أفكَار

معضلة المسلمين في استحقاقات فرنسا الانتخابية.. كلفة الاصطفاف

مسلمو فرنسا.. ماكرون أخف الضررين و"تخوف" من المستقبل  (الأناضول)
مسلمو فرنسا.. ماكرون أخف الضررين و"تخوف" من المستقبل (الأناضول)

أسفرت الانتخابات الفرنسية عن نتائجها، وتركت خلفها سؤالا عريضا يتعلق بموقع المسلمين في هذا الاستحقاق الانتخابي، وما إذا كانوا يشكلون كتلة مؤثرة يُستجدَى دعمها مقابل مصالح معينة، أم أنهم باتوا لا يملكون خيارا سوى ما كان من تحمل الضرر الأخف من أجل دفع الضرر الأشد، لا سيما بعدما أسفرت الجولة الأولى من الانتخابات عن مرشحين اثنين، يصعب تجنب حجم الضرر الذي سيصيب المسلمين من جراء انتخاب أحدهما دون السقوط في ضرر مقابل إذا ما تم انتخاب الآخر.

الفرصة الضائعة:

منذ البداية، وقبل انطلاق العملية الانتخابية، كان واضحا من خلال المعطيات التي وفرتها استطلاعات الرأي المنجزة، أن سمة اللايقين هي التي ستحكم العملية الانتخابية، وأن منح ماكرون الصدارة بنسبة 25 في المائة أو حتى 27 في المائة، كان دائما محفوفا بتحدي ارتفاع أصوات مرشحة اليمين المتطرف (حوالي 22 في المائة)، وتعاظم فرص مرشح اليسار المتطرف لوك ميلونشون (حوالي 18 في المائة) للمرور للجولة الثانية.

لقد كشفت معظم استطلاعات الرأي الفرنسية مبكرا أن المحدد الحاسم للانتخابات الرئاسية الفرنسية من الناحية الرقمية، هو كتلة المترددين التي لم تظهر مؤشرات كافية عزمها المشاركة في التصويت، أو لم يتحدد بعد مزاجها الانتخابي، وإلى أي جهة تميل، وتم حصر هذه الكتلة المترددة ما بين 25 إلى 30 في المائة من الناخبين الفرنسيين.

ما يؤكد ذلك أن المرشحين للرئاسة، وفي مقدمتهم، الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، انتبه إلى التحدي الذي تشكله نسبة هذه الفئة المترددة، وحاول أن يبني تكتيكه الانتخابي على الرهان عليها، بل إن مرشحة اليمين المتطرف نفسها، حاولت أن تشتغل على تعديل تكتيكاتها الانتخابية، وتحدث تحيينات مهمة على خطابها الانتخابي، من أجل أن تحدث اختراقا مهما في هذه الفئة، إذ اتجهت إلى تلطيف الخطاب تجاه المسلمين وبعض قضاياهم الحساسة، مبدية نوعا من المراجعة الفكرية لمواقفها (موضوع الحجاب) حتى تستميل ولو جزءا من المسلمين إلى حلمتها الانتخابية، في حين بدا مرشح اليسار المتطرف أقرب إلى الحديث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفئات الشعبية، التي ينحدر أغلب المسلمين منها، ومال خطابه أكثر لاستمالة المسلمين، والانتصار لحقوق الأقليات.

منذ وقت جد مبكر إذن، كان الرهان على الفئة المترددة لحسم العملية الانتخابية، واتجهت التكتيكات الانتخابية إلى إدخال معامل المسلمين، في الخطاب الانتخابي للمرشحين الرئاسيين، دون أن يتم الاستيعاب العميق لما تمثله هذه الحالة من فرصة حقيقية للمسلمين في فرنسا من أجل تكتيل صفهم، والدخول للحملة الانتخابية كقوة تفاوضية حاسمة، تستطيع أن تفرض (تطرح) شروطها، أو على الأقل، توقف جملة من التضييقات التي مارستها السياسات الحكومية التي تذرعت بعناوين مكافحة التشدد الإسلامي وحماية الهوية العلمانية الفرنسية.

