أفكَار

علم العقيدة.. جدل عقيم أم سبيل لليقين؟

حوار فكري هادئ في علم العقيدة وعلاقة القول بالفعل  (الأناضول)
حوار فكري هادئ في علم العقيدة وعلاقة القول بالفعل (الأناضول)

حينما تخالط بشاشة الإيمان قلوب المؤمنين فإن ثماره اليانعة تظهر في سلوكياتهم وأخلاقياتهم، كما يكون للدوافع الإيمانية دور مركزي في ضبط مسار حياتهم، وتوجيه بوصلة نشاطاتهم وحركتهم في كافة مناحي الحياة، وسائر شؤونها.

ووفقا لأحاديث نبوية فإن للإيمان طعما وحلاوة يجدهما المؤمنون في قلوبهم، كما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: "ثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار"، والحديث الآخر الذي أخرجه مسلم "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا". 

ويشير العلماء إلى أن التحقق بتلك الخصال وغيرها لا يبلغه المؤمنون إلا بمجاهدة أنفسهم، وتهذيب سلوكياتهم، والاستقامة على أمر الله بطاعته الدائمة، والمواظبة على فعل ما يرضيه، مع تفريقهم بين الاجتهاد في هذا الباب وبين دراسة علم العقيدة وتعلمه باعتباره علما يُعنى بمسائل الاعتقاد، ويشتغل بتقريرها وإثباتها والدفاع عنها، والرد على المخالفين لها، إذ لا يلزم من تحصيل ذلك العلم النظري التحقق بثمراته الإيمانية، وظهور آثارها في حياته وسلوكياته. 

ويُرجع العالم الأزهري المشهور، محمد عبد الله دراز السر في هذه الظاهرة إلى أنه "يتمثل في الفارق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإيمان، وفي الفرق بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة، والقوة النفسية التي تقوم بوظيفة الإيمان، فالواحد من الناس قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير مُحس بآلامها، وقد يفهم معنى الحب والشوق، وليس من أهلهما، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره، ويقف على دقائق صنعه، ولكنه لا يتذوقه، ولا يتملك قلبه الإعجاب به".

 


  
يتناول علماء العقيدة مسائل الاعتقاد في دائرة الحديث عن أركان الإيمان الستة، أو مباحث أصول الدين، والتي منها ما هو أصول هي محل إجماع واتفاق، ومنها ما هو فروع يقع فيها الاختلاف، وتتباين الأفهام فيها، كما دخل إلى ميدان البحث العقدي الإسلامي في عصور تالية للعصر النبوي وعصر الصحابة والتابعين أصناف من البحث والأسئلة لم تكن معهودة من قبل بحكم دخول وافدين جدد في الإسلام من ثقافات مختلفة، وهو ما أوجد علم الكلام بمنهجيته المعروفة حسب الباحث الكويتي في العقيدة الإسلامية، الدكتور محمد المطر. 

وأضاف المطر في حديثه لـ"عربي21"  أن للمسائل العقدية جانبا آخر ألا وهو الجانب الوعظي والإرشادي، فنحن حينما ندرس ونبحث في صفات الله مثلا، فإننا في الجانب الاعتقادي الكلامي نؤمن بتلك الصفات كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية، من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، وفي الوقت نفسه نبحث عما لها من آثار إيمانية تربوية ناتجة من تلك العقائد". 

ولفت الانتباه إلى أن "مصطلح العقيدة لم يرد ذكره لا في القرآن الكريم ولا في السنة، إنما الوارد هو الإيمان، خاصة ما ذُكر في حديث جبريل، وبعضهم تناول مسائل الاعتقاد من خلال مصطلحات كالإلهيات والسمعيات والنبوات، وبعضهم آثر بحثها تحت مسمى أركان الإيمان، واتجاه آخر أدرجها تحت مباحث علم الكلام بمنهجيته المنطقية والفلسفية المدونة في كتبه المرجعية المقررة".

وذكر المطر أن "تعلم مسائل الاعتقاد مهم جدا لفهم أصول الدين وأحكامه، وكذلك فإن الاعتناء بالآثار التربوية المترتبة على تعلم مسائل الاعتقاد هو الآخر مهم جدا، وينبغي أن يكون هناك تلازم بين الأمرين، ولا ينبغي أن ينفك أحدهما عن الآخر، حتى يؤتي تعلم مسائل الاعتقاد ثمرته، وتظهر آثاره في حياة المؤمنين وسلوكياتهم ومعاملاتهم". 

