قضايا وآراء

دروس للاستفادة: التغيير الجيلي في تشيلي (١)

عصام الدين الراجحي
1300x600
1300x600

أتابع منذ أشهر، الفوز المبهر للشاب غبريال بوريك كرئيس لتشيلي، وأحاول الخوض في تفاصيله، توازيا مع الابتهاج الأخير بتمكن جان لوك ميلينشون من توحيد الخضر والشيوعيين والاشتراكيين في فرنسا، تحت راية تحالف "الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد"، وهي المرة الأولى التي تتوحد فيها صفوف اليسار الفرنسي منذ 20 عاما.

دروس أراها عديدة للتدبر والاستفادة في سياقاتنا الوطنية، وأن نطرح على أنفسنا تباعا كديمقراطيين واجتماعيين شباب، مجموعة من الأسئلة الضرورية في سياق إطلاق عملية نقد ذاتي صادقة، نتحمل فيها كل الشجاعة بإزاحة الستار عن عيوب وثغرات في أدائنا، وتبيان النقائص وتجاوز حالة العطب.

هناك العديد من الأسباب التي تجعل انتصار الألفية للمرشح الشاب غابرييل بوريك، عضو الكونغرس اليساري، في الانتخابات الرئاسية في تشيلي، يتردد صداها خارج حدود تلك الدولة الواقعة في جبال الأنديز.

لقد انتصر الأمل على الخوف في تشيلي، وكانت النتيجة رائعة، وأدى فوز غابرييل بوريك في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في البلاد إلى تمهيد الطريق أمام تغييرات هيكلية ومجتمع أكثر عدلا.

كان بوريك جزءا من جيل راديكالي من الطلبة الذين تسللوا إلى دائرة الضوء في عام 2011، خلال انتفاضة ضد التفاوت المجحف في نظام التعليم في تشيلي؛ ففي فصل الشتاء الرمادي الطويل لذات العام، احتل الآلاف من طلاب الجامعات التشيلية حرمهم الجامعي لشهور؛ للمطالبة بتعليم مجاني وعادل، يحقق جودة التعلّم للجميع.

وكان من ضمن الدروس المستفادة لنجاح ذلك التحرك الاحتجاجي، الوعي بمتطلبات المرحلة وضرورة خوض التجربة السياسية، والانطلاقة كانت مع 2013، وبعد تجربة قيادة اتحاد الطلبة في جامعة تشيلي. تم انتخاب بوريك لعضوية مجلس الكونغرس في السابعة والعشرين من عمره، حيث وعد بسد الفجوة بين الاحتجاج والسياسة بقوله: "نحن جيل بدأت مشاركته في السياسة بالحركات الاجتماعية، لكننا أدركنا أنه إذا أردنا تغيير تشيلي، فلن يكون الاحتجاج وحده كافيا، سيتعين علينا القتال في مساحات مؤسسية أيضا".

وإلى جانبه، نقلت ثلاثة وجوه شابة أخرى القتال من ساحات الجامعات والشوارع في سانتياغو، إلى فضاءات المجلس النيابي ولجانه والنقاش في الفضاءات العامة، مما ساعد على التجديد والتغيير ورفع لواء المشاركة الشبابية، استحقاقا وليس كوتا ملحقة أو منّة، حيث خاضت التحدي كاميلا فاليجو وكارول كاريولا بجانب جورجيو جاكسون، رفاق الرحلة مع بوريك.

وبعد قرابة العقد من الزمن، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أصيبت البلاد بالشلل؛ حيث خرج الملايين إلى الشوارع ضد تفاقم الظلم الاجتماعي والاقتصادي، وساعدت هذه الظروف في دفع تشيلي -بين عشية وضحاها تقريبا- إلى أكبر حركة احتجاجية منذ عقود، وكانت الشبيبة على وعي تام بالتحديات الرئيسية التي يواجهها البلد، لذلك كانوا في الصفوف الأمامية للحراك الاحتجاجي؛ لا معارضة من أجل المعارضة، ولكن لوعي بأهداف المرحلة، وبحثا عن الإجابة الأكثر تواترا في الأوساط الاجتماعية: "كيف نطرح مقاربة تنتج توزيعا أكثر إنصافا، حيث يمكننا وضع النمو والاستدامة البيئية والتوزيع العادل للثروة في المعادلة نفسها؟".

وفي خضم الديناميكية الاحتجاجية الواسعة، واجه بوريك ورفاقه في البداية انتقادات في بعض الأوساط؛ بسبب استعداده للحوار مع الطبقة السياسية القائمة، عندما وقع "اتفاق سلام" بين الأحزاب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، لتمهد هذه الاتفاقية الطريق في النهاية لتشيلي لاستبدال دستورها الذي يعود إلى حقبة نظام الدكتاتور بينوشيه، عبر استفتاء ديمقراطي أجري العام الماضي، صوّت فيه التشيليون بأغلبية كبيرة لانتخاب هيئة تأسيسية مستقلة عن المجلس النيابي، تقوم بصياغة دستور جديد.

هذه الاتفاقية الدستورية (التي كان لغبريال بوريك دور فعال في إنشائها)، هي لحظة تاريخية لصياغة نص جديد، يحل محل الدستور التشيلي المزور الذي دفع به بينوشيه في عام 1980، والذي أعاق كل محاولات الإصلاح منذ ذلك الحين، لذلك ستكون بدون شك فرصة غير مسبوقة لإعادة تصور الكيفية التي ينبغي أن تُحكم بها تشيلي، وكيف يمكن أن تحقق حلمَ أن تصبح مجتمعا شاملا حقا، يُمثّل التنوع الهائل للشعب، وطريق تحرر من القيود القانونية والأيديولوجية المستمرة لإرث بينوشيه، خصوصا أن الجمعية التأسيسية ترأسها امرأة من السكان الأصليين.

لقد تعلم جيل بوريك من أخطاء الماضي، وكان مبادرا دائما وصانعا للحدث السياسي ومنفتحا على أجيال قبله وبعده، بعيدا عن أمراض النرجسية والزعامتية الضيقة، إنه جيل مهم للغاية في تاريخ تشيلي السياسي، فغابرييل بوريك، المولود في بونتا أريناس في جنوب تشيلي عام 1986، يمثل جيلا جديدا من السياسيين الفاعلين، الذين التقطتهم أعين الجمهور خلال حشد الشباب من أجل نظام تعليمي عادل في عام 2011، والاحتجاجات الحاشدة في عام 2019. لقد ساعدوا في توسيع نطاق القوى السياسية ذات الصلة، بما يتجاوز أنماط الأحزاب التقليدية منذ الانتقال إلى الديمقراطية في عام 1990.

بعد تجربة نيابية منذ 2013، اقتحم غبريال بوريك بشجاعة ومساندة من الرفاق السباق الرئاسي في تشيلي، وفاز بأكثر من 60 في المائة من الأصوات في الانتخابات التمهيدية، ليصبح مرشحا للائتلاف اليساري في البلاد في الانتخابات الرئاسية، محققا نصرا حاسما على مرشح الحزب الشيوعي دانييل جادو، وتعهد بقيادة الهجوم على النموذج الاقتصادي في تشيلي في حقبة بينوشيه، معلنا: "لقد جئنا من حركات اجتماعية، وتشكلنا سياسيا من خلال النضالات التي تراكمت عبر التاريخ. إذا كانت تشيلي هي مسقط رأس النيوليبرالية، فستكون أيضا قبرها".

عكس ترشح بوريك للرئاسة -كمرشح رسمي لتحالف اليسار الواسع ( Apruebo Dignidad)، الإجماع الاجتماعي المتزايد والحاجة إلى التغيير الهيكلي، فقد كانت حملته قادرة على حشد أعداد كبيرة من الناس للتصويت لمشروع سياسي يركز على الرفاهية الاجتماعية واللا مركزية في الدولة، وتقسيم أكثر إنصافا لموارد تشيلي.

ونجحت حملة الجولة الثانية لبوريك في الوصول إلى المستقلين والقامات السياسية، وإلى تحقيق مصالحة بين البرامج السياسية للمرشحين الأساسيين من يسار الوسط، وإلى رغبته وقدرته على إشراك قطاع واسع من الطيف السياسي الديمقراطي، دون السقوط في مواجهة قاتلة مع الفيلة السياسيين.

كان هذا الجهد -بالإضافة إلى التناقض مع الماضي الاستبدادي لخصمه-، هو الذي أكسبه دعم الاقتصاديين الوطنيين والدوليين البارزين، بما في ذلك الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيجليتز وتوماس بيكيتي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الجهود الرائعة التي بذلها منسقو حملته من جيله، نقلت بشكل متماسك رسالة عن مستقبل أفضل إلى الناخبين التشيليين.

أظهرت حملتهم التماسك الفكري والعملي والانفتاح لهذه المجموعة الجديدة من السياسيين في تشيلي، وعكست إيجابيتهم الرسالة الديمقراطية.