التنافس في دفع الضرر

ومع أن العرض السياسي والبرنامجي الذي قدمه المرشحان الرئاسيان اللذان مرا إلى الجولة الثانية، اشتغل على قضايا مركزية، تكفي في تقدير القائمين على الحملة الانتخابية لاختراق الفئة المترددة، إلا أن المرشحين، أدركا أن هذا العرض يتطلب إحداث تحيينات مهمة على الخطاب الانتخابي، والقيام بمراجعات، ولو جزئية لإرضاء المسلمين أو التقليص من نسب تخوفهم.

الرئيس ماكرون الذي ركز في خطابه على مفهوم الاستقلال ومفهوم الاكتفاء الذاتي (الاستقلال الأمني بتقوية منظومة الدفاع، وتقوية القطاع الفلاحي والصناعي، وبناء قوة فرنسا المؤثرة في أوروبا)، كان يدرك أن قانون مكافحة التطرف الإسلامي، الذي كان من أشد المناصرين والداعمين له، قد أحدث أضرارا كبيرة على سمعته الانتخابية لدى المسلمين، وأنه يحتاج إلى أن يرمم هذه السمعة، ولو بإحداث تحيينات جزئية على خطابه الانتخابي، بما يصحح الصورة، ويحفز المسلمين على تقديم الدعم له.

الرئيس ماكرون كان متيقنا أن أسهمه عند المسلمين، على الرغم من التداعيات السلبية لمكافحة التطرف الإسلامي، هي أكبر من أسهم منافسته مرشحة اليمين المتطرف، وأن المسلمين، لن يصوتوا بشكل عقابي عليه، ليجدوا أنفسهم في مواقع دعم مرشحة اليمين المتطرف، التي تقوم رؤيتها الفكرية وبرنامجها السياسي منذ أول يوم، على مكافحة المهاجرين ودعم ثقافة الإسلاموفوبيا، وتكريس فكرة عنصرية عن هوية منغلقة لـ"فرنسا التاريخية"، لكنه مع ذلك، كان ينطلق من افتراض آخر، هو أن كتلة المسلمين الانتخابية، يمكن أن تكون رقما خارج الحساب الانتخابي، وذلك من شأنه أن يقوي حظوظ مرشحة اليمين، التي تعتبر الكاسب الأكبر من المقاطعة الانتخابية ومن ظاهرة العزوف الانتخابي، بحكم أن قاعدتها الناخبة تقليدية، وأنها لا تعول كثيرا على المزاج الانتخابي المتحول للفئات المترددة، وأنه يكفيها في معركتها أن تراكم أصوات منافسها في اليمين المتطرف، والذي خرج من دائرة التنافس الانتخابي، وأن توسع دائرة أنصارها التقليديين الذين يميلون لخطاب الهوية ومفردات الأمن والهجرة، وتشتغل على استمالة أنصار آخرين، يهتمون أكثر بتداعيات جائحة كورونا أو تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا على معاشهم اليومي، وينتقدون الموقف الذي اتخذته فرنسا من هذه الحرب. 

لماذا ارتفع الطلب على كتلة المسلمين في فرنسا؟

بعض المراقبين في الداخل الفرنسي استحضروا بشكل ملفت تجربة انتخابات 2017، وبدؤوا يتحدثون عن استنساخ التجربة، واعتبروا أن التقدم الذي حصلت عليه مارين لوبان في الجولة الأولى، لن يشفع لها في تحقيق نتائج مهمة في الجولة الثانية، وأن ما حدث سنة 2017 من تواطؤ بين خصوم التيار اليميني المتطرف، لمنعها من الوصول لقصر الإليزيه، سيتكرر بنفس الصورة. 

لكن النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الرئاسية الفرنسية في جولتها الأولى، بينت أن سيناريو 2022 سيكون مختلفا، لاعتبارات عدة، منها أن الأحزاب التقليدية، مُسحَت تماما من الطاولة، فلم يعد لليمين التقليدي، ولا لليسار التقليدي، أي حجم وازن، يمكن أن يعول عليه، لرسم عناصر مهمة في هذا السيناريو. والثاني، أن مرشح اليسار المتطرف، الذي حصل على رقم وازن في الجولة الأولى، بحوالي خمس الأصوات، لم يعلن تأييده لماكرون ضد مارين لوبان، ولم يعلن في الوقت نفسه، عزمه التصويت ضده، مما أبقى الاحتمالات مفتوحة. 