وتجدر الإشارة إلى أنه يُلاحظ على أتباع الاتجاهات العقائدية الإسلامية الكبرى كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والسلفية كثرة التراشق بينهم بعبارات بالتبديع والتضليل، وربما غالى بعضهم فأطلق التكفير، وهو ما يتحفظ عليه الأكاديمي المغربي المتخصص في العقائد والأديان، الدكتور حمزة النهيري مقررا أن "الخلاف العقائدي داخل دائرة القرآن الكريم والسنة يجري عليه ما يجري في الخلاف الفقهي، مع تفاوت مراتب الخطأ والصواب في هذه المذاهب، فيكون بيان ذلك من خلال الحوار والمناظرة، وليس من خلال التراشق بالعبارات الجارحة كالتكفير تارة، أو التفسيق والتبديع تارة أخرى". 

ووصف الإمام أبو الحسن الأشعري بأنه من العلماء الذين أصلوا لقواعد الاعتقاد والاجتماع، فقد كان رحمه الله ناصحا للأمة في وجوب الاجتماع ونبذ الفرقة والتعصب المقيت سابقا لزمانه حين كتب في تأريخ عقائد المسلمين المختلفة وسماهم الإسلاميينن وأشار إلى ذلك بقوله إنهم أصحاب معبود واحد، واختلافاتهم العقدية هي من قبيل الاختلاف في العبارة ليس غير كما أخبر بذلك ابن عساكر في مصنفه".

 

                           حمزة النهيري.. باحث مغربي
 
وقال النهيري لـ"عربي21": "ما يمكن ملاحظته في الدرس العقائدي أن نصوص القرآن والسنة لا تحتوي على مقولات علماء الكلام، التي هي خليط من قواعد الفلسفة والجدل، ومظنة لاتساع مدارك النظر، وأمالي الدلالات المختلفة بين عالم وآخر". 

وأضاف: "وقد قام العالم اليمني الكبير ابن الوزير، والذي تربى في حضن الزيدية باليمن بتأليف كتاب تحت عنوان "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان" بين فيه أرجحيتها، كما كتب كتابه الآخر وعنوانه "إيثار الحق على الخلق" دعا فيه إلى ضرورة عقلنة تدبير الخلاف في المسألة الاعتقادية دون اللجوء إلى الفرقة والنزاع، وهو ما نحتاج إلى تقريره بقوة في عصرنا الذي يعج بكثرة الآراء والعقائد".
 
وتابع: "فالخلافات بين السلفية والأشعرية والمعتزلة اليوم لا ينبغي أن تفسد اللحمة الإيمانية بين المسلمين، ولكل دولة إسلامية الحق في اعتقاد مذهب معين ما دامت قبلتهم واحدة وكتابهم واحد" داعيا إلى "فتح باب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، في إطار أخلاقيات الخلاف التي ينبغي أن تسود، كما ينبغي أن تكون مسائل الخلاف حبيسة المدونات الكلامية، والطرح الكلامي المتخصص في الجامعات".
  
بدوره قال الباحث المصري المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، الدكتور كمال حبيب "مفردة العقيدة لم يعرفها الصحابة ولا التابعون، وإنما ظهرت في سياق الجدل الكلامي مع الشيعة أولا والباطنية الذين ظهروا في الدولة الفاطمية، وصارت جزءا من علم الكلام، ومن الملاحظ أن الاستغراق فيها لا يمنح المستغرقين فيها يقينا سلوكيا، بل قد يكون الجدال العقدي سبيلا للغرور، ووصم الآخرين بالبدعة وأنهم ليسوا على الحق، ويجب مقاطعتهم وتفسيقهم وهجرانهم". 

 



وأردف: "ويظهر من تتبع الحالة الدينية أن السلفية هي أكثر الاتجاهات التي اعتبرت العقيدة شغلها الشاغل، فاهتمت كثيرا بالأسماء والصفات، وأحيت من جديد الخلافات القديمة وما دار حولها من مساجلات، وأدخلت المسلمين في معارك قديمة ليست من معارك زماننا، واستغرقوا فيها استغراقا صرفهم عن كثير من قضايا العمل" على حد قوله.