يدافع هذا الجيل السياسي عن مواقف يمكن ربطها بشكل لا لبس باليسار التشيلي، فالهدف الرئيسي لجيل التغيير وبرنامجه السياسي، لم يكن كنس الآباء السياسيين والاقتصاص من الجيل السابق وإحالته الفورية على التقاعد، بل فرض رؤية تعميق الديمقراطية في البلاد وتوسيع الحقوق والإدماج المواطني، وحقوق المرأة والاستدامة البيئية والعدالة والحوار؛ بهدف تقليل عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.

لذلك؛ ينص البرنامج الطموح للرئيس الجديد، على إصلاح أنظمة التعليم والصحة والتقاعد، وعلى دور قوي للدولة، هدفه المعلن هو التغلب على عدم التناسق الاجتماعي والجغرافي في دولة الشريط الأمريكي الجنوبي.

تمثل رئاسة بوريك تغييرا جيليا مستحقا في السياسة التشيلية، ففي حين لم يكن للممثلين الجدد مسيرة تدرج في الأحزاب المؤسسية والتسلسل الهرمي، لكنهم يستمدون خبراتهم في الغالب من نقابات الطلاب والحركات الاجتماعية، وتمثيليات السكان الأصليين ذات الهياكل التنظيمية الأفقية والشبكية، حيث كانوا يتقدّمون جموع المحتجين، ويقودون الميادين، ويوجهون الرأي العام إلى النقاش في أم القضايا الوطنية واستحقاقات المرحلة.

وفي الواقع، جيل بوريك السياسي هو نتيجة عقد من التعبئة الاجتماعية في تشيلي، لذلك لن تكون الصعوبات المطروحة هاجسا كبيرا أمام حكومة بوريك الشابة والتقدمية ذات الأغلبية النسائية، المستوحاة من الاشتراكية الديمقراطية لسلفادور أليندي، أول زعيم اشتراكي في تشيلي، حيث ستتمثل مهمتهم في قيادة أولى خطوات التحول العميق في المجتمع التشيلي وتنفيذها، ودفن النموذج الاقتصادي النيوليبرالي، وبناء دولة أكثر عدلا وشمولية، ستكون تعبئة الحركات الاجتماعية أساسية لذلك.

لقد انتقلت تشيلي من مختبر النيوليبرالية إلى موطن النضالات، ولطالما اعتبرت نموذجا تنمويا للاقتصادات الناشئة؛ لأنها جمعت بين الانفتاح الاقتصادي والاستقرار الديمقراطي، لكن النيوليبرالية التشيلية فقدت مصداقيتها بشكل متزايد عندما اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، فأظهر العنف والاضطراب الناجم عن ارتفاع أسعار المترو في العاصمة، سانتياغو، للعالم الجانب الخفي من أكذوبة النموذج التشيلي: مستويات عالية من عدم المساواة، وحياة محفوفة بالمخاطر بسبب نظام التقاعد المخصخص، بالإضافة إلى سلعنة الخدمات العامة، بما في ذلك المياه والرعاية الصحية والتعليم.

تجربة غبريال بوريك ورفاقه وتجميعية اليسار التشيلي هي اليوم درس للشباب، خصوصا عوالمنا الجنوبية كقوة تحررية، وكقوة ابتكار، يبدو أنها تحتوي اليوم على خيال سياسي جديد، يمثل خطوة كبيرة إلى الأمام في تجديد مشروع اجتماعي عالمي يختلف حسب السياقات الوطنية، ولكن يشترك في هدف موحد وجامع، مفاده أن الانتصار مرتهن إلى حين الإقرار بأن الشيء الوحيد الذي يستحق القيام به، هو القتال لإسقاط النيوليبرالية من أذهان الجماهير التي تم خداعها لعقود من الزمن لقبول النيوليبرالية كحقيقة من حقائق الحياة، رغم أنه النموذج القمعي والمسيء والاستغلالي الذي أنتج عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.

هدف بوريك هو تقديم ديمقراطية اجتماعية على النمط المتجدد ذي الأصول الأوروبية؛ من شأنها أن توسع الحقوق الاقتصادية والسياسية لمهاجمة عدم المساواة المزعجة، دون الانحراف نحو الاستبداد الذي يعتنقه الكثير من اليسار في أمريكا اللاتينية، من كوبا إلى فنزويلا.