والثالث، أن المسلمين، الذين كانوا في العادة يصوتون، وبدون أدنى حاجة إلى تقدير مسبق، ضد مرشحة اليمين المتطرف، وجدوا أنفسهم أمام خيار آخر، هو مقاطعة العملية الانتخابية، بحكم أن المرشحين معا يستويان في الضرر مع تفاوت الحجم، وأنه لا يوجد مرشح رئاسي، يمكن أن يخدم كتلة المسلمين أو يضمن جزءا من مصالحهم. والرابع، أن الفوارق بين ماكرون ومارين لوبان أضحت متضائلة، بشكل كبير، وأنه لا يرشح أي فاعل سياسي وازن في المشهد السياسي، يمكن أن يعول عليه للقيام بدينامية محاصرة مرشحة اليمين المتطرف بالاشتغال على صياغة تحالف ضدها، يستطيع أن يعبئ الناخب الفرنسي.

مسلمو فرنسا ذلك الكم المهمل العاجز عن التفاوض

الأرقام التي أسفرت عنها العملية الانتخابية وضعت المسلمين في دائرة معضلة، فمن جهة، اشتد الطلب عليهم لتقوية حظوظ هذا المرشح ضد الآخر، بحكم أن التحليلات دعمت فكرة أن المحدد الحاسم في العملية الانتخابية سيكون هو الكتلة المترددة (غير المتيقن من مزاجها الانتخابي). ومن جهة مقابلة، فالمسلمون، وضعوا بين خيار الضرر الأشد (مرشحة اليمين المتطرف) والضرر الأخف (إيمانويل ماكرون). 

في السابق، كان مسلمو فرنسا، يوجدون في معضلة أقل من هذه، فبعضهم كان يميل لليمين الفرنسي، لكنه كان يصطدم، بتوجهاته المحافظة التي تضيق الخناق على بعض حقوق المسلمين الاندماجية، وبعضهم الآخر، كان يميل لليسار التقليدي، لكنه كان يصطدم ببعض توجهاته الحقوقية التي تعاكس مواقف المسلمين بخصوص التربية وأنماط الأسرة والصحة الإنجابية، وبعضهم الآخر، نتيجة لهذه المعضلة، بدأ يجنح لاختيار مرشحي الوسط.

لكن مع الانتخابات الرئاسية الحالية، تغيرت المعادلة بشكل جذري، فقد سجلت الأحزاب التقليدية تراجعا كبيرا، فاليمين (حزب الجمهوريين) الذي أحرز في الدور الأول من انتخابات 2017 حوالي 20 في المائة من الأصوات، لم تحصل مرشحته فاليري بيكريس إلا على 4.6 في المائة، في حين تعمقت أزمة الحزب الاشتراكي، وذلك من نسبة 6.5 في المائة سنة 2017 إلى 1.8 في المائة فقط في الرئاسيات الحالية. والوسط الذي يمثله حزب السير إلى الأمام (إيمانويل ماكرون)، لم يعد يبرر صعوده بهوية حزبية، أو بمشروع سياسي، وإنما يبرره بحالة التوازن التي يفرضها توسع التيارات المتطرفة يمينا ويسارا، لا سيما وأن الأرقام الانتخابية تقول بأن مجموع أصوات التطرف اليساري واليميني في فرنسا تجاوز نصف الأصوات الفرنسية (52.2 في المائة).

 

الأرقام التي أسفرت عنها العملية الانتخابية وضعت المسلمين في دائرة معضلة، فمن جهة، اشتد الطلب عليهم لتقوية حظوظ هذا المرشح ضد الآخر، بحكم أن التحليلات دعمت فكرة أن المحدد الحاسم في العملية الانتخابية سيكون هو الكتلة المترددة (غير المتيقن من مزاجها الانتخابي). ومن جهة مقابلة، فالمسلمون، وضعوا بين خيار الضرر الأشد (مرشحة اليمين المتطرف) والضرر الأخف (إيمانويل ماكرون).

