كتاب عربي 21

استراتيجية الاستخفاف بالإنسان.. المواطنة من جديد (71)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
رغم أن الإنسان بنيان الله "ملعون من هدمه"، وأن التكريم الإنساني اختص به الله سبحانه وتعالى بتفضيل هذا الإنسان عن كافة مخلوقاته؛ إلا أن النظم العسكرية والانقلابية إنما تتخذ استراتيجية أخرى في مواجهة الإنسان، فهي لا تقيم له وزناً، ولا لحياته مغزى، ولا لكيانه معنى، بل إنها تحترف استراتيجية يمكن تسميتها "استراتيجية الاستخفاف بالإنسان" لتقوم بذلك وفق تصور معين، وفي إطار سياسات ومواقف كلها تشير إلى هذا الإدراك الذي يتعلق بنقض كيان الإنسان.. ولا بأس في هذا المقام أن تقوم تلك النظم بتزيين أمورها ببعض الكلمات الفائضة والزائفة حينما تعبر عن استراتيجية حقوق الإنسان. ولعل تلك الاستراتيجية الزائفة التي تحدثنا عنها قبل ذلك تتخذ أشكالا وألوانا من الشواهد التي تعد قرائن فادحة وفاضحة لهذا المعنى الذي يترجم استراتيجية الاستخفاف بهذا الإنسان، والتي تعد إنسانيته هي أساس وجوده، وجوهر مواطنيته.

يبدو لنا ذلك في مشاهد مثل ذلك الوفد الذي شُكل على عجل حتى يجمل وجه النظام القبيح، وهو وفد حقوق الإنسان الذي ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليقابل من يقابل ضمن استراتيجية الزيف للحقوق الإنسانية، ويستحق أن يلقب بحق "وفد الكذب الإنساني" الذي يحاول أن يجمل وجه النظام القبيح الذي يقتل بدم بارد ويعتقل بالجملة ويقوم بالقتل خارج إطار القانون، وبالاستخفاف بالأرواح الإنسانية داخل السجون في إطار القتل البطيء المتعمد المسمى زورا بالإهمال الطبي، وما هو بإهمال.
لعل تلك الاستراتيجية الزائفة التي تحدثنا عنها قبل ذلك تتخذ أشكالا وألوانا من الشواهد التي تعد قرائن فادحة وفاضحة لهذا المعنى الذي يترجم استراتيجية الاستخفاف بهذا الإنسان، والتي تعد إنسانيته هي أساس وجوده، وجوهر مواطنيته

ويواصل هذا النظام مطاردته لمعارضيه في كل مكان ومقام، حتى أنه حينما يتفاوض مع دول بنديّة يتقدم بمطالب حول أشخاص (من المؤسف أن نؤكد أنها تشكل مطالب أقل من مستوى مصالح البلاد)، ولك أن تتفحص مطالب النظام المصري من دولة مثل تركيا على سبيل المثال.

وضمن ذات الرؤية يخرج علينا الإعلام المصري بتشكيل مجلس قومي لحقوق الإنسان؛ يمنع أحدهم قبل أيام من السفر ثم يعيّنه في ذلك المجلس، وفق معايير البجاحة التي يؤكد فيها أن هؤلاء الذين يقومون على حماية حقوق الإنسان في هذا المجلس القومي السلطوي؛ لا يقومون إلا بعمل هدفه تزوير الحقيقة على الحقوق الإنسانية، إلا قليلا منهم. ويتأكد لهم أن هذا من مجالس الزينة، يخترعها النظام من باب تلك المؤسسات الزائفة التي تسد الخانة ولكنها تتضمن فعل الخيانة لأصل القضية والوظيفة التي عُيّنوا من أجلها، وبات هذا المجلس يقوم بأدوار التزوير والتمرير والتغرير والتعتيم على حقوق الإنسان، بل يخرج منهم ضمن هذا الوفد المشار إليه لتجميل وجه النظام القبيح والذي ينتهك ليل نهار حقوق الإنسان، بما يشكل استراتيجية لعقوق الإنسان في حقيقة الأمر، بل والعمل على نفوقه كما أكدنا مرارا وتكرارا.

ويبدو كذلك من المشاهد الفاضحة أنه مواكبة لهذه الاستراتيجية الزائفة، سيقوم هذا النظام ببناء أكبر مجمع للسجون، واصفين إياه بأنه يلتزم المعايير الأمريكية. ووفق التحقيق الذي أصدرته منظمة "نحن نسجل"، فإن السجن الجديد يقع في منطقة وادي النطرون ويضم أربعة قطاعات من السجون، والتي صممت بشكل مماثل لسجن العقرب سيئ السمعة.
من المشاهد الفاضحة أنه مواكبة لهذه الاستراتيجية الزائفة، سيقوم هذا النظام ببناء أكبر مجمع للسجون، واصفين إياه بأنه يلتزم المعايير الأمريكية

وليس عجيبا على هذا النظام - وقد بنى من قبل سجنا أسماه سجن المستقبل - أن يقوم بمثل هذا العمل، ومن المهم في هذا المقام أن يطالع عموم الناس كيف يفخر المنقلب بمجمع سجونه الكبير، والذي يشكل بناءً تعد طاقته الاستيعابية الأكبر في تاريخ السجون في مصر، وهو أمر يوضح لنا كيف يرى النظام في بناء هذا السجن الكبير بمساحة 515 فدانا، أي ما يزيد عن مليوني متر مربع، إنجازا غير مسبوق لذلك النظام، إلا أن ذلك يعد ذلك استخفافا بالإنسان وحقوقه، وكمزيد من الاستخفاف بالإنسان فإن تصريح المنقلب الذي رافق ذلك كان يتحدث بأنه يريد ألا يحس الإنسان في مصر بأنه حقوقه منتهكة، وكأن لسان حاله يقول: فلتقولوا معنا ولتزيفوا الحقائق بل والمشاعر أيضا.

