كتب

الزيتونة ودعم قضية فلسطين.. صفحات مغيبة وتاريخ منسي

ساهم التيار الزيتوني في عدة أحداث شهدتها الساحة الوطنية في الأربعينيات منها تأسيس اتحاد الشغل
ساهم التيار الزيتوني في عدة أحداث شهدتها الساحة الوطنية في الأربعينيات منها تأسيس اتحاد الشغل

الكتاب: أواخر الزيتونيين: وجوه وأدوار وعلاقات
المؤلف: د. محمد ضيف الله
الناشر: مكتبة تونس
الطبعة الأولى: 2016
عدد الصفحات: 193


لا يجد الباحث المتقصي في خبايا النزاع البورقيبي ـ الزيتوني وخواتيمه، بدّا من الإقرار بالمحصلة التي انتهى إليها بورقيبة نفسه وهو يتباهى بنجاحه في تثبيت "المشروع المجتمعي"، بالقول إنّه "يوغرطة الذي انتصر".. انتصار كلّل بـ"غلق" جامع الزيتونة وتحويله إلى مؤسسة تعليم عال مدة سنة واحدة ثم إلى كلية للشريعة وأصول الدين بداية سنة 1961 كجزء من مشروع إصلاح التعليم لسنة 1958.. بيد أن الإقرار بهذه الصيرورة التي انتهى إليها النزاع المذكور لا يحجب الأدوار الاجتماعية والسياسية المهمة التي لعبها "أواخر الزيتونيين" إبان المراحل المختلفة لتاريخ الحركة الوطنية التونسية منذ نهاية القرن 19 وإلى حدود خمسينيات القرن الماضي.

وبالرّغم من أدوارهم النضالية الكبيرة، بدا "الزواتنة" أنهم وجدوا أنفسهم "في صف المهزومين"، تسومهم دولة الاستقلال الحديثة التهميش والتنكيل، دون مراعاة لحجم جهادهم وتضحياتهم الكبيرة التي بذلوها في مختلف الجمعيات والأحزاب والنقابات والإعلام والثقافة والأدب والرياضة وفي كل الساحات تقريبا، خاصّة بعدما اختار معظمهم الانتصار لشق صالح بن يوسف في صراعه مع بورقيبة. لينتهوا بذلك حطبا للصراع البورقيبي ـ اليوسفي مثلما بدؤوا "وقودا لأحداث التاسع من أفريل 1938 الشهيرة، عندما برزوا وقد دفعوا ضريبة ذلك غاليا".. 

وقبلها تحتفظ الذاكرة الجمعية التونسية بتنظيم طلبة جامع الزيتونة يوم 18 نيسان (أبريل) 1910 إضرابا عن الدروس شمل الجامع الأعظم وجميع فروعه بالبلاد، هو الأوّل من نوعه في إفريقيا والبلاد العربية، وذلك مطالبة بتنقيح مناهج التعليم، بحسب ما ورد في نص للدكتورة رفيقة حميدة بعنوان "الزيتونيون والتأسيس للحركة النقابية في تونس"، نشر بـ"المجلة الزيتونية".

في هذا الإطار يتنزل كتاب الجامعي د. محمد ضيف الله بعنوان "أواخر الزيتونيين: وجوه وأدوار وعلاقات" الذي يسبر أغوار العلاقة الملتبسة بين بورقيبة والزيتونة بدءا من تأسيس الحزب الدستوري الجديد ومراهنته الشديدة على الطلبة الزيتونيين في تمدد تنظيمه وفي نشر الفكرة الوطنية داخل البلاد والاعتماد عليهم في القيام بالعديد من الأنشطة بالعاصمة، كالمظاهرات والاجتماعات وتوزيع المناشير، مرورا بدعمه لمطالب "صوت الطالب الزيتوني" ومحاولة إقناعه بفكّ الإضراب الطلابي بعد تشكيل الحكومة التفاوضية في آب (أغسطس) 1951، في مقابل تباينه الواضح مع مشايخ الزيتونة.

كما يرفع الكتاب الحجب عن الأدوار التاريخية الوطنية والقومية التي قام بها أواخر الزيتونيين، حيث كانوا يهتبلون كل فرصة للتعبير عن عميق الروابط التي تشد البلاد التونسية إلى المشرق العربي في نفس الوقت الذي كانوا يذبون فيه عن استقلال القرار الوطني. ويجزم د. محمد ضيف الله أن "الجامعة الزيتونية لم يسبق لها أن شهدت قبل القرن العشرين حركية مماثلة، قام بها ما يمكن اعتبارهم أواخر الزيتونيين، إذ توقف بعد ذلك أو كاد الطلب الاجتماعي لنخبة مماثلة".

