مقالات مختارة

عن التدليس… وأزمة الدولة في العراق

يحيى الكبيسي
1300x600
1300x600

كان تقديم مقترح قانون "حظر التطبيع" في مجلس النواب العراقي، فرصة لمراجعة مشكلة التدليس والتدليس المضاد، الذي يكاد يكون منهجية عمل سلطات ومؤسسات الدولة العراقية كافة.

ذكرت المادة 60 من الدستور "مشروعات القوانين" التي يقترحها رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، و"مقترحات القوانين" التي يطرحها عشرةٌ من أعضاء مجلس النواب أو إحدى لجانه المختصة. وقد استُغِل هذا التمييز من المحكمة الاتحادية العليا، في سياق الصراع الذي كان قد بدا يظهر للعيان بين السلطة التشريعية ورئيس مجلس الوزراء عام 2010، لإصدار قرار ينتهك أحكام الدستور الصريحة، لغرض ترجيح كفة رئيس مجلس الوزراء في ذلك الصراع.

ففي تلك السنة، أصدر مجلس النواب العراقي قانونين: الأول قانون فك ارتباط دوائر وزارة البلديات والأشغال العامة، والثاني قانون فك ارتباط دوائر الشؤون الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وقُدِّم القانونان كمقترحين داخل مجلس النواب. وقد اعترض رئيس مجلس الوزراء على القانونين لدى المحكمة الاتحادية، فأصدرت المحكمة قراريها المرقمين (43/ اتحادية/ 2010 و44/ اتحادية/ 2010) اللذين أطاحا بالدستور الذي ينص على أن النظام السياسي في العراق هو نظام برلماني، من خلال تحييد السلطة التشريعية تماما، وتحويلها إلى مجرد "تابع" للسلطة التنفيذية فيما يتعلق باختصاصه الرئيس، ألا وهو التشريع.

فقد قررت المحكمة أن الدستور العراقي رسم منفذين، تقدم من خلالهما مشروعات القوانين، وهذان المنفذان يعودان إلى السلطة التنفيذية، وأن "مقترحات" القوانين التي تقدم في مجلس النواب هي مجرد "فكرة"، يجب أن تأخذ طريقها إلى التشريع من خلال رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء حصرا، وبعكسه لا قيمة لتلك "الفكرة"، لهذا قررت "إلغاء" القانونين.

رغم هذا "التدليس" الواضح الذي قام به القضاء/ المحكمة الاتحادية هنا، الذي لم يكن الأول ولم يكن الأخير أيضا، فقد قبلت السلطة التشريعية به مرغمة، على اعتبار أن قرارات المحكمة الاتحادية، باتة وملزمة للسلطات كافة مهما اشتطت، ومهما انتهكت أحكام الدستور، ومهما كانت مسيسة وخاضعة لعلاقات القوة. لكن، بعد ثلاث سنوات، تحايلت السلطة التشريعية نفسها على قراري المحكمة الاتحادية المذكورين؛ ففي عام 2013 قُدم مقترح قانون انتخابات مجلس النواب، وقد صدر هذا القانون بالرقم 45 لسنة 2013، دون أن يلتزم بما قررته المحكمة الاتحادية من أن القوانين المقترحة مجرد "فكرة"، ما لم تتحول إلى "مشروع قانون" من خلال رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء حصرا. ولكي يكتمل مشهد التدليس المضاد، وجه نائب رئيس الجمهورية خضير الخزاعي رسالة إلى مجلس النواب "يفوضه فيه بصلاحياته" في انتهاك فاضح لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يقرره الدستور العراقي، ووجدنا مجلس الوزراء يقرر بجلسته المنعقدة في 18 آذار/ مارس 2014 "إجازة مشروع قانون انتخابات مجلس النواب"، بعد نشر القانون في الجريدة الرسمية الذي تعد بموجبه نافذة حكما. عام 2015 أصيبت المحكمة الاتحادية وقضاتها بالزهايمر، فنسوا قراريهما السابقين المتعلقين بمقترحات القوانين، لتتحول مقترحات القوانين التي كانت مجرد فكرة في عام 2010 إلى "حقيقة ملزمة"!