 



في الانتخابات السابقة، كان الوضع مساعدا على استمرار معضلة المسلمين السابقة (التأرجح بين اليمين واليسار التقليديين والوسط)، فقد خدم التداول على الحكم بين اليمين واليسار التقليديين استمرار عناصر هذه المعادلة، وحتى في انتخابات 2017، كادت أن تحتفظ المعادلة بجميع عناصرها، فاليمين الذي كان رأسه ممثل الجمهوريين فرانسوا فيون، حصل على نسبة مهمة من الأصوات (حوالي 20 في المائة من الأصوات)، ولولا الحملة الإعلامية التي خيضت ضده بسبب تورطه في قضية فساد، تتعلق بقضية وظائف وهمية لزوجته وولديه، لكان من المتوقع أن تعرف الرئاسيات الفرنسية في دورها الأول سنة 2017 منحى مختلفا.

لكن مع انتخابات 2022، ومع صدور نتائج الدور الأول، ارتسمت عناصر معادلة جديدة، خدمتها وضعية كتلة المسلمين المهملة، وعدم قدرتها على تمتين صفها، فصار المسلمون يترددون بين خيارين مؤلمين، مقاطعة الانتخابات، أو دعم المرشح الأقل ضررا، وهو ما يعني، إسناد الرئيس الحالي إمانويل ماكرون، كما يعني من جهة أخرى، التغاضي بشكل مطلق عن حجم الأضرار البالغة التي أحدثها ضدهم قانون مكافحة التطرف الإسلامي، الذي سانده ماكرون ومنحه كل عناصر الدعم ليحظى بالشرعية، مع أن قانون مكافحة التطرف الإسلامي، لم يكن في الجوهر سوى ذريعة للانتقال إلى مكافحة الوجود الإسلامي في فرنسا، من خلال ضرب أذرع المسلمين الدينية والتربوية واللغوية والمالية.

هل كان لمسلمي فرنسا خيار؟

بعض ممثلي المسلمين، استبقوا هذا الوضع المعضلة، لكنهم كانوا يتحججون بعدم وجود الخيار، وأنه في ظل عدم وجود مرشح قوي، يدعم مصالح المسلمين، فإن الخيارات تبقى دائما محدودة، وأن تاريخ الاستحقاقات الانتخابية، يؤكد بأن دينامية المسلمين كانت دائما محكومة بسقف دفع الضرر الأشد بتحمل الضرر الأخف.

لكن الفاعلين السياسيين الذين دخلوا ساحة المنافسة الانتخابية في الدور الأول كانوا في حقيقة الأمر، يوفرون هذا الخيار للمسلمين، فمرشح اليسار المتطرف، حتى بإعمال قاعدة تحمل الضرر الأخف، كان  أجدر أن يكون محل تفاوض مع المسلمين، شريطة أن يتم الاشتغال بشكل مبكر وحيوي على توحيد كتلة المسلمين، وإقناع المرشح اليساري بحجم الدعم الانتخابي الذي سيحظى به من جراء إسناد هذه الكتلة له، وما يتطلبه ذلك من تعاقدات تفاوضية، يتم من خلالها تقليص حجم الأضرار التي غالبا ما تلحق بالمسلمين من جراء تصدر اليسار للمشهد السياسي، خصوصا إذا تعلق الأمر باليسار المتطرف.

واقع الأمر يؤكد بأن المشكلة لم تكن مطلقا في غياب الخيار، بل في عدم فهم تغير المعادلات (تغير معضلة المسلمين بحسب تغير السياق السياسي)، وعدم استيعاب شرطية إحداث تغيير ذاتي مهم،  يمس كتلة المسلمين وتمثيليتهم، وحاجتهم للتكتل في كتلة تفاوضية واحدة، يمكن أن تنقلها من واقع عدم وجود الخيار، أو التردد بين خياري دفع الضرر الأشد بتحمل الأخف، إلى واقع صناعة خيار الخروج من المعضلة، بإسناد مرشح رئاسي، يراعي مصالح المسلمين وحقوقهم، ويصد عنهم حجم المضايقات التي صاروا يتعرضون إليها، إما بسبب سياسات حكومية تستهدف وجودهم بذريعة مكافحة التطرف الإسلامي، أو منع حصول السيناريو الأسوأ بصعود التيار المناهض للمسلمين، الحامل لأجندة عنصرية توغل في تعزيز ثقافة الإسلاموفوبيا واقتلاع الوجود الإسلامي من فرنسا، بل ومن أوروبا برمتها.


التعليقات (0)