كتب

الأسباب البعيدة والمباشرة لغزو العراق.. شهادة دبلوماسي مصري

ديبلوماسي مصري مخضرم يروي شهادته على مسيرة العراق من السيادة إلى الغزو الأمريكي
ديبلوماسي مصري مخضرم يروي شهادته على مسيرة العراق من السيادة إلى الغزو الأمريكي

الكتاب: "مِصر وعِراق صَدام حسين"
الكاتب: سيد أبو زيد
الناشر: دار الشروق، الطبعة الأولى- القاهرة 2021


السفير سيد أبو زيد، مساعد وزير الخارجية المصري السابق للشؤون العربية بالشرق الأوسط، كان شاهد عيان، ومتابعا لكثير من الأحداث التي مرت بها دولة العراق، بحكم عمله بها في فترتين، الأمر الذي مكنة من قراءة الأحداث بكل دقة ووضوح، وجعله على يقين وإيمان ثابت لا يتزعزع، من أن العراق سيقف في النهاية على قدميه مرة أخرى قائلاً: "دول الحضارة مهما يمر بها من مصائب، ومِحن، فإن نواة الأصالة والعراقة فيها لا تنكسر، وإنما تظل على صلابتها لكي تجد الفرصة كي تشع من جديد".
 
لذا نَظَمَ أبو زيد كتابه، والذي صنف ضمن كتب المذكرات، في ٢٦٣ صفحة، قسمت ما بين مقدمة و٦ فصول، بالإضافة إلى ملحق للصور، تناول فيه قصة العراق بوجهٍ عام، وإن كان قد سلَّط الضوء أكثر على الفترة التي ظهر فيها صدام حسين على المسرح السياسي العراقي، إلى أن تولى زمام الأمور بصورة كاملة دون مُنازع، وحتى انتهاء عهده بصورة مأساوية، والآثار المترتبة عن ذلك بوضع العراق في قالب جديد، يختلف تماماً عما قبله، وموقف مصر من كل هذه التطورات، وتأثيرها على العلاقات التي جمعت البلدين منذ فجر التاريخ. بهدف وزن الأمور وتقويمها، من خلال رؤية الأشياء أكثر وضوحاً، بنظرة شاملة، تعين على فهم الصورة الكلية، الأقرب إلى الفهم والمنطق القويم ، والحكم عليها بعقلانية وتوازن. 

أرجع المؤلف أهمية الكتاب، إلى أهمية العراق ذاته، وحيوية العلاقات المصرية العراقية، خاصة من الجانب الإستراتيجي، بالإضافة لما يمكن أن تصب فيه العلاقات في مختلف المجالات، بين بلدين، وضح عبر التاريخ عمق المصلحة المشتركة وفائدتها لهما، سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، فضلاً عما سببته أحداث العراق في العصر الحديث من تغير لوجه المنطقة العربية، وكانت القاهرة ليست ببعيدة عنها وتتابعها عن كثب، وتأثرت بها، وأثرت فيها بصورة مباشرة .
 
استهل أبو زيد فصول كتابه، بنبذة مختصرة عن سيرته الذاتية، وبداية التحاقه بالعمل الدبلوماسي، في أوائل الستينيات، وأنه بسبب تأثره بالأوضاع السياسية للأمة العربية، وأمله ككل شاب عربي آنذاك، في تحقيق حلم "الوحدة العربية"، باعتبارها الخلاص من الضعف، والمهانة أمام الدول الاستعمارية، فقد فَضَلَّ أن يتخصص في الشؤون العربية، موضحاً مدى حبه وارتباطه بدولة العراق، وأنها كانت الدولة الأقرب إلى قلبه، طوال سنوات عمله كسفير.
 
ألقى أبو زيد نظرة سريعة، على طبيعة العراق المناخية، وأوضاعها السياسية المتقلبة، وتعدد الأجناس والمذاهب والألسنة فيها، كما وصف الشخصية العراقية بأنها : " حادة المواقف والعواطف، تحب أو تكره إلى أقصى الحدود، ويضيق العراقي بالمواقف المُهادنة والمساومة إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، فيقف جامدًا وهو كظيم إلى أن يجد الفرصة للتعبير عن مشاعره ومواقفه الحقيقية، وهو في علاقاته الشخصية والعامة على استعداد لأن يقدم حياته دون تردد لمن يحمل له صداقة حقيقية، يتحمل أقصى الضغوط والتضحيات، ولكنه لا ينسى ما حدث له مهما طالت المدة، ولهذا فهو يفرز بدقة أعداءه من أصدقائه".