ففي هذه السنة، أصدرت المحكمة الاتحادية قرارا تنقض فيه قراريها السابقين، ولا تشير إليهما أصلا؛ ففي قرارها المرقم (21 ـ 29/ اتحادية/ 2015) المتعلق بالطعن المقدم في قانون استبدال أعضاء مجلس النواب، بوصفه قانونا شرع من مجلس النواب من خلال مقترح قانون، دون مراعاة ما قررته المحكمة الاتحادية في قراريها السابقين من وجوب تحويله إلى مشروع قانون عبر السلطة التنفيذية حصرا، تذكرت المحكمة الاتحادية فجأة بأن من حق "السلطة التشريعية" ممارسة "اختصاصها الأصيل في تشريع القوانين الاتحادية"، وأن مقترح القانون ليس مجرد "فكرة" بل هو "مشروع قانون، وفقا للسياقات الدستورية. وسنجد المحكمة الاتحادية نفسها حريصة على اعتماد قراراتها كحجة لتوضيح "توجهاتها" في قرارات أخرى؛ ففي قرارها المرقم 36/ اتحادية 2015 ترد المحكمة الاتحادية طعنا في أحد القوانين التي شرعها مجلس النواب بعد تقديمه كمقترح قانون، وذلك استنادا إلى "ما استقر عليه قضاء المحكمة الاتحادية العليا بأن مشروعات القوانين تختص بتقديمهما السلطة التنفيذية" وأن تقديمهما من غيرهما يعد "مخالفة دستورية" كما جاء في نص الطعن، تقرر المحكمة بكل سلاسة أن تشريع القانون المطعون بعدم دستوريته، يتفق مع توجهات المحكمة الاتحادية العليا في قرارها بالعدد 21ـ 29/ اتحادية/ 2015!

صحيح أن الفقه الدستوري يتيح للمحاكم الدستورية "العدول" عن توجهات سابقة، لكن هذا العدول يتطلب شروطا عدة، من بينها أن يكون العدول إراديا لا خاضعا لنزوات الفاعلين السياسيين، أو لعلاقات القوة، وأن تكون هناك مدة زمنية طويلة بين القرارين تسوّغ هذا العدول، والأهم من ذلك أنها تقوم بتعليل أسباب هذا العدول عن الحكم السابق، ففي أمريكا على سبيل المثال، أصدرت المحكمة العليا الأمريكية 25.544 قرارا في المدة ما بين 1798 و 2020، عدلت عن سوابقها الدستورية 145 مرة فقط، أي بأقل من 0.5٪! وكان من أهم أسباب هذا العدول، أو التفكير به، هو طبيعة التوجهات الخاصة بالقضاة أنفسهم، كما في القضية المعروفة بقضية (Roe v. Wade) عام 1973، حيث قضت المحكمة العليا بحق الإجهاض، فما زالت هناك محاولات للعدول عن هذا القرار، بضغط من الجمهوريين، ولكن ليس من خلال التدخل السياسي المباشر، بل من خلال الإخلال بالتوازن بين القضاة المحافظين والليبراليين في تشكيلة المحكمة المكونة من تسعة قضاة.

أما القضاء في العراق، فقد نقض قراراته خلال أسابيع، وفي كل مرة تقدم حيثيات مختلفة لهذه القرارات المتناقضة، من دون أن يعلل أو يشرح أو حتى يشير إلى قراراته السابقة، وإن فعل ذلك في حالات نادرة، يتم اللجوء إلى التدليس الصريح (تقرر المحكمة الاتحادية بتاريخ 29 كانون الثاني/ يناير 2018 أن الفقرة ثانيا من المادة 77 من الدستور تشترط في الوزير "ما يشترط فيه عضو مجلس النواب"، ومن ثم "لا يجوز أن يكون عضو مجلس النواب في تحصيله العلمي دون تحصيل الوزير"، وهي الشهادة الجامعية (القرار 15/اتحادية/ 2018) ثم تنقض قرارها هذا 2018 فتقول، تدليسا؛ إنها أيدت "خيار" مجلس النواب في رفع نصاب الشهادة لعضوية مجلس النواب إلى الشهادة الجامعية أو ما يعادلها، "وكان ذلك خيارا تشريعيا للمجلس"، ومن ثم لا ترى مشكلة في خفض نصاب الشهادة إلى الشهادة الإعدادية (القرار 32/ اتحادية/ 2018)، وهو ما يجعل هذا القضاء شريكا أصيلا في أزمة الدولة وفشلها.

 

القدس العربي


 
0
التعليقات (0)