مقالات مختارة

البروباغاندا تعترف: القيادة تجاوزتها الأحداث!

مالك التريكي
1300x600
1300x600

يرجّح العارفون بالشأن الروسي، أن نظام بوتين أخذ يحاول تهيئة الرأي العام الداخلي لتقبّل ضرورة تقليص أهداف «العملية الخاصة» في أوكرانيا ووقف القتال، بعد أشهر أو ربما عام، في إطار مفاوضات تؤكد المصادر الاستخبارية الغربية أنها قد بدأت بين روسيا وأمريكا بشأن مخرج سياسي، يحتفظ بموجبه الكرملين ببعض الأراضي الأوكرانية المحتلة. ويستدلون على ذلك بإشارات متناثرة في الإعلام الروسي، يأتي في مقدمها تصريح الخبير العسكري ميخائيل خوداريونوك، الذي تطرقنا له الأسبوع الماضي، بشأن صعوبة انتصار روسيا في هذه الحرب. الجديد هذه الأيام هو أن ظهور خوداريونوك أخذ يتواتر على التلفزيون الرسمي (ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بترخيص أو بتكليف حكومي)، وأن تصريحاته كلها تبث الرسالة ذاتها: الأوضاع في الجبهة العسكرية سيئة وينبغي توقع الأسوأ. بل بلغ به الأمر أخيرا حد الإشادة بالجيش الأوكراني وبمعنوياته القتالية العالية! حيث قال؛ إن المعوّل في القتال ليس على الكثرة، وإنما على روح الفداء!


وما كان يمكن في الماضي العثور على مثل هذه التصريحات القوية المناقضة للدعاية الرسمية، إلا في جريدة «نوفايا غازيتا» المستقلة التي حظرت أواخر آذار/مارس، واضطر صحفيوها للجوء إلى أوروبا الغربية. ومعروف أن نوفايا غازيتا حصلت، ممثلة في رئيس تحريرها ديمتري موراتوف، على جائزة نوبل للسلام لعام 2021، وأنه كان من أبرز كتّابها الصحفية الشجاعة آنا بوليتكوفسكايا، التي اغتالها عملاء بوتين عام 2006. على أن الأمر الأكثر إثارة، أن مذيع التلفزيون ديمتري كسيليف، الذي ينعت بأنه «رئيس تحرير البروباغاندا» الرسمية الروسية، قد فاجأ الجمهور هو أيضا بانتقاداته اللاذعة للجيش الروسي بعد الهجوم الأوكراني الذي أغرق البارجة الحربية موسكفا. بل إنه مضى مرة إلى حد القول بأن «القيادة قد تجاوزتها الأحداث»! كل هذا يدعم رأي القائلين بأن روسيا ستجنح بعد مدة إلى محاولة إنهاء الحرب لأنها صارت تعلم أنها لن تكسبها.


والحق أن من أوائل من توقعوا عدم قدرة روسيا على الانتصار، إن لم يكن أولهم إطلاقا، هو أستاذ الاقتصاد السياسي في كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية، إل. إس. إي، بول ديغروف. فقد كتب بعد أسبوع فقط من بدء العدوان الروسي، بأن من المحتمل أن تدوم الحرب فترة مديدة وبأن روسيا تفتقر إلى الموارد الاقتصادية اللازمة لخوض حرب طويلة الأمد. وفي شرح ذلك يقول؛ إن القارة الروسية بلد صغير… من المنظور الاقتصادي؛ إذ إن ناتجها المحلي لعام 2021 يبلغ 1648 مليار دولار، أي إنه يعادل تقريبا مجموع ناتج بلجيكا (582 مليارا) وهولندا (1008 مليار)، ولا يكاد يمثل 10 بالمائة من ناتج الاتحاد الأوروبي.

 

ويتساءل ديغروف: هل يمكن لمثل هذا القزم الاقتصادي داخل أوروبا أن ينتصر في حرب طويلة الأمد ضد عدو مستميت في المقاومة؟ جوابي: لا. ليس لروسيا الموارد اللازمة لذلك؛ إذ إن النصر في هذه الحرب يقتضي من روسيا زيادة فائقة في إنفاقها العسكري الذي يبلغ حاليا 64 مليار دولار، أي حوالي 4 بالمائة من ناتجها، علما أن كل إنفاقها هذا لا يعادل سوى 8 بالمائة من الإنفاق العسكري الأمريكي!!! وبما أن هذه الميزانية العسكرية الصغيرة لا تكفي لخوض حرب طويلة الأمد، فلا بد من مزيد من الإنفاق العسكري. لكن مشكلة الإنفاق العسكري أنه مضيعة اقتصادية، أي إن الدبابات والطائرات التي ينبغي إنتاجها للحرب، هي استثمارات لا فائدة منها اقتصاديا؛ لأنها بخلاف الآلات وعوامل الإنتاج الأخرى، لا تؤدي إلى كسب ولو روبل واحد بإنتاج المزيد منها في المستقبل. بل إنها تؤدي، بالعكس، إلى مزاحمة الاستثمارات الإنتاجية والتضييق عليها. وإذا حدث هذا، فإن البلد الصغير حاليا (روسيا) سيصير بلدا أصغر.

 


لكن، بدل خفض الاستثمار الإنتاجي، يمكن للدكتاتور خفض الاستهلاك للتمكن من مزيد من الإنفاق العسكري، علما أن ما يخفيه الناتج المحلي الصغير لبلد يبلغ عدد سكانه 146 مليون نسمة (أي خمسة أمثال سكان كل من بلجيكا وهولندا)، هو حقيقة أن معظم الروس يعيشون في فقر نسبي.

 

ولن يكون من خيار لبوتين في هذه الحالة إلا أن يزيدهم إفقارا حتى يحقق الأطماع التي أملاها عليه جنون العظمة. أما النتائج الأخرى للزج بالبلاد في اقتصاد حربي، فتشمل استحالة إنفاق الرواتب والأجور الناجمة عن تقوية الصناعة العسكرية على شراء السلع الاستهلاكية؛ لأن هذه ستكون في تناقص متواصل. وبهذا، يزداد التضخم النقدي ازديادا شديدا من شأنه أن يغري النظام بالتحكم في الأسعار.
والنتيجة معروفة: ندرة السلع، وفرض قيود على المبيعات (التقنين). ويختم ديغروف ساخرا؛ أن من عجيب المفارقات أن هذا بالضبط هو ما سيحقق حلم بوتين: أي استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، بسلعه الشحيحة (رغم رداءتها)، وبطوابيره الطويلة أمام البقالات والمحال التجارية!

 

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل