قضايا وآراء

قراءة في النظام الشمولي

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

لا تظهر النظم الشمولية بشكل مفاجئ، ولا تنشأ نتيجة تطور بعينه، بل هي تعبير عن سياق تاريخي، يسبق عملية تحقق النظام الشمولي.

يرى الفيلسوف الألماني كارل بوبر في مؤلفيه "بؤس التاريخانية" و"المجتمع المفتوح وأعداؤه"، أن المدخل الرئيس لدراسة الشمولية هو مدخل تاريخي ينتمي إلى فلسفة التاريخ، وهذا الذي جعله يفند الأسس الأيديولوجية ـ التاريخية للشمولية، كما فعل المفكر النمساوي فريدريك هايك في كتابه "نحو العبودية أو الطريق إلى الرق" حين أرجع جذور الشمولية إلى الأيديولوجيات التي تهمها الجماعة أكثر من الفرد، وفي مقدمتها الاشتراكية التي طالما حاول إظهار تأثير جناحها اليميني المتمثل بالنازيين والجناح اليساري المتمثل بالستالينية.

من هذا المنظور، يرى بعض المفكرين أن ظهور الشمولية يرجع إلى تغيير في التركيبة الفكرية كما حدث في المجتمعات الأوروبية قبيل ظهور الفاشية والنازية، إذ حصلت فيها انزياحات كبيرة قبل ربع قرن من ظهورهما، فقد تغيرت النماذج الاجتماعية، وتشكلت لدى القوى المهيمنة رؤية أخرى للمجتمع تخالف الرؤية الليبرالية التي انتصرت منذ منتصف القرن التاسع عشر.

هكذا، حلت الاشتراكية كأيديولوجيا تدريجيا محل الليبرالية، ومع دخول الأيديولوجيا معترك السياسة، بات المجال الحيوي السياسي مهيأ لشتى أنواع الأيديولوجيات، وبهذا المعنى، فإن الشمولية نوع من الفكر السياسي يقوم على المطلق، من خلال نظام سياسي ونظرية فلسفية وأيديولوجية تعمل على  صهر الحياة العامة في مختلف جوانبها ضمن بوتقة أحادية للسلطة.

وفي تحليلها لأسباب الانصياع الاجتماعي تعتقد حنا أرندت أن ظاهرة الشمولية تنشأ في مجتمعات لم تعرف الاندماج في أية منظمة أو تنظيم مؤسس على المصالح المشتركة (أحزاب سياسية، مجالس بلدية، منظمات مهنية أو نقابية). 

وغالبا ما تكون الجماهير ضائعة وليس لها مصالح خاصة ومحددة، والمصطلح الذي يمكن أن يعبر عن حالة الجماهير هذه هو مصطلح "اللامبالاة".

ولا يجب النظر إلى "اللامبالاة" بحسب أرندت بالمعنى الإيجابي، فالمصطلح يُفهم في هذه الحالة من خلال غياب أي نقطة واضحة، وهذه نتيجة لانهيار البنية الاجتماعية الداخلية. 

بخلاف أرندت، تعتقد بياتريس هيبو أن لـ "اللامبالاة" بعد إيجابي، فهي ليست فقط النأي بالنفس، وإنما تعني أيضا القدرة على القيام بأعمال فردية والطريقة المرنة والغامضة والمتعددة التي يحاول الناس من خلالها تمثل وجودهم، عبر تسويات شخصية محضة في سلوكيات المعيشة والأعمال، تتيح التعبير عن هوامش المناورة والمبادرة والحرية، ومن ثم فهي ليست بالضرورة مرادفا للتطبيع حتى لو كانت هذه الاستقلالية بالنسية إلى نظام السيطرة هي أيضا أحد شروط قبوله.

 

إن ديمومة النظام الشمولي تعتمد كثيرا على العوامل الخارجية بقدر اعتمادها على العوامل الداخلية، فمثلا، لم يكن النظام الشمولي في النموذج السوفيتي من النوع الذي تفرزه أوضاع داخلية معينة، كما هو الشأن في النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا وديكتاتورية نظام فرانكو في إسبانيا وسلازار في البرتغال، ونظم أخرى مماثلة.

 



تذهب أرندت إلى أن الشمولية كنظام سياسي يعتبر شكلا جديدا يختلف جذريا عن النظم وأشكال الحكم التي عرفتها البشرية، ولا يمكن اختزاله بالطغيان، فالنظام الشمولي يعتمد على ما تسميه القانون الطبيعي الذي حل محل القانون الوضعي.

بهذا المعنى، فإن أي نظام شمولي لا بد أن يكون نظاما ديكتاتوريا بالضرورة، لأنه يجعل المجتمع مجتمعا عضويا متماسكا بالقوة، لا مكان فيه للأفراد والجماعات المخالفة لسردية السلطة.

غير أن النظام الشمولي يعتبر أعم من النظام الديكتاتوري، أو هو الصيغة الراديكالية عن الديكتاتورية.

لكن، في كلا النظامين، يقول برتران بادي إن الاحتجاج يتحول في الوضعيات الاستبدادية إلى طبيعة ثانية على مستوى التأمل الذهني الخالص، فما يتم التلميح إليه بالصمت أو النظرة داخل الديكتاتوريات غير المتشددة، يصبح في أفضل الحالات نوعا من السخرية المتضمنة لنقد مغلف بمديح استهزائي، فالاستبدادية كما الكليانية، تحفزان الروح الاحتجاجية التي تعبر عن نفسها في القصص التراجيدية ـ الكوميدية.

ويتابع بادي، هل يعتبر لفظ الاحتجاج ملائما لهذا المستوى في الحقيقة؟ ألا يمكن اعتباره بالأساس مجرد تعويض عن معارضة مستحيلة في الواقع، وتجليا لتواطئ مع الحاكمين الذين يقبلون هذه الصيغة المترسبة للتعبير السياسي، وذلك لسببين: أولا لأنه لا يمكن مراقبتها تماما، اللهم إلا من خلال العلاج النفسي، وثانيا لأنها لا تتضمن في الغالب أي عداء منظم تجاههم.

ومع ذلك، فإن ديمومة النظام الشمولي تعتمد كثيرا على العوامل الخارجية بقدر اعتمادها على العوامل الداخلية، فمثلا، لم يكن النظام الشمولي في النموذج السوفيتي من النوع الذي تفرزه أوضاع داخلية معينة، كما هو الشأن في النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا وديكتاتورية نظام فرانكو في إسبانيا وسلازار في البرتغال، ونظم أخرى مماثلة. 

إن النظام الشمولي السوفيتي، أو في الصين، كان دوما نظاما مبررا بأهداف اجتماعية وسياسية تتلخص في مقاومة الاستغلال الرأسمالي الذي كان قد تحول إلى إمبريالية عالمية، وبمثل هذا الخطاب تستطيع الأنظمة الشمولية دغدغة مشاعر العوام الذين يشكلون القاعدة الشعبية للنظام السياسي.. وهل يقوى الاستبداد إلا بالعوام.

*كاتب وإعلامي سوري


التعليقات (0)