حين جاءت حكومة الترويكا، شرعت النهضة في تكثيف التسميات، ولم يكن أمام الاتحاد بُدّ بعد تسميتهم إلا الدفاع عنهم بإسنادهم الأجر الأدنى المضمون، وكنا نرى أن ذلك من واجبنا. ولكنهم كانوا دائما يُسوّقون أن الاتحاد هو من أرهق ميزانية الدولة" ص 149.

إنّ من يفخَرُ بكونه هو من قدّم المجهودَ الأكبر في تعطيل الإسلام السياسي، عليه ألا يتبرّأ من المسؤولية، جزئيا أو كليّا، فيما آل إليه الدّرسُ الديمقراطي من فشل ومحنة.
التعليقات (0)