بنية الكتاب

تحوم مجمل الأبحاث والنصوص التي يحويها كتاب "أواخر الزيتونيين: وجوه وأدوار وعلاقات" حول ما تبيّن لاحقا بأنهم أواخر الزيتونيين، وقد قُسّم الكتاب إلى ثلاثة أقسام يضمّ أوّلها ستّة بحوث، يتناول البحث الأوّل علاقة الرئيس بورقيبة بالزيتونة، والثاني حول سلك الوكلاء وهو أحد أهم الأسلاك المهنية التي كان يسيطر عليها الزيتونيون، أما البحث الثالث فقد خصص لجانب من أفكار الشيخ الفاضل ابن عاشور الذي اعتبره بورقيبة الرأس الوحيدة المدبرة في جامع الزيتونة، وقد ناقش فيه الكاتب مفاهيم تتصل بالانتماء وأساسا فكرة الأمة والقومية والوطنية. 

وخصص الكاتب البحث الرابع لعلاقة جامع الزيتونة كإحدى مؤسسات المجتمع المدني التقليدي بالاتحاد العام التونسي للشغل كإحدى مؤسسات المجتمع المدني الحديث. وخُصص البحث الخامس لأهم قيادي طلابي عرفته الزيتونة في دورها الأخير ألا وهو الشيخ محمد البدوي. أمّا البحث السادس والأخير في هذا القسم فقد تناول فيه الكاتب علاقة الزيتونة بالإخوان المسلمين والأحزاب المدنية.

أمّا القسم الثاني من هذا الكتاب فقد جعله الكاتب تحت عنوان "متابعات" وأورد فيه أوّل نص محكّم نشر له في بداية مشواره البحثي سنة 1992، والذي كان بعنوان "الدستور الجديد والطّلبة الزيتونيون: من التحالف إلى المواجهة"، وقد تناول فيه بالنقد بعض ما طرحه من قبل الجامعي المختار العياشي فيما يتعلق بالأبحاث الزيتونية. أمّا النص الثاني فهو عبارة عن قراءة وتقديم لحوار أجرته مؤسسة التميمي مع وطني زيتوني من جيل الثلاثينات. وراجع الكاتب في النص الثالث كتاب الأستاذ علي الزيدي الذي يعتبره ضيف الله أوفى أطروحة تناولت دور الزيتونيين في الحركة الوطنية التونسية. وفي القسم الأخير من الكتاب عرض المؤلف عددا من التراجم الزيتونية من القرن العشرين.

بورقيبة ومشايخ الزيتونة

يؤكد ضيف الله أن ما يرسخ من علاقة بورقيبة مع مشايخ الزيتونة، هو أنها كانت متوترة ويغلب عليها سوء التفاهم، ويعود ذلك وفق رأيه إلى الاختلاف بين الجانبين من حيث التكوين والمنشأ الاجتماعي والانتماء الجغرافي، دون أن تكون تلك العلاقة على وتيرة واحدة طيلة الفترة. فقد أيّد في البداية تسمية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور على رأس إدارة الجامع الأعظم في سبتمبر – أيلول 1932، حيث كتب ما يلي: "نعتمد على صبر الشيخ ابن عاشور وحلمه لإقرار الهدوء والسكينة بفضل التعاون التلقائي بين الإدارة والهيئة التعليمية والطلبة من أجل النهوض بجامعتنا العربية الكبرى التي ينبغي أن تسترد ما كان لها في الماضي من الصيت والإشعاع" وذلك بحسب ما ورد في صحيفة  L’ACTION (العمل) في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1932. وهو ما يعكس وفق الكاتب آنذاك وقوف بورقيبة إلى جانب الشق الإصلاحي في مواجهة المحافظين الذين يساندهم الاحتلال الفرنسي.

ويضيف ضيف الله أن تلك العلاقة تبدّلت في ربيع 1933، عندما طرحت مسألة التجنيس، حيث ندد بورقيبة بمن يسميهم "العلماء المزعومين" الذين مكنوا سلطات الاحتلال من الخروج من المأزق الذي تردّت فيه، فكانوا وفق رأي بورقيبة ألعوبة بين يديها. وعلى رأس هؤلاء شيخا الإسلام المالكي الطاهر بن عاشور والحنفي احميدة بيرم. وهو ما يمكن اعتباره موقفا من الأرستقراطية الزيتونية المتنفذة داخل جامع الزيتونة.