 

كان صدام يمثل القبضة الحديدية الباطشة بخصومه، وكان أيامها شاب (عمره ٣١ عامًا) يملؤه الطموح والثقة في أن يصل في النهاية إلى مبتغاه بالاستئثار بالحكم، لهذا بدأ في التخلص من خصوم النظام، خاصة قادة الكتائب الذين ساعدوه في البداية على الانقلاب على عبد الرحمن عارف،

 



تناول المؤلف بعدها دور مصر المحوري في المنطقة العربية، وعُمق العلاقات المصرية العراقية منذ فجر التاريخ، وارتباطهما الإستراتيجي، والحضاري، ما أدى لتقاسمهما ذات الأسباب التي جعلت كلا منهما مطمعاً للحكومات، والإمبراطوريات المتعاقبة، متحدثاً باستفاضة عن ثورة 1958، باعتبارها حدثاً مفصلياً في تاريخ العراق، ونهاية العهد الملكي بها. 

روى أبو زيد في الفصل الثاني، قصة استدعائه للسفر إلى بغداد، لأول مرة كملحق سياسي عام1962، في مهمة استمرت لست سنوات متواصلة، تخللتها العديد من الأحداث، والمواقف المؤلمة، والمثيرة، بسبب العلاقات التصادمية بين القاهرة وبغداد، في ظل الحكم القاسمي، وصفها أبو زيد قائلاً: "الخلاصة هي أننا كنا نعيش صعوبة أزمة العلاقات المصرية العراقية خارج السفارة، ونعاني صراعات العمل التي سادت تلك الفترة، وتلك كانت البوتقة التي صهرتنا جميعا".
 
رصد أبو زيد الخط البياني للحياة السياسية في العراق، وتأجج حرارتها، ما بين صعود وهبوط، نتيجة لانقسام الصف القومي بعد ثورة 58، واحتدام الصراع بين التيارات السياسية المختلفة، إلى أن حسم حزب البعث الأمر بتوليه السلطة، منتصف 1968، وحتى غزو القوات الأمريكية للعراق في آذار (مارس) 2003 وسقوط نظام صدام حسين.
 
ثنائية البكر-صدام

خصص أبو زيد الفصل الثالث من كتابه، للحديث عن حكم البعث، وثنائية البكر وصدام حسين، حيث جمعت السلطة العراقية، في منتصف عام 1968، بين نقيضين البكر رئيساً، وصدام نائباً، وفي لمحة عن أسباب هذا التناقض أشار أبو زيد قائلاً: "الأول كان كهلًا سبقت له تجربة قاسية خاضها حزب البعث، تولى فيها (البكر) رئاسة الحكومة في فبراير 1963، وفشل الحزب في الحفاظ على السلطة، وسقط بعدها بتسعة أشهر، حنكته الخبرة البعثية وتجارب الأمر الواقع، فكان يتعامل بهدوء مع مختلف الصعوبات التي واجهتهم في البداية، ويبدو متسامحًا أحيانًا مع الخصوم السياسيين إذا وجد نتيجة مرجوة بتقريبهم أو تحييدهم، ولكنه يضرب بكل قسوة وعنف إذ تطلب الأمر ذلك".

"كان صدام يمثل القبضة الحديدية الباطشة بخصومه، وكان أيامها شاب (عمره ٣١ عامًا) يملؤه الطموح والثقة في أن يصل في النهاية إلى مبتغاه بالاستئثار بالحكم، لهذا بدأ في التخلص من خصوم النظام، خاصة قادة الكتائب الذين ساعدوه في البداية على الانقلاب على عبد الرحمن عارف، (الرئيس العراقي الأسبق)، واتخذ مَقَرًا منفصلًا في المجلس الوطني يجمع فيه أنصاره وأدواته بدعوى حماية القياديين بالحزب، واتخذ صدام من قصر النهاية معتقلًا لخصوم الحزب من جميع الاتجاهات؛ حيث يخضعون لأقسى صنوف التعذيب؛ لانتزاع اعترافاتهم أو مجرد التنكيل بهم والتخلص منهم".

ورغم ذلك، فقد حققت هذه القيادة المتناقضة، كثيراً من الإنجازات، ساقها المؤلف ضمن صفحات كتابه، قبل أن يلقي أضواءه الكاشفة على شخصية صدام حسين، وطموح القيادة، وأحلام الزعامة العربية لديه، وقصة اعتلائه فوهة الحكم في 1979، وطبيعة العلاقات المصرية العراقية، إبان حكمه، وأُطُر تطورها، طوال هذه الحقبة، خاصة بعد الزيارة التي قام بها السادات لإسرائيل عام ١٩٧٧، وتوقيع إطار السلام في كامب ديفيد عام ١٩٧٨، وصولًا إلى عقد معاهدة السلام في واشنطن عام79، والدور الذي لعبه صدام حسين في تكوين "جبهة الرفض"، وتحريك الموقف العربي؛ لتجميد عضوية مصر بالجامعة العربية، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها .

الحرب العراقية-الإيرانية

أشار أبو زيد في ذات الفصل، إلى العوامل والأسباب التي أدت للصراع العراقي الإيراني، في حرب  امتدت لثماني سنوات متواصلة من 1980 وحتى 1988، وإلى الموقف المصري النبيل، ومسارعتها إلى دعم العراق الشقيق؛ للحفاظ على التراث العراقي، وكيف كان هذا الموقف من العوامل المساعدة على التعجيل بإعادة عضوية مصر إلى الجامعة العربية، وعودة العلاقات العربية المصرية إلى طبيعتها، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها.
 
كما أفصح المؤلف عن اعتقاد بأن النتائج الحقيقية للحرب العراقية الإيرانية، لم تكن تلك التي تحققت بصورة مباشرة، وإنما ما وقع بعدها من نتائج، وتداعيات، موجزاً إياها في أربع نقاط هامة، قد نرى معه أنها أقرب للصواب.

 

سلط أبو زيد الضوء على أحوال العراق بعد انتهاء الحرب مع إيران، وما نتج عنها من تداعيات، أطلق عليها "نُذُر العاصفة"، والتي كان في مقدمتها، القدرات العسكرية للعراق، وحقيقة امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل، وبالطبع، لم يفوت المؤلف أن يبرهن للقارئ على مدى صحة ذلك من عدمه.

 



في ظروف أصعب، عاد أبو زيد مرة أخرى إلى العراق عام 1990 لكن هذه المرة بصفته سفيراً، حيث كان الوضع هناك مٌثِيرأً للقلق، منذ 1989؛ لاعتبارات عديدة، وضحها المؤلف تفصيلاً، مثلت في مجملها، بداية غزل الخيوط الأولى لحرب الخليج الثانية، التي تفجرت بغزو الكويت، وبأسلوب قصصي مثير، أخذ أبو زيد يصعد بنا درجات تطور الحياة السياسية في العراق تدريجياً، بدأها بتصدر حزب البعث للحكم في العراق، ثم انفراد صدام بالسلطة، ووصف حكمه بالدكتاتورية، ودلالات ذلك، والدوافع الظاهرة، والمستترة للحرب العراقية الإيرانية .

ثم تحدث أبو زيد عن الوضع المتردي للجاليات المصرية في العراق منذ وفوده إلى هناك، وما لاقاه، وأعضاء القنصلية من صعوبات لحماية هذه الجاليات وخدمتها، مشيراً إلى طبيعة دوره هناك والأهداف التي عمل على إنجازها في العراق، وعلى رأسها تطوير العلاقات الثنائية بين مصر والعراق .

بصورة أعمق سلط أبو زيد الضوء على أحوال العراق بعد انتهاء الحرب مع إيران، وما نتج عنها من تداعيات، أطلق عليها "نُذُر العاصفة"، والتي كان في مقدمتها، القدرات العسكرية للعراق، وحقيقة امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل، وبالطبع، لم يفوت المؤلف أن يبرهن للقارئ على مدى صحة ذلك من عدمه.

الغزو العراقي للكويت

كذلك، أزاح أبا زيد الستار؛ ليكشف عن مقدمات صدام حسين لاجتياح الكويت، والمساعي المصرية لتجنب هذا الانفجار العربي، ثم قدم تحليلاً دقيقاً للملابسات الظاهرة، والملابسات الفعلية التي قادت إلى الغزو العراقي للكويت، في أغسطس 1990، وما آل إليه الوضع في الدولتين العراقية والكويتية، بعد الغزو، وجهود السفارة المصرية لحماية جالياتها هناك، وردود الفعل الدولية، والعربية ، وفي المقدمة رد الفعل المصري، ودوره  للخروج من الأزمة، لينهي أبو زيد فصل كتابة الرابع باندلاع الحرب العراقية الأمريكية يوم 17يناير 1991، وعودته للقاهرة قبل نشوب الحرب بساعات.

