كتب

أوهام "راند" لنشر إسلام ليبرالي وبناء الاعتدال الديني (1من2)

كيف دخلت الإدارة الأمريكية على خط بناء شبكات إسلام سياسي معتدل؟  (عربي21)
كيف دخلت الإدارة الأمريكية على خط بناء شبكات إسلام سياسي معتدل؟ (عربي21)

الكتاب: بناء شبكات الاعتدال الإسلامي
الكاتب: شيريل بينارد ـ انجيل بارباسا ـ نويل شوارتز ـ بيتر سيكل
سلسلة تقارير مؤسسة راند 
الناشر: تنوير للنشر والإعلام السلسلة
عدد الصفحات 240

تتميز مؤسسة "راند" عن غيرها من مستودعات التفكير الأمريكية بكونها تعكس التحديات التي تطرح على الأمن القومي الأمريكي، وتقدم جانبا من انشغالات صناع القرار الأمريكي وأيضا قطاعا مهما من الرأي العام الأمريكي بهذه التحديات، ونوع الإجابات التي تقدم بصددها.

وتندرج ورقة "بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي" التي قدم هذا الكتاب ترجمة لها، ضمن مسار من الأوراق التي أصدرتها مؤسسة "راند"، والتي بدأت مع التقرير الذي كتبه أنجيل راباسا وآخرون عن "العالم الإسلامي بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)" ثم ورقة "الإسلام المدني الديمقراطي" التي كتبتها شيريل بينارد، وتولت مؤسسة سميث ريتشاردسون تمويلها البحث، والتي بسطت فيها الكاتبة ملامح استراتيجية مقترحة لترويج تفسير مدني ديمقراطي للإسلام، وشكلت بذلك القاعدة الأساسية لفكرة بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي تراهن بالدرجة الأولى على الاتجاه الحداثي.

بيد أن ميزة هذه الورقة التي يترجم لها هذا الكتاب، هي كونها استوعبت أهم الأفكار التي طرحت في المشاريع السابقة، لاسيما ما يتعلق بالرهان على الاتجاه الحداثي وعلى تقوية وتنشئة حلفاء للولايات المتحدة الأمريكية، يضطلعون بدور بناء شبكة معتدلة في العالم الإسلامي. كما جاءت من جهة ثانية، مشفوعة بدليل تحققها على أرض الواقع، وذلك من خلال الطرح المقارن الذي ساقته، عندما قاست إمكانية بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي، بتجربة شبكات الاعتدال التي تم بناؤها زمن الحرب الباردة لمواجهة العدو الشيوعي، إذ حاولت الورقة أن تقدم عناصر التشابه والاختلاف بين السياقين، لتبرر إمكانية خوض هذه التجربة من جديد، وتحدد بدقة شروط نجاحها.

راند وهاجس عدم قدرة الأنظمة الاستبدادية على تحقيق الاستقرار وتأمين المصالح الأمريكية
 
تنطلق هذه الورقة من نفس الهاجس الذي أطر أغلب الأوراق التي صدرت عن مراكز البحث ومستودعات التفكير الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وبالتحديد بعد إطلاق مبادرة الدمقرطة في العالم العربي سنة 2002، إذ تم التواطؤ من قبل أغلب هذه المراكز على أن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في الوطن العربي لم تعد قادرة على تحقيق الاستقرار، وأن الاستمرار في دعمها والرهان عليها، يضر على المدى المتوسط والبعيد بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية، هذا فضلا عن كونه يتسبب في تنامي التطرف والإرهاب، وأنه لهذا السبب صار يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تدعم التحول السياسي وتشجع الإصلاحات الديمقراطية في الوطن العربي، وتحارب في الوقت ذاته الإرهاب والتطرف، وأن ذلك يمكن أن يتم بخلق شبكات معتدلة في العالم الإسلامي تضعف الاتجاه الأصولي المتطرف، وتضمن نشوء ديمقراطية عربية لا تتعارض مع المصالح الأمريكية في المنطقة.

وإذا كانت بعض المراكز البحثية ومستودعات التفكير الأمريكية اختارت الاشتغال على الشق الأول من الاستراتيجية الأمريكية، أي المتعلق بدعم التحول السياسي، وناقشت قضية التعاطي مع الإسلاميين، واقترحت فكرة إدماجهم في العملية السياسية معتبرة ذلك مدخلا نحو اعتدالهم واعتدال الحركات المتطرفة، فقد فضلت مؤسسة "راند" أن تشتغل على الشق الثاني، أي ما يرتبط بصراع الأفكار والبنية الثقافية والفكرية والدينية المهيمنة داخل العالم الإسلامي، محاولة في ذلك دراسة خارطة الاتجاهات المؤثرة في صناعة هذه البنية، وكشف أنماط تفاعلاتها، ومواردها ومصادر قوتها وشرعيتها، والأدوات والوسائل التي تستعملها لاحتكار حيز التأثير الذي تضطلع به، أو لتوسيعه وتقوية امتداداته، وبحث إمكانية إحداث تغيير في خارطة التوجهات من خلال الرهان على أدوار أقوى لبعض الفاعلين وإضعاف مخرجات فاعلين آخرين، والاشتغال على تغيير اتجاهات التحالفات والاصطفافات.