من جهة أخرى يشير ضيف الله إلى أن بورقيبة حاول التأثير على بعض المشايخ الغاضبين (من آل النيفر خاصة)، واجتمع بعدد منهم وقد عبروا له حسب روايته عن معارضتهم لفتوى ابن عاشور واعتزامهم إصدار فتوى مضادّة. غير أنهم ما لبثوا أن أنكروا ما ورد في ذلك اللقاء، بما يدل على صعوبة التعامل مع مشايخ الزيتونة. وهو ما ظهر أيضا عندما رفض بعض أولئك المشايخ تدخل بورقيبة لثنيهم عن الإضراب في ديسمبر 1943. 

ويمكن تفسير هذه الصعوبة في التواصل، وفق ضيف الله، بالريبة المتبادلة بينهما حيث كانت الزيتونة تحت سيطرة بعض العائلات الأرستقراطية التي لم تكن تنظر بعين الرضا إلى تنامي سيطرة النخب القادمة من المناطق الداخلية. وقد استمر هذا التنازع فيما بعد، حتى أنه خلال الصراع بين صوت الطالب الزيتوني والحزب الدستوري الجديد في عام 1951، وجّه إصبع الاتهام إلى آل ابن عاشور بأنهم يحركون الطلبة الزيتونيين، وامتدادا لذلك قامت صحافة الحزب بالتذكير بخيانة المشايخ خلال أحداث التجنيس. 

وفي تلك الفترة بالذات أرسل بورقيبة إلى رفيقه مصالح بن يوسف رسالة من القاهرة دعاه فيها إلى ضرورة تحييد الفاضل بن عاشور الذي يمثل الرّأس المدبرة الوحيدة في الزيتونة. وفي مقابل ذلك استطاع الحزب الدستوري الجديد أن يجلب إلى صفوفه عددا من المشايخ الشبان بعضهم من أصيلي العاصمة.

التيار الزيتوني في الميدان

تشكل التيار الزيتوني في الأربعينيات، وكانت له إضافاته ومساهماته ومواقفه المتميزة على الساحة الوطنية، وفق تأكيد ضيف الله. وقد بدأ التيار في التبلور غداة الإضراب الذي شنه مشايخ الزيتونة في ديسمبر 1943 والذي اعتبر تحديا كبيرا لسلطات الاحتلال الفرنسي، حيث جرى والبلاد ما زالت في حالة حصار وفي ظرفية تميزت بالقمع الشديد بتهمة التعامل مع المحور الذي تقوده ألمانيا. وكان ذلك التحدي كافيا لكي يسبغ على الزيتونيين التبجيل والاحترام، خاصة وأنه انتهى بـ"النصر الباهر"، حسب تعبير الشيخ الفاضل بن عاشور، وهو ما ساهم في تغيير المعادلة التي كانت قائمة منذ عودة الفرنسيين قبل بضعة أشهر، وحفز مختلف التعبيرات الوطنية على العودة إلى الساحة. وفي هذا الإطار تحرك الزيتونيون منذئذ وإلى نهاية الأربعينيات ليقوموا بدور بارز على جميع الأصعدة، ويمكن أن نتبين ذلك من خلال عدد من الأحداث داخل الزيتونة، وعلى الساحة الوطنية، وبتفاعل مع الساحة العربية. 

الساحة الوطنية

لقد ساهم التيار الزيتوني في عدة أحداث شهدتها الساحة الوطنية في الأربعينيات، وتمكن من قيادة عدد من الهيئات الوطنية ويمكن أن نذكر في هذا المجال خاصة: تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل الذي انعقد مؤتمره الأول في الخلدونية، وشارك فيه زيتونيون من مشايخ الجامع وخريجيه، ومن المهم هنا أن نورد ما ذكره الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عن ذلك المؤتمر من أنه كان "في روحه وتأسيسه ومبادئه العليا وأغلبية عناصر قيادته المركزيين إسلاميّا بل زيتونيا"، ولا شك أن هذا الحكم لا ينبع فقط من توليه هو رئاسة الاتحاد، وإنما أيضا من وجود عناصر زيتونية فاعلة في قيادته على مستوى مركزي وجهوي، وقد ساهموا بفعالية في الدعاية للاتحاد وتركيز فروعه داخل البلاد، كما كان لهم تأثير في خطابه ومطالبه وخاصة منها ما يتعلق بالتعريب، يضيف ضيف الله.