ثم طالعتنا بعد ذلك بعض مواقع التواصل الاجتماعي حول رسالة من المعتقلين؛ تتحدث وبشكل مباشر عن كيف أن حالهم داخل السجون لم يعد مطاقاً أو محتملاً، ومن ثم فإنهم وأسرهم من الباحثين عن الخلاص من تلك الحال؛ قد أشاروا إلى إمكانية أن تكون هناك مصالحة مع ذلك النظام بشروطه الإذعانية.

ورغم أن فحوى الرسالة كانت تتحدث عن تلك المصالحة، إلا أن وزارة الداخلية قد خرجت على الفور تنفي تلك الرسالة ومضمونها، وتؤكد أنها من عمل تلك الجماعة الإخوانية "المشبوهة". وكان بيان الداخلية ذلك أبلغ رد على هؤلاء الذين يمثلون شبكة التزييف الكبرى في الحديث عن مصالحة موهومة وانفراجة مزعومة؛ لم تكن بأي حال من الأحوال سوى عمليات تعبر عن خطابات فائض الكلام التي احترفها ذلك النظام من خلال جوقته وزبانيته، ليمرر صورة ما حول الأوضاع الإنسانية، وحول عدم ممانعة النظام من القيام بتلك المصالحة، وهو أمر يُفترى، وكذب يُمترى، ليؤكد المرة تلو المرة أن النظام العسكري لا يدير الأمر إلا بعقليته، وإلا باعتبار المعركة مع شعبه معركة صفرية، لا تحتمل أي قدر من التنازل.

ولا يبدو أن حالات الاستخفاف بالمواطن قد انتهت، فتأتي العقلية العسكرية في تدبير الشأن المدني ضمن إطار يتعلق بالإذعان والذي لا يحمل من سياسته سوى مزيد من الخضوع والخنوع، فتخرج إدارة التعليم المصرية إعلانا عن شروط التطوع ضمن طبعة معسكرة جديدة تستحق اسم "التطوع الإذعاني"..

يظهر هذا الإعلان وكأن المتطوع هذا موضع تحكم لا يطاق؛ من شروط تفرضها تلك المنظومة، وكأن سماحة العسكر تشكل في حقيقة الأمر تنازلا من قبلهم في قبول ذلك المتطوع، فتطالبه بأوراق رسمية، وبتوقيعات إذعانية، وبتنازلات تحكمية؛ فعليه أن يكتب من التعهدات ما يمنعه من المطالبة بأي أموال، أو بأي أمور تتعلق بتوظيفه مستقبلا، فقط عليه أن يتشرف بتطوعه في خدمة هذا النظام المعسكر ضمن عقلية تقوم على ذلك التطوع الإذعاني. ونسي هؤلاء أن المتطوع مختار، أو أنه أمير نفسه؛ إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، ولكنها عقلية العسكر، حتى عندما تطلب التطوع فهي تقبله على اعتبار أنه من إحساناتها الإذعانية القاهرة التي تنزلها على جماهيرها، ففي منظومة العسكر لم يعد التطوع حقا مكفولا.
هكذا يريد هؤلاء أن يصور حال الإنسان والمواطن، وهو حال عكس واقعا مؤلما وبائسا يتسم بصناعة الكراهية وتمزيق كل ما يتعلق بلحمة المجتمع، وافتقاد البلاد للأمان الاجتماعي والأمن الإنساني؛ ضمن سياسات لنظام فاشي احترف تلك العقلية العسكرية، وتمكين المنظومة البوليسية والأمنية

هكذا تبدو في النهاية تلك المشاهد مجتمعة لتعبر عن كيف أن حالة العسكرة تلك ضمن استراتيجيتها الكبرى بالاستخفاف بالإنسان، ترويعا وتفزيعا، تطبيعا وقطيعا، إفقارا وتجويعا، تزييفا وتزويرا، إنما تقوم بكل ذلك في محاولة منها ليس فقط لإثبات الوجود، بل هي تطالب الجميع بأن يخالفوا كل هذه الحقائق المشاهدة ليعبر ذلك الإنسان عن أنه ينعم بالحقوق ويرفل في كل عطايا المواطنة، وأنه يعيش في مجتمع مزدهر.. فقد نال فيه الإنسان أكثر من حقوقه، والمواطن قد أغرقته العطايا والمنح.

هكذا يريد هؤلاء أن يصور حال الإنسان والمواطن، وهو حال عكس واقعا مؤلما وبائسا يتسم بصناعة الكراهية وتمزيق كل ما يتعلق بلحمة المجتمع، وافتقاد البلاد للأمان الاجتماعي والأمن الإنساني؛ ضمن سياسات لنظام فاشي احترف تلك العقلية العسكرية، وتمكين المنظومة البوليسية والأمنية.

وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فعليك أن ترى تلك المهزلة التي تسمى بتدوير المحبوسين على ذمة قضايا أخرى، لتشكل بذلك أنه حتى لو تصادف أن في القضاء من يعدل أو يحرر مسجونا مظلوما، فإن المنظومة لن تجعله يفلت في حلقة تدوير عابسة ومفرغة حتى تقضي على كل أمل، ثم يتحدثون بعد ذلك عن استراتيجية لحقوق الإنسان وعن مصالحة سياسية. وهم واهمون من منظومة لا تدير الأمور إلا بعقلية المعركة مع شعبها في ظل حروب مستعرة تشنها على الإنسان المصري مستخفة به، ماحقة لحقوقه، ساحقة لكيانه، إنها استراتيجية الاستخفاف بالإنسان لا تعرف الحقوق ولكنها تمارس كل عقوق.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)