حمل الفصل الخامس من الكتاب عنوان "من يزرع الريح يحصد العاصفة"، كناية عن مدى الإثم الذي اقترفه النظام العراقي في حق ذاته وشعبه، وما كان لذلك من أثار، وتداعيات، لا يزال العراق يتجرع مرارتها حتى الآن، هنا تناول المؤلف مجمل القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن، منذ اليوم الأول للغزو، والتي صدرت جميعها بالإجماع، حيث كانت الأحادية القطبية تمارس سطوتها، وهيمنتها تماماً، على مجلس الأمن في هذه الحقبة، موضحاً مدى ما شكلته هذه القرارات من ضغط كبير على العراق، خاصة بعد اتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ومخالفته للقرارات الدولية، ما اتخذته أمريكا ذريعة؛ لحصار العراق وتوجيه الضربات الصاروخية له، كل حين، بدعوى حثه على التعاون مع لجان التفتيش، الأمر الذي أنهك العراق، وجعله في وضع صعب معه مقاومة الغزو الأمريكي عام 2003، في حرب غير شرعية، برهن أبو زيد تفصيلاً على عدم شرعيتها، وعلى الأسباب الحقيقية لها، مشيراً إلى أن الأستاذ محمد حسنين هيكل لخص الموقف في كتاب له بعنوان " الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق" ثم استطرد قائلاً : "ولم تمض أيام على الاحتلال، أن جميع الأطراف بمن فيها قوات الغزو  قد تكشفت لها الحقائق كاملة، وأهمها أن جميع الذرائع القانونية، والأخلاقية التي قيلت للغزو غير صحيحة، وأن من روج لها كان أول من يعرف أنها لا أساس لها من الصحة".

قبل أن يتطرق أبو زيد لموضوع انسحاب القوات الأمريكية من العراق، في الفترة من 2007 إلى 2011، ومدلولاته، تناول بالشرح بعض الإشكاليات التي واجهتها العراق، تحت وطأة الاحتلال الأمريكي وبعده ، منها الوضع السياسي، والعسكري،  والإشكالية الكردية، مروراً بظاهرة داعش، حيث توقف أبو زيد أمامها قليلا، في محاولة منه لسبر أغوارها، ومعرفة أسبابها، وأهدافها، ليستكمل مسيرته بالحديث عن كلاً من، العلاقات العراقية التركية، والعراقية الإيرانية.

أنهى المؤلف هذا الفصل الدسم، بمزيد من الآمال والأمنيات للعراق الشقيقة، راسماً الخطوط العريضة، والسبل، التي ينبغي السير فيها لتحقيق هذه الأمنيات، أهمها ضرورة إيلاء العراق عناية عربية خاصة، ومساندته في مواجهة ما يعصف به من تحديات داخلية، وخارجية تحقيقاً لاستقراره، ومنع التدخل في شونة، ووحدته أرضاً، وشعباً، واستقلال قراره.
 
عمد أبو زيد، في الفصل السادس والأخير من الكتاب، إلى تحذير الدول العربية، من عواقب استمرارها على نفس مُعطياتها، وشخُوصها، ومواقفها، بعد أن وصل الوضع العراقي، والعربي إلى حالة من التردي، والاضمحلال، بما يستوجب أن يتنادى جميع أعضاء الأمة العربية؛ لمحاولة الوصول إلى سبيل للخروج من هذا المأزق الكبير، وأنه من خطل الرأي أن يتصور أحد أنه مستبعد، أو بمنجاة عن هذا المصير.

بعد التحذير، جاء التذكير، فيذكرنا أبو زيد مرة أخرى بغايته من هذا الكتاب قائلاً : "قد تبدو الصورة قاتمة، ولكن طريق النهوض يبدأ حتماً بمعرفة الأمور على وجه الدقة، ووضع سبل الإصلاح بأمانة وجدية وجسارة، وإلا كان الحال العام القادم هو نفس ما نشهده هذا العام بل أكثر سوءاً، إذ إنه لا يمكن أن نتوقع أي تحسن دون سعي وتدخل من جانبنا".
 
اختتم أبو زيد كتابه بعرض موجز للأوضاع الراهنة في المنطقة، ألحقها بأطروحاته، التي يرى أنها قد تكون هي الوسيلة لتغير الأحوال، ومن خلال هذه الأطروحات، ألقى نظرة عميقة على احتمالات المستقبل في العراق، واحتمالات مستقبل العلاقات المصرية العراقية.
 
أخيرا، يجدربنا القول، أننا أمام كاتب، أفاد، وأمتع، حين قدم للقارئ من خلال منهج تاريخي تحليلي، كتاباً مثيراً، طوي على أهم المراحل، والأحداث، التي شكلت تاريخ دولة العراق، وأثرت فيها، وفي علاقاتها الدولية، والعربية، وعلى وجه الخصوص العلاقات المصرية منها، لذا فهو كتاب لا يفوت المثقفين، والباحثين في الشؤون السياسية، والمهتمين بالشأن العربي القومي. 


التعليقات (0)