وواصل حديثه لـ"عربي21": "وداخل السلفية توجد سلفيات مختلفة، فتجد الجامية يبدعون السلفية الإصلاحية، وتجد بعض اتجاهات السلفية يهاجمون الإخوان وكبار العلماء، كما فعل – مثلا - مقبل بن هادي الوادعي مع الدكتور يوسف القرضاوي حيث كتب كتابا سماه "إسكات الكلب العاوي يوسف القرضاوي".

ورأى حبيب أن "الاستغراق في الجدل العقدي غالبا ما يقود إلى الخفة، وفقدان النظر الصحيح والانفصال عن الواقع، ويهيئ لأصحابه أنهم يقودون معركة نهاية الدنيا، ما يجعلهم يقتحمون ميادين وعرة مع تضييعهم لحقوق الأخوة الإيمانية، وإهدارهم للخلق الإسلامي، وعدم التزامهم بآداب البحث والخلاف والتي يأتي على رأسها (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)". 

وختم كلامه بالتأكيد على أن "العقيدة التي كان يُعبر عنها بالإيمان لم تكن ميدانا للاستغراق الكلامي الجدالي، وإنما كانت بسيطة واضحة لا شية فيها، وبعد ذلك يكون العمل والالتزام بالقيم والأخلاق، فكان الصحابة إذا قرأوا عشر آيات من القرآن لا يتجاوزونها حتى يعملوا بها، والقاعدة تقول: كل قول لا ينبي عليه عمل فالاستغراق فيه خسران وضياع، والجماعات التي تغرق في الاهتمام العقدي النظري تجد أثرها قليلا، وعملها كذلك". 


التعليقات (1)
الواثق بالله
الخميس، 24-06-2021 03:10 م
لا يوجد بأس في استعمال كلمات أو عبارات لم ترد من قبل في القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف و لم تكن موضع تداول لدى الرعيل الأول إن كانت دلالات تلك الكلمات أو العبارات فيها صواب المعنى . من الأمثلة على ذلك (العقيدة ، القول بأن القرآن دستورنا ، الأحكام السلطانية ) و لم يوجد بين العلماء المتفقهين "أي الفاهمين للعلم" من كان يعترض على ذلك . العقيدة هي ما انعقد القلب و العقل عليه معاً أي حصول التصديق الجازم و هذا هو الأصل الذي يرجى في الإيمان لكن واقع الأمر أن هنالك تفاوت بين الناس في مرتبات التصديق لذلك كان الحد الأدنى المقبول في شرع الله هو الإسلام ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم) . و بما أن النفس البشرية ذات الهمة الكبيرة تتوق للأفضل فيكون منها سعي حثيث للارتقاء نحو إدخال الإيمان في القلب بحيث تتذوق حلاوة الإيمان و تتناقص لديها الشكوك و يتعاظم عندها اليقين و هذا يكون بنيل قدر معقول من (علم العقيدة) الذي قام بصياغته علماء أفاضل مثل الطحاوي . ليس المطلوب من كل واحد منا أن يكون متخصصاً في هذا العلم ، لكن يؤخذ منه الضروري اللازم . يعني لن يكون أحدنا في هذا العصر مثل سيدنا علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، الذي رووا عنه أنه قال ما معناه (لو انكشف الغطاء عني ما ازددت يقيناً) أي أن اليقين الراسخ لديه كان موجوداً بالفعل . في إجابة سؤال (علم العقيدة.. جدل عقيم أم سبيل لليقين؟) ينبغي علينا الانتباه إلى الطبيعة البشرية المقررة الواردة في كتاب الله ( وَكَانَ ?لإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) . لا ضير و لا ضرر في الجدل إن كان بالتي هي أحسن أي الجدل البنّاء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة و أما الجدل العنيد القائم على الأهواء و على إعجاب كل ذي رأي برأيه فهذا بلا شك جدل عقيم نعوذ بالله من شره لأنه يورث التقاعس في العمل ، و لقد جاء الإيمان مقترناً بالعمل في مواضع كثيرة من كتاب الله اشتهر منها (الذين آمنوا و عملوا الصالحات).