 

أصدر الشيخ محمد الفاضل بن عاشورا كتيبا تحت عنوان "فلسطين الوطن القومي للعرب"، وقد دافع فيه عن عدالة القضية الفلسطينية ودحض المزاعم والادعاءات الصهيونية بشأنها.

 



كما ساهم الزواتنة في تعزيز الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد الذي كان حكرا على خريجي التعليم العصري، بإثنين من العناصر الزيتونية هما محمد الفاضل بن عاشور ومحمد الشاذلي بن القاضي. ومع أن وجودهما لم يعمر طويلا نتيجة ما وجداه من معارضة من أعضاء آخرين، فإنه كان محاولة من الحزب لاستيعاب التيار الزيتوني لما له من تأثير ونفوذ في الساحة الوطنية آنذاك.

التضامن العربي

لقد كان الزيتونيون يهتبلون كل فرصة للتعبير عن عميق الروابط التي تشد البلاد التونسية إلى المشرق العربي، ويمكن أن نستشف من خلال إحياء ذكرى تأسيس الجامعة العربية في 22 آذار (مارس) سنوات 1946 و1947 و1948، حيث كانت تنتظم الاحتفالات والاجتماعات الضخمة في ما كان يسمى آنذاك "يوم العروبة" للتأكيد على الانتماء والتضامن العربيين وكان الزيتونيون يقومون خلالها بدور رئيسي سواء بالخطابة أو بنظم الأشعار التي تغذي الشعور بالانتماء العربي للبلاد التونسية. كذلك من خلال مساندة القضية الفلسطينية ودعمها من خلال جمع الأموال وتشجيع التونسيين على التطوع والتوجه إلى جبهات القتال في المشرق العربي، فقد برز في هذا الإطار عدد من الزيتونيين على رأسهم الصادق بسيس وأصدر الشيخ محمد الفاضل بن عاشورا كتيبا تحت عنوان "فلسطين الوطن القومي للعرب"، وقد دافع فيه عن عدالة القضية الفلسطينية ودحض المزاعم والادعاءات الصهيونية بشأنها.

الاستقلال وتحجيم دور الزيتونة

بعد الاستقلال مباشرة، اتخذت الدولة الجديدة عدة إجراءات استهدفت نفوذ الأرستقراطية الدينية ومصالحها وموقعها من المجتمع، ومن بين تلك الإجراءات توحيد القضاء وإلغاء الأوقاف، وإصدار مجلة الأحوال الشخصية، وبدأ مسار تحجيم التعليم الزيتوني بالخفض من عدد طلبته، وغلق فروعه داخل البلاد تدريجيا إلى أن اضمحل تماما بما في ذلك الشعبة العصرية الزيتونية، ولم تبق سوى الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين التي كانت تهدف إلى تكوين ما تحتاجه الدولة الجديدة من المتخصصين في علوم الدين.

ويلفت ضيف الله الانتباه إلى أن تلك الإجراءات لم تثر معارضة لدى الزيتونيين سواء منهم المشايخ أو الشبان. وهذا يعود إلى أن بورقيبة سعى في نفس الوقت إلى إدماجهم في الدولة الجديدة في قطاعات مختلفة وخاصة منها التعليم ووزارتا الداخلية والعدل. كما أعيد الاعتبار إلى عدد من الزيتونيين التجديديين ومن أبرزهم الطاهر الحداد وأبو القاسم الشابي، وحتى بعض المشايخ الذين كان بورقيبة يصمهم بالخيانة وخدمة الاستعمار، فقد قربهم إليه وأحاطهم بالرعاية والتقدير، ومن بينهم خاصة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور..

اندماج سياسي محدود في الدّولة الوطنية

إن ما يلفت الانتباه أن الاندماج السياسي للزيتونيين في الدولة الوطنية كان محدودا، برغم كثافتهم على مستوى الهياكل الوسطى والدنيا في الحزب الحاكم وفي الإدارة، فإن بورقيبة لم يسمح إلا لعدد ضئيل منهم بتولي مسؤوليات سامية. ومقابل ذلك كان حضورهم مكثفا في المعارضة خاصة منها ذات التوجهات القومية، سواء اليوسفية في الخمسينيات أو البعثية في الستينيات، وفيما بعد المعارضة الإسلامية، بل أن العديد من عناصر اليسار الجديد الذي ظهر في الستينيات إما كانوا زيتونيين أو أبناء زيتونيين. ومن هذه الزاوية فإن هذه المعارضات تندرج إلى حد ما ضمن ردود أفعال الزيتونيين إزاء ما وقع من تهميش للمؤسسة الزيتونية.


التعليقات (0)