كتاب عربي 21

فوّار تونس وفوّار مصر

أحمد عمر
1300x600
1300x600
"فوّار" قريب لي، سقطت نقطة من الحرف الأخير من اسمه ففرّ ونزح مثلي إلى تركيا، في أول أمره، استدان وباع عقاراً، وهاجر. وكان كلما رآني اشتكى من الفقر والحاجة، والقرابة أرحام ورحمات، فلا يقدر المرء على الفكاك منها، ولو استطعت لهربت منه وفررت فراري من الأسد.

هو ليس مليونيراً، لكنه ينتشي باستخدام التعابير المالية القديمة قبل حقبة العدالة والتنمية في تركيا، فالليرة مليون، وقد شرب اليوم بعشرة ملايين ليرة شاياً، وأكل سندويشة بخمسة ملايين ليرة، أي بخمس ليرات في الحساب الجديد، ويدفع أجرة البيت ملياراً من الليرات. وهو يسدي إليّ النصح مع أنه أصغر مني بسنة، وكان يطالبني بتعلّم التركية، ونحن نازحان عابران، فليست تركيا بدار قرار. قال إنه يسعى إلى "فيزياء شنغل" وهي غالية ومكلفة، كان ينطق الكلمات الأعجمية نطقاً يجعلني أتميّز غضباً، وهو ليس أميّاً، فهو حاصل على إجازة في الفيزياء، لكن ذلك لا يبيح له أن يلفظ الفيزا فيزياء، فبين الفيزا والفيزياء ما صنع الحداد ونجّر النجار.

ويعلم فوّار صلتي بالكتابة والصحافة والرأي والثقافة، أخبرني مرة بأنه يحبُّ روايات أنعام الغانمي وإنه يقرأ رواية لها، فصححت له اسمها فهو أحلام مستغانمي وليس أنعام الغانمي، لكنه مضى من غير وقوف على إشارات الوقوف الثقافية والإعلامية الحمراء، فسألته عن اسم الرواية، فادّكر وعبس وقال: إنها.. وحاول أن يتذكر اسمها، لقد نسي اسمها، فقال: اسمها يتصل بالعشوائية، وغياب الترتيب. ثم أبرز لي فوّار أنه مثقف وعلامة، فتذكر اسم رواية سليمان الرشود، يقصد سلمان رشدي.

فوّار مصر أذكى من فوّار سوريا عندما جدد في الدّين وحاول أن يصلحه، فروى قصة المرأة التي جاءت تشتكي من زوجها: "يروح النبي كده تجي كده عايزة تغيّر القانون". أظن أن فوّار مصر وفوار سوريا مثقفان ومصلحان وفصيحان. لدينا رؤساء عارفون وعلماء بالفقه والسيرة مثال ذلك العلاّمة قيس سعيد، الذي روى قصة لعمر بن الخطاب، عندما قال له أحد أعوانه: أحملها عنك يا أمير المؤمنين، فغضب قيس سعيد من العون، وقال: أأنت تحملها عني يوم القيامة! فعطل كل القانون التونسي وعلقه من عرقوبه.

كان أصدقائي الدارسون في الاتحاد السوفييتي يغضبون بشدة عندما نذكر اسم تولستوي، فيصفّرون ويرفعون لنا البطاقة الحمراء، ويصححون لنا اسم الأديب الروسي ويقولون: طولّلستوي، مثقلين حرف اللام ومفخمينه. وعندما ننطق اسم الكاتب نيقولاي غوغول، يغضبون وتحمرُّ الحدق، على من ضم شمل البلاد، ويصوّبون لنا النطق، فهو غوغِل يا فالح، على وزن عوكِل اسم بطل فلم محمد سعد الشهير عوكل.

نحن في سعة يا قوم من الأمر، فالفرنجة يلفظون اسم دمشق داماس كوس، والعراق إيراك، الذي يصنع منه المسواك، والدار البيضاء كازا بلانكا. وكنت أظنُّ في بداية أمري في الكتابة الصحافية أنَّ المرء حتى يكتب وينشر في الصحافة العربية المحترمة يجب أن يلمّ باستخدام كلمات براقة افرنجية تشبه أدوية الصيدليات، مثل البراكسيس والإنتلجنسيا والسستم والأنتروبيا، ويحسن دسّها في المقالات، لصدم القارئ بمطرقة الصدمة الحضارية، فمعظم ما كنت أقرأ في الصحف العربية كان يحتوي على أدوية افرنجية من صيدلية المعارف.

ويعدو الأمر طوره في كتابات النقاد المعاصرين الذين يدبجون كتباً بمئات الصفحات، بجانب كل مصطلح اسمه مرقوناً باللاتينية، مثل "التبئير" و"الفوكوس" و"الناراتيف"، وهي كتب تذكرني بزمزمات الكهان في الجاهلية، ولم أستفد منها قط.

وكنت أستمتع بملخصات الروايات في الصحافة، وتلخيص الروايات فن ليس بالسهل، والملخصات الصحافية كانت أكثر فائدة من قراءة كتاب من كتب هؤلاء النقاد الميامين.

وقد التقيت بقريبي فوّار بعد حصوله على "فيزيا شنغل"، فنزح من تركيا إلى ألمانيا، وأمسى جاراً لي، فالتقينا، وكان لقاؤنا مصادفة في عزاء، وكان قد أحضر معه ولديه، وهما صبي وبنت، فعرّفني بهما، وقال: الولد اسمه ويليام، والبنت اسمها مريم، وقال ضاحكا: الاسمان على القافلة، أي على القافية، وشروط القافية غير متحققة في الاسمين. وشكا لي من ارتفاع أجور الحصول على شهادة سواقة السيارات، وهي "بالمينيمول" تكلف 2500 يورو إذا نجح من أول مرة، أما إذا لم ينجح من أول مرة، فكلفتها تنوف على أربعة آلاف يورو "بالماكسمول". وأخبرني أنه وجد بيتاً جديداً للأجرة، ودفع "الرعبون"، يقصد العربون.

وأعرف أن المرء قد يخطئ في نطق الكلمات الأعجمية، فهو في حل من نطقها نطقا صحيحا، وكان أجدادنا يصفّحون الكلمات حتى تناسب ألسنتهم، فأرسطو هو أرسطو طاليس، وبيتر هو بطرس. وقد حاولت الفرار من قريبي المليونير فوّار الذي دفع الرعبون، وسمّى أولاده أسماءً على القافلة، وكلما حاولت تفاديه، وجدته في وجهي، أروح كده، يجي كده، وأنا أنوي أن أغيّر القانون.. وأجعله على القافلة، كما يريد فوّار تونس أن يحمل تونس على كتفه من غير برلمان ولا أعوان، أما فوار مصر فقد فار فورة لم يبلغها فرعون في التاريخ.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (1)
ناصحو امتهم
الإثنين، 03-01-2022 06:14 م
حياك الله أخ احمد عمر و صبرك و إيانا على قريبك و امثاله الكثّر و هم ليل هزيمتنا الحضارية متمضهرا في تشوّهات الذهن و اللسان و الذوق و الانسحاق في الآخر .