هل تقدم تجربة مكافحة الشيوعية دروسا في محاربة الاتجاه الأصولي؟

تنطلق أطروحة ورقة "بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي" من نفس المنطلق الذي انطلقت منه الأوراق السابقة التي أصدرتها مؤسسة "راند"، أي من تشخيص الواقع الذي يهيمن عليه الاتجاه الأصولي المتطرف، ويستفرد بمساحة واسعة من التأثير، ويحتكر ترويج صورة متطرفة عن الإسلام، فتحاول الورقة أن تقدم أفكارا ومقترحات لتقوية الاتجاه الحداثي ودعم مواقعه ومصادر تمويله، وتعديل أنماط التفاعلات بما يجعل الاتجاه التقليدي يدعم الاتجاه الحداثي، ويدخل في مواجهة مفتوحة مع الاتجاه الأصولي.

بيد أن الذي يميز هذه الورقة عن غيرها، أنها أدخلت مقترحاتها إلى مختبر التاريخ، لاستصدار جواب مسبق عن جدواها ونجاعتها، وذلك حين استعانت بالطرح المقارن، واستعادت تجربة الجواب الأمريكي عن ملابسات وتحديات الحرب الباردة.

تبرر الورقة هذا الاختيار المقارن باعتبارين اثنين:

ـ الأول: وحدة الهدف، ففي كلا التجربتين كان التحدي الأساسي المطروح على السياسة الخارجية الأمريكية هو تشكيل شبكات معتدلة، تضطلع بمهمة مواجهة الخطر الشيوعي (زمن الحرب الباردة) والخطر الإرهابي (زمن ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر).

ـ الثاني: هو السياق المشابه، وعناصر الالتقاء الموضوعية بين التجربتين.

وبناء على هذين الاعتبارين، حاولت هذه الورقة تتبع الكيفية التي تم بها إنشاء الشبكات المعتدلة أثناء الحرب الباردة، وكيف قرأت الولايات المتحدة الأمريكية الواقع بتعدد الفاعلين فيه؟ وكيف حددت حلفاءها وشركاءها؟ وكيف دعمتهم وقوت مواقعهم؟ وما الوجوه التي تتشابه فيها هذه التجربة بالتحديات الحالية المتمثلة في مواجهة الخطر الإرهابي؟ وما عناصر التشابه والاختلاف بين السياقين؟ وهل بالإمكان الاستفادة من دروس الحرب البادرة لبناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي؟ وما الاستراتيجيات والبرامج الأمريكية الحالية الخاصة بالانخراط مع العالم الإسلامى؟ وما خارطة طريق بناء هذه الشبكات المعتدلة؟ وما المعايير الواضحة التي ينبغي على أساسها أن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية على إبرام الشراكات مع المعتدلين؟ 

المجتمع المدني القوة الضاربة لمواجهة الاتجاه الأصولي

تختصر الورقة الدروس المستفادة من الحرب الباردة، وترى أن نقطة القوة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية للنجاح في بناء الشبكات المعتدلة التي اضطلعت بمهمة إضعاف النفوذ الشيوعي ومواجهته، هي الرهان على المجتمع المدني وبناء مؤسسات ديمقراطية موازية لمنافسة السيطرة الشيوعية على المجتمع المدنى، وذلك من خلال التنسيق بين القطاع العام والخاص لتحقيق منسوب أكبر من هذا الهدف، ودعم الحركة الثقافية المعادية للمد الشيوعي، بما في ذلك خلق بؤر التوتر داخل البنية اليسارية ودعم اليسار غير الشيوعي.

وترى الورقة أن هناك ثلاثة تحديات مشتركة واجهتها أو تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية في السياقين معا، أي سياق الحرب البادرة، وسياق الحرب ضد التطرف والإرهاب، يتعلق الأول بطبيعة الحرب على الخطر الشيوعي أو الإرهابي، وهل ستكون هجومية أو دفاعية؟ ويرتبط الثاني بالمحافظة على مصداقية الجماعات التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدعمها. أما التحدي الثالث، فيتمثل في معرفة حجم وسعة الائتلاف الذي يمكن الرهان عليه لمناهضة الخطر (الشيوعي) أو (الإرهابي).

