قضايا وآراء

بعد خيبة التحشيد.. أما آن لقيس سعيد أن يُريح ويستريح؟

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
8 أيار/ مايو 2022 هو "يوم الحسم" أو هو "يوم المحاسبة"، كما أرادته صفحات داعمة للرئيس التونسي قيس سعيد. لقد اشتغلت صفحات لأيام عدة في التحشيد والتعبئة والتحريض تزامنا مع حملات تشويه للخصوم وتهديد، غير أن الميدان أثبت أن شعبية قيس سعيد الذي يبني عليها حكمه المطلق لم تكن إلا صخبا فيسبوكيا لا علاقة له بالميدان.

كان الجميع يرصدون شارع الحبيب بورقيبة منذ مساء السبت، ينتظرون بشغف ما سيكون عليه الشارع صبيحة الأحد (8 أيار/ مايو). وزير الداخلية نفسه تحول إلى حيث يجتمع أنصار قيس سعيد، وكأنه يُرسل إشارة بألا خوف على القادمين إذا أرادوا الالتحاق بالجموع لإعلان دعم قيس سعيد وتشجيعه على محاسبة منظومة عشرية يعتبرونها "سوداء"، والمقصود طبعا هو محاسبة حركة النهضة بل وحلها وملاحقة قيادييها ومصادرة مقراتها ووسائل نشاطها، في عملية شبيهة بسبي غنائم الحروب.

شعارات الحرب والتصفية والتطهير هي من قاموس زعيمهم الذي أشاع مفردات الحقد والكراهية والعنف منذ توليه رئاسة الجمهورية بعد انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2019. وقد تابع التونسيون والعالم كلمته بمناسبة عيد الفطر، حيث أعلن عن بعض إجراءاته المتعلقة بـ"مشروعه" وقال: "نحن نخوض حرب استنزاف"، وذكّر بما قاله قبلها بـ"اللاءات الثلاث: لا حوار، لا اعتراف، لا مصالحة".

رئيس يستعمل في مخاطبة معارضيه من التونسيين قاموس مؤتمر الخرطوم بعد "نكسة" 1967 في مواجهة العرب للكيان الغاصب، فلا غرابة بعدها أن يكون أنصاره على استعداد لممارسة العنف وحرق مقرات الأحزاب والاعتداء على شخصيات سياسية ووطنية.
رئيس يستعمل في مخاطبة معارضيه من التونسيين قاموس مؤتمر الخرطوم بعد "نكسة" 1967 في مواجهة العرب للكيان الغاصب، فلا غرابة بعدها أن يكون أنصاره على استعداد لممارسة العنف وحرق مقرات الأحزاب والاعتداء على شخصيات

الندوة الصحفية الطارئة التي عقدها زعيم جبهة الخلاص الأستاذ أحمد نجيب الشابي يوم الجمعة (6 أيار/ مايو) وكشف فيها عن معلومات أمنية دقيقة حول نية أنصار قيس سعيد ممارسة العنف والفوضى، هي التي أفسدت عليهم مخططهم وأربكت قيس سعيد، وأجبرته على التوجه في ساعة متأخرة من ذاك اليوم إلى مقر وزارة الداخلية ليرد بتشنج على كلمة نجيب الشابي وينفي أي نية له في استهداف السياسيين أو حل الأحزاب. ظهر قيس سعيد متوترا جدا عصبيا وعنيفا، وهي علامات خوف مما قد يكون استشعره من اتساع دائرة المعارضة وارتفاع منسوب الضغط عليه.

ثمة قناعة لدى غالبية النخبة السياسية والثقافية والإعلامية والنقابية بأن خطاب قيس سعيد أصبح يمثل تهديدا حقيقيا للسلم الأهلي وللنسيج المجتمعي، ولصورة تونس في الداخل والخارج.

الأطراف التي يقول قيس سعيد إنه سيدعوها للمشاركة في "حوار وطني"، أعلنت عن ترددها وعبرت عن مواقف نقدية من تصور الرئيس للحوار، فهي تعي أنه مضطر للجلوس معها شكليا لإقناع الجهات المقرضة والمانحة بأنه استجاب لشروطها؛ حين ربطت الدعم المالي بحوار وطني حقيقي تشارك فيه الأحزاب والمنظمات الوطنية.
الأطراف التي يقول قيس سعيد إنه سيدعوها للمشاركة في "حوار وطني"، أعلنت عن ترددها وعبرت عن مواقف نقدية من تصور الرئيس للحوار، فهي تعي أنه مضطر للجلوس معها شكليا لإقناع الجهات المقرضة والمانحة بأنه استجاب لشروطها؛ حين ربطت الدعم المالي بحوار وطني حقيقي

الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة؛ عبروا بأساليب مختلفة عن توجسهم من تصور قيس سعيد للحوار، فلا هم أعلنوا رفض دعوته، ربما خوفا من ردة فعله، ولا هم أعلنوا بوضوح قبولهم المشاركة لعدم تأكدهم من كونه سيستمر إلى ما بعد 25 تموز/ يوليو 2022، فثمة كلام على أنه لن تكون هناك "سنة انقلاب ثانية".

أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي قال يوم السبت (7 أيار/ مايو) بمناسبة حفل تكريم العامل المثالي في مدينة الثقافة بتونس العاصمة: "تنظيم حوار صادق ونزيه دون إملاءات من الداخل والخارج.. لا يمكن أن يكون هناك توافق مفروض بالقوّة أو من خلال التسليم بالأمر الواقع".

وفي آخر بيان لها بمناسبة الذكرى 45 لتأسيسها، قالت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان: "ووعيا من الرابطيين بالتحديات الكبرى التي تمرّ بها البلاد وبدقة المرحلة، تجدّد الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان استعدادها للمشاركة في كل ما قد يساعد على الخروج من الحالة الراهنة، شريطة أن يكون ذلك ضمن رؤية تشاركية ملزمة لكل الأطراف، وبدون ضوابط مُعدّة مُسبقا".

أما اتحاد الصناعة والتجارة فقد عبر رئيسه بالقول: "فإننا في الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية لم ولن نفقد الأمل في القدرة على الإنقاذ، ولسنا ممن يستسلم أمام التحديات، وكلنا عزم صادق وإرادة قوية من أجل مجابهة هذا الوضع، ونحن نؤمن أنه بإمكان بلادنا بلوغ شاطئ الأمان، شرط العمل والاجتهاد والتوافق على برنامج إصلاح جريء وشجاع".

رئيس جمعية القضاة التونسيين، القاضي أنس الحمادي، خلال كلمة افتتاحية في اجتماع المجموعة الأفريقية للاتحاد الدولي للقضاة، الذي ينعقد بتونس العاصمة بين 7 و10 أيار/ مايو الجاري، قال: "إن هذا الاجتماع ينعقد في ظرف تشهد فيه السلطة القضائية في تونس أزمة حقيقية وصعوبات جمة وأوضاعا بالغة الخطورة.. إن مسار التأسيس للسلطة القضائية المستقلة وتثبيت دعائمها في تونس، شهد انحرافا خطيرا منذ 25 تموز/ يوليو 2021، تاريخ إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد عن جملة من التدابير الاستثنائية طبق الفصل 80 من الدستور، تدابير لم يكتف من خلالها بتجميد أعمال مجلس نواب الشعب والتفرد بالسلطة التشريعية في جميع المجالات بواسطة المراسيم الرئاسية وترؤس السلطة التنفيذية بالكامل والتحكم في جميع تعييناتها الوزارية والإدارية من خلال الأمر الرئاسي عدد 117، بل توجه من خلاله أيضا إلى الاستحواذ بالكامل على السلطة القضائية وتقويض مقومات استقلالها المؤسساتي وحتى الوظيفي..".

إضافة إلى العزلة الخارجية، فإن قيس سعيد يواجه عزلة داخلية غير مسبوقة، وهو محل تندر شعبي لم يشهده من قبله أي رئيس عربي، وذلك راجع إلى كونه لم يقنع التونسيين لا بكونه رئيسهم جميعا ولا بكونه قادرا على حل مشاكلهم المعيشية والمالية، بل إنه أصبح مصدر تهديد لوحدتهم وانسجامهم الذي عرفوا به منذ قرون.
انفض من حوله أغلب من ساندوه في البداية، ولم يبق معه إلا قليل ممن يجدون التعلق بأمل ضعيف أفضل من شبح العودة إلى تجربة في الحكم يرونها فاشلة وقاتمة أيضا، دون محاولة تنسيب المواقف وتوزيع المسؤوليات بين مختلف الأطراف، بمن فيهم رئيس الدولة الذي تأكد الآن بأنه كان جزءا من المؤامرة على المسار الديمقراطي

لقد انفض من حوله أغلب من ساندوه في البداية، ولم يبق معه إلا قليل ممن يجدون التعلق بأمل ضعيف أفضل من شبح العودة إلى تجربة في الحكم يرونها فاشلة وقاتمة أيضا، دون محاولة تنسيب المواقف وتوزيع المسؤوليات بين مختلف الأطراف، بمن فيهم رئيس الدولة الذي تأكد الآن بأنه كان جزءا من المؤامرة على المسار الديمقراطي وعلى البرلمان.

بعد أن استفرغ ما في قاموسه من مفردات الشتائم والتحريض والتخوين، وبعد اشتغاله طويلا على طهورية افتراضية وشعبية فيسبوكية، وبعد محاولاته تخويف معارضيه، وبعد فشل حملاته التحشيدية للمرة الثالثة، أما آن لقيس سعيد أن يُريح ويستريح؟ أما آن له أن يلامس الأرض بقدميه يتحسس الحقيقة ويعترف بالحقائق ويتواضع سياسيا فيختار بين خيارين: إما الدعوة إلى حوار وطني حقيقي تشارك فيه كل القوى السياسية والمنظمات الوطنية لمعالجة كل القضايا ومراجعة النظام السياسي والنظام الانتخابي وتنقيح الدستور والذهاب إلى انتخابات عاجلة، وإما استنقاد ما تبقى له من صورة تبدو إيجابية لدى بعض التونسيين؛ فيعترف بفشله ويقدم استقالته ويعتذر عن كل ما حصل بسبب خطاباته العنيفة من اختطاف ومحاكمات وحملات تشويه وهتك للأعراض وتهديد للسلم الأهلي؟

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)