إنه حقا قائد ما بعد الحداثة، الذي يعكس التغيير الجيلي ويطرح سردية برامجية طموحة، ويجمع بين الاهتمام الكبير بالأجندة الاجتماعية مع المساواة في الحقوق والإدماج والتنوع.

لديه الشباب والقوة والدعم من الأجيال الجديدة، إلى جانب خبرة وسط اليسار ممن شاركوا وحكموا تشيلي لمدة 24 عاما، مما حوّل البلاد إلى ديمقراطية قوية لا تنتكس إلى الماضي الاستبدادي، ولكن سيكون التحدي الرئيسي أمامه هو توفير الاستقرار والأمن والنمو وتحقيق الإصلاحات العميقة، التي بدأ جيله من خلالها النضال السياسي في السنوات الإحدى عشرة الماضية؛ مهمة ضخمة لن يتمكن من إنجازها إلا إذا رافقه تحالفه، وفتح أبوابه للتجربة المتراكمة على مدى العقود الماضية.

وكمتابع للتجارب وللوضع السياسي المحلي، ما زالت بكامل الوعي والاعتقاد أنه لا يوجد في الحقيقة أي تناقض بين الإصلاح والثورة، فما تحتاجه الحركات الاجتماعية والجيل الشبابي للتغيير، هو إيجاد أنواع اختراق إيجابية ومتجددة، ودفع آليات الانتقال من الحركات الاجتماعية التعبوية في الشارع بفاعلين سياسيين، هدفهم بوضوح إصلاح السلطة ومؤسسات الدولة، وهذا بالضبط ما حققته الحركة في تشيلي.

من الأمور الواعدة بالقدر نفسه، أن الصعود المظفر للبوريك في تشيلي يأتي في لحظة ميمونة لليسار في أمريكا اللاتينية، فخلال عامي 2020 و2021، شهدت أمريكا اللاتينية سلسلة من التغييرات في القيادة. واليوم يوجد في الأرجنتين وبيرو وبوليفيا وهندوراس رؤساء من اليسار الديمقراطي، في حين أن للبرازيل والإكوادور وأوروغواي وباراغواي وكولومبيا حكومات محافظة ومع ذلك، وفي عام 2022، سيجري البرازيليون والكولومبيون -وكلاهما شريكان رئيسيان لتشيلي- انتخابات رئاسية، سيكون للمرشحين اليساريين فيها الحظوظ الأكبر.

وعلى الضفة الأخرى، حيث الموطن الأصلي لليسار الديمقراطي والاجتماعي، تأتي الأخبار المفرحة من فرنسا، فلم يكن اليسار الواسع قادرا أبدا منذ سنوات على الاجتماع معا وعدم إطلاق النار بعضهم على بعض، وقد اتفق أعداء الأمس أخيرا على اتحاد لليسار على ضوء الانتخابات التشريعية في 12 و19 حزيران/ يونيو، تحت قيادة جان لوك ميلينشون.

فما هي الدروس المستفادة من تحالف أطياف اليسار الفرنسي تحت مسمى "الاتحاد الشعبي البيئي الاجتماعي"؟


ــــــــــ
المراجع: 


https://www.theguardian.com/world/2021/may/18/a-new-chile-political-elite-rejected-in-vote-for-constitutional-assembly

https://www.wsj.com/articles/chiles-presidential-election-pits-young-versus-old-in-key-vote-for-economy-11639908003

https://www.opendemocracy.net/en/democraciaabierta/el-octubre-chileno-el-neoliberalismo-nace-y-muere-en-chile-en/

https://www.nytimes.com/2021/12/19/world/americas/chile-president-election.html

https://www.latimes.com/podcasts/story/2022-01-06/the-times-podcast-gabriel-boric-chile-constitution

https://www.as-coa.org/articles/2022-elections-latin-america-preview

https://www.elmostrador.cl/destacado/2021/12/15/guillermo-larrain-en-la-mesa-sobre-programa-economico-de-boric-tenemos-a-un-estado-que-genera-condiciones-de-solidaridad-muy-potentes-y-al-mismo-tiempo-un-sector-privado-protagonista-del-cre/

https://www.aljazeera.com/features/2021/12/14/how-left-wing-forces-are-regaining-ground-in-latin-america

https://www.latimes.com/world-nation/story/2021-11-27/honduras-at-crossroads-in-election-to-end-corrupt-rule-of-president-hernandez

https://www.france24.com/fr/france/20220505-l%C3%A9gislatives-2022-une-alliance-qui-marque-un-virage-historique-pour-la-gauche

التعليقات (0)