 

تم التواطؤ من قبل أغلب هذه المراكز على أن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في الوطن العربي لم تعد قادرة على تحقيق الاستقرار، وأن الاستمرار في دعمها والرهان عليها، يضر على المدى المتوسط والبعيد بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية

 



وبعد رصد الدروس المستفادة من الحرب البادرة، حاولت الورقة أن تسلط الضوء على نقاط التشابه والاختلاف في السياقين المقارنين، مركزة في ذلك على ثلاث نقاط تشابه نلخصها كما يلي:

1 ـ أن الولايات المتحدة الأمريكية في السياقين معا، تواجه بيئة جغرافية سياسية جديدة ومضطربة، وذات تهديدات أمنية جديدة. فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية، فى بداية الحرب الباردة، تواجه حركة شيوعية عالمية، يقودها اتحاد سوفيتى مسلح نوويا، فإنها اليوم تواجه حركة جهادية عالمية، توجه ضرباتها ضد الغرب في عمليات إرهابية ضحاياها بالجملة.

2 ـ أن الولايات المتحدة الأمريكية، كما في الأمس واليوم، تقوم بإنشاء بيروقراطيات حكومية أمريكية كبيرة لمواجهة هذه التهديدات.

3 ـ في السياقين معا، تبرز الطبيعة العقائدية للمواجهة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والنفسية، سواء للعدو الشيوعي أو العدو الإرهابي الذي يستند إلى عقائد متطرفة.

أما بالنسبة لعناصر الاختلاف في السياقين المقارنين، فقد توقفت الورقة على العناصر الآتية:

أ ـ تبرز أول نقطة اختلاف في طبيعة العدو في السياقين، ففي الحرب الباردة، كانت طبيعة العدو مؤسسية، تتمثل في دولة أمة، لها مصالح تقوم بحمايتها، وحدود جغرافية محددة وبنية حكومية واضحة. في حين، أن العدو الإرهابي اليوم لا يأخذ هذه الطبيعة، إذ تواجه الولايات المتحدة الأمريكية ممثلين لا ينتمون إلى دولة، ولا يسيطرون على أرض، وإن كان بعضهم قد استطاع أن يؤسس ملاذات خارج سيطرة الدولة، ويرفضون قواعد النظام الدولى، ولا يمكن التعامل معهم بوسائل ردع اعتيادية.

ب ـ ويرتبط الاختلاف الثاني بطبيعة المجتمع المدني في السياقين، ففي زمن الحرب الباردة، كانت مؤسسات المجتمع المدني قوية في أوربا الغربية، وكان للولايات المتحدة الأمريكية الأساس اللازم لبناء شبكات ديمقراطية. في حين، تتميز طبيعة المجتمع المدني في العالم الإسلامي بالضعف والهشاشة، ولا تزال خاضعة لعملية التطوير مما يجعل عملية بناء الشبكات المعتدلة أمرا صعبا.

ت ـ ويرتبط الاختلاف أو الفرق الثالث بطبيعة الروابط الفكرية والتاريخية القوية التي تجمع الولايات المتحدة ألأمريكية بدول أوروبا الغربية، والتي انعكست في التطور المؤسساتي والقانوني والثقافي، وبين الروابط المحدودة والضعيفة مع النخب (حلفاؤها المفترضين) في العالم الإسلامي.

ث ـ ويتمثل الفرق الرابع في الفضاء والبيئة الإعلامية، والتي تميزت في فترة الحرب البادرة بالمحدودية، في حين تعرف اليوم طابعا معقدا، إذ لم يعد الإعلام مقتصرا على الوسائل التقليدية التي تحتكرها الدولة، وإنما صار مفتوحا ومنفتحا إلى الدرجة التي يتعذر فيها مواجهته (مئات المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية). ففي زمن الحرب الباردة، كان التحدي في أوربا الشرقية، هو بث معلومات حقيقية يتم حظرها من قبل حكومات شمولية. في حين، صار التحدي اليوم هو مواجهة سيل من وسائل الإعلام التي تشجع وتعضد رُؤًى متعصبة ومتطرفة.

ج ـ أما الفرق الخامس، فيتعلق بتعقد الاختيارات السياسية التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم. ففي أثناء الحرب الباردة كانت الاختيارات السياسية أمام الولايات المتحدة محددة واضحة( الدفاع عن أصدقائها، ومعارضة الاتحاد السوفييتي وحلفاءه). أما في العالم الإسلامي اليوم، فإن الاختيارات صارت أشد تعقيدا، لأن النقد يتوجه أولا للولايات المتحدة بحكم أنها تقدم الدعم للنظم المستبدة، ويتوجه ثانيا إلى الارتباك الذي تتسم به سياساتها الخارجية، إذ يمكن أن يؤدي تشجيعها للديمقراطية إلى تهديد كيان الحكومات التي تشكل جزءا من بنية الأمن الحالية التي تدعمها الولايات المتحدة في المنطقة.

التعليقات (0)