اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، مجدداً، بجدالات حامية بين السوريين، بمناسبة وفاة الداعية الإسلامية الشهيرة منيرة القبيسي. وفي حين نعاها بحرارة قادة رأي إسلاميون من أمثال الشيخ أسامة الرفاعي ومحمد حبش وغيرهما، هاجمها آخرون بوصفها من أبرز داعمي النظام الأسدي في البيئة الاجتماعية السنية، وفي المجتمع الدمشقي بصورة خاصة.
لا يهتم هذا المقال بإثبات أو نفي علاقة القبيسي وجماعتها النسائية بدعم النظام، بقدر ما يسعى إلى تحليل ردود الفعل المتناقضة المذكورة أعلاه. ويأتي الجدل الحالي في سياق سلسلة متصلة من الحالات التي كشفت عن عمق اختلاف السوريين فيما بينهم، واستقطاباتهم العابرة للتناقضات السياسية في
الصراع السوري.
فقد لاحظنا قبل فترة وجيزة كيف لزم الإسلاميون المعارضون الصمت المطبق بشأن الثورة الشعبية المستمرة في إيران، لأنها بدأت أصلاً كثورة نسائية ضد الحجاب المفروض من قبل السلطة. مرد ارتباكهم مفهوم، لأنهم مع فرض الحجاب، والنقاب بالنسبة لبعضهم، على النساء، وحيثما حكمت منظمات إسلامية مسلحة، في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، فرضوه فعلاً بقوة السلاح. ومن جهة أخرى يكره الإسلاميون السوريون المعارضون نظام الملالي، لأنه نظام شيعي أولاً، وداعم لنظام الأسد ثانياً. بل أكثر من ذلك، هم مع بقاء النظام، لأنه إسلامي حتى لو كان شيعياً، على أن يكف عن دعم نظام الأسد وتشييع السنة في بعض البيئات الاجتماعية في
سوريا. في حين أن أي ثورة شعبية في إيران، غير إسلامية، لن تسرهم وسيكونون على الأرجح ضدها.
وهذا ما يقودنا إلى التساؤل عن مدى صميمية إسلاميي سوريا في ثورتهم ضد نظام الأسد، أو ماهية ثورتهم. هل هي ثورة ضد نظام دكتاتوري سلالي دموي، أما ضد دكتاتورية نظام الأسد حصراً؟ هل لثورتهم علاقة بالحرية والكرامة والمساواة التي حفزت السوريين على التمرد، أم أنها ثورة لإسقاط نظام الأسد والحلول محله من أجل هندسة المجتمع وفقاً لرؤيتهم المحافظة بوسائل قسرية قد تكون أشد ظلماً من النظام الأسدي؟ ليس في هذه الأسئلة ذات الأجوبة الواضحة تجنياً على الإسلاميين، فقد فرضوا على السكان، حيثما تمكنوا، مسالك محددة يعاقب من يخالفها بقسوة شديدة، بل إنه بلغ الأمر ببعض المجموعات الإسلامية أنها كانت تقوم بفحص ضمير للناس من خلال سؤالهم عن عناصر طقوس الصلاة، فإذا لم يعرف هؤلاء الجواب أو أخطأوا فيه عوقبوا بالتنكيل الجسدي. لا معنى لتنصل إسلاميين «معتدلين» من هذه الممارسات أو من تنظيمات متشددة قامت بها، فالمرجعية الفكرية واحدة. قد لا يكرر الإخوانيون مثلاً ممارسات داعش إذا استلموا السلطة، لكنهم سيفرضون قيمهم على أي حال، وهي قيم لا تناسب جميع السوريين، بل حتى غالبيتهم، فلا مفر إذن من فرضها بالقسر.
مع تراجع الثورة الشعبية ثم هزيمتها، تراجع «التناقض الرئيسي» بين النظام ومعارضيه، الإسلاميين بصورة خاصة، ليطفو على السطح «التناقض الثانوي» بين هؤلاء وسائر معارضي النظام، بل إن ما يجمع اليوم بين الإسلاميين والنظام هو أكثر مما يجمعهم مع المعارضين غير الإسلاميين. فكلاهما مع فرض أفكار وقيم ومسالك على السوريين بوسائل قسرية، سواء تم دعمها بقوانين (أي بالشريعة أو بقانون الطوارئ) أو بالقوة العارية. وكلاهما ضد القيم الإنسانية الكونية كحقوق الإنسان وحرياته، هذا بدعوى الخصوصية القومية وذاك بدعوى القيم الإسلامية. إلى ذلك ينشغل الإسلاميون كثيراً بمناهضة المساواة بين الجنسين أو حقوق ذوي الخيارات الجنسية المختلفة، أكثر بكثير من انشغالهم بمناهضة النظام، بل قل إنهم يناهضون النظام أصلاً لأنه في نظرهم «علماني» فضلاً عن منبت العائلة الحاكمة الأقلّي، أي لأنه ليس إسلامياً، وبالطبع لأنهم تعرضوا لقمع مهول منه في ثمانينيات القرن الماضي. ولكن لا يهمهم كثيراً أن آلاف المعارضين غير الإسلاميين تعرضوا مثلهم لقمع نظام الأسد، فليس هذا هو معيارهم للمعارض السياسي، بل إسلاميته من عدمها. لذلك فهم لا يتحرجون من القول بعدم جواز الترحم على معارضين للنظام قتلوا على يد أجهزته لأنهم غير مسلمين، ولا يتحرجون بالمقابل من مشاركة النظام في نعي شخصيات مقربة منه كحال الداعية القبيسي.
ثمة استقطاب آخر في الصراع السوري يشبه كثيراً الاستقطاب الإسلامي – العلماني، هو الاستقطاب الكردي – العربي. هنا تختلط الاصطفافات من جديد، فنرى نظام الأسد والقسم الأكبر من معارضيه، بإسلامييه وعلمانييه، يشتركون في مناهضة التطلعات القومية الكردية، مقابل مناهضة قسم كبير من الكرد للمعارضة العربية بأكثر من مناهضتهم للنظام نفسه.
والحال أن نظام الأسد طالما أحكم سيطرته على السكان من خلال تعزيز هذه الاستقطابات الاجتماعية وتعميق الشقوق في الجسم الاجتماعي. هذه الهيمنة «الناعمة» كانت أهم من الاستخدام العاري لسلاح القمع، وكانت كفيلة بإطالة عمره بدون حاجة للقمع المباشر، لكن النظام كان مع ذلك يلجأ للقمع لأنه مفطور عليه إذا جاز التعبير. أما بعد اندلاع ثورة الشعب فقد كان رده هو الحرب الشاملة بكل الأسلحة المتاحة له. وفي الأشهر الأولى للثورة ساد مناخ وطني تمثل في شعار «الشعب السوري واحد». كان من شأن تحقيق هذا الشعار أن يشكل التهديد الأكبر على بقاء النظام. اليوم نرى أن الشعب السوري ليس واحداً، بل هناك «شعب النظام» ومعارضة إسلامية، ومعارضة علمانية، وكرد، وموالون لتركيا، ومجموعات مسلحة تحكم باسم الإسلام، ومجموعة تحكم باسم «الأمة الديمقراطية الإيكولوجية»، ورأي عام فيسبوكي يتصارع بالكلام على قيم متناقضة.
هزمت الثورة بسبب هذه التناقضات أكثر مما بسبب عوامل خارجية نبرر بها هزيمتنا.
القدس العربي اللندنية