كتب

إخفاق الديمقراطية المفروضة تحت قصف القنابل (1من3)

كتاب يعرض لتمدد الفكر الديمقراطي وأهم العوائق التي تعترضه  (فيسبوك)
كتاب يعرض لتمدد الفكر الديمقراطي وأهم العوائق التي تعترضه (فيسبوك)

الكتاب: أعداء الديمقراطية الحميميون
الكاتب: تزفيتان تودوروف ، ترجمة د.مناف عبّاس، مراجعة د. جمال شحيّد
الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب،دمشق، الطبعة الأولى 2019.
(عدد الصفحات 255 من القطع الكبير)

الحرّية قيمة إنسانية نبيلة، لأنّ الإنسان يولد بطبيعته حرّا، وهي إحدى القيم الأساسية للديمقراطية، ولكن في الصراع بين الأنظمة الديمقراطية الغربية والأنظمة الشمولية، سواء في نسختها النازية التي هُزِمَتْ في العام 1945، أو في نسختها الشيوعية التي انهارت في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1989 عقب سقوط حائط برلين، اعتقدت الولايات المتحدة الأمريكية القوة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وفي الحرب الباردة، أنَّها حققت نصرًا نهائيًا لمصلحة الحرّية والديمقراطية، وأنّها قادرة على تصحيح عيوب الأنظمة الديمقراطية.

"نحن نعتقد أنَّ نظامنا السياسي يتقدم"، هكذا كتب هنري كيسنجر قبل أربعين عاماً، وقبل أنْ يتسلم أيضا قيادة الدبلوماسية الأمريكية. وكان جورج واشنطن من هذا الرأي. ففي خطاب الوداع  الذي حذَّر فيه مواطنيه من التدخل في شؤون أوروبا القديمة، كتب إلى صديقه لافاييت ما يلي: "إنَّه رد فعل طبيعي جدا أن نعتقد، أنَّ نظامنا السياسي سيتقدم أيضًا إلى شعوب أخرى... لقد غرسنا بذرة الحرّية والاتحاد التي ستنبت شيئا فشيئاً في كل الأرض. ويوماً ما ستتشكل الولايات المتحدة الأوروبية على نموذج الولايات المتحدة الأمريكية وسوف تكون أمريكا المُشّرِع لكل القوميات".

بيد أنَّ هذه المقاربة في اعتبار النظام السياسي الأمريكي نموذجًا يحتذى به على الصعيد الكوني لم تهيمن دائما على سلوك الزعماء الأمريكيين. فيمكن أنْ نلمس تشكل أربع مدارس فكرية وسياسية في هذا الصدد: مدرسة الفيدرالي الرئيس ألكسندر هاملتون (1757 ـ 1804) القريب جداً من جورج واشنطن، والمهتم بحماية التجارة أكثر منه بفضائل الديمقراطية. ومدرسة الرؤساء جيفرسون (1743 ـ 1826) الذي قدم خطابًا معارضًا، واشترى ولاية لويزيانا من نابليون. ومدرسة أندرو جاكسون (1767 ـ 1826) الداعي لتأسيس سلطة قوية ومركزية، مدعومة من قبل جيش قوي. 

وأخيرًا مدرسة وودرو ويلسوزن (1856 ـ 1924)، هذا النبيل المثالي الذي برر دخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الأولى من خلال ضرورة جعل العالم "مضمونًا للديمقراطية". فكان مشروعه  إنشاء عصبة الأمم التي تدين بولادتها لإرادة ولسون شبه الرسالية، والمستمدة من روح النظام السياسي الأمريكي. ومع ذلك، رفضت أمريكا الانتساب إليها، من دون أن يمنعها ذلك، بعد زهاء ربع قرن من الزمن، أن تبادر هي نفسها، إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة بالتعاون مع الحلفاء، على قاعدة المبادىء التي أرساها ولسون.

وفي الوقت الذي كان سلفه البعيد يحلم بدمقرطة سلمية للعالم، فإنَّ الرئيس السابق جورج بوش يعتقد جازماً وشرعياً بضرورة اللجوء إلى القوة والحرب من أجل أن تتقدم أفكار المحافظين الجدد، لاسيما مشروع الشرق الأوسط الكبير. وقد عبر الرئيس نفسه رسمياً عن طموحه في نشر "القيم الديمقراطية" في الشرق الأوسط، وهذا ما أعلنه منذ 26 شباط (فبراير) 2003، عشية اجتياح العراق أمام مؤسسة الأبحاث الأمريكية (AEI) المعروفة بأنَّها تؤوي المحافظين الجدد وأصدقاء إسرائيل غير المشروطين والذين يفتخر السيد جورج بوش بأنَّه "استعار" عشرين منهم لإدارته. وفي خطوة لاحقة ومن أجل التدليل على نوع هذه القيم، اقترح الرئيس الأمريكي في 9 أيار (مايو) 2003، "إقامة منطقة تبادل تجاري حر بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط في غضون عقد من الزمن".

الكاتب تزفيتان تودوروف الذي عاش في نظام شمولي ببلغاريا، وفي أنظمة مختلفة وأزمنة انتقالية عاصفة، لا سيما في مرحلة الموجة الثالثة من انتشار الديمقراطية على الصعيد الكوني، عقب انهيار النظم الشمولية السوفييتية، يقدم لنا في كتابه "أعداء الديمقراطية الحميميون"، المتكون من مقدمة وسبعة فصول، مقاربات نظرية في مسألة الحرّية والانتقال إلى الديمقراطية في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة التي كرست زوال التهديد الشيوعي.

المغالاة المتربصة بالديمقراطية

بعد زوال الأنظمة السوفييتية ذات الطبيعة الشمولية، استبدلت الولايات المتحدة الأمريكية العدو الشيوعي القديم بعدو جديد مع بداية القرن الحادي والعشرين، مستغلة هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة. هذا العدو هو الفكر الإسلامي الجهادي المتشدد الذي يدعو إلى حرب مقدسة ضد جميع ديمقراطيات العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، فالتدمير الذي لحق بالبرجين التوأمين في نيويورك، الذي أدّى إلى موت ثلاثة آلاف شخص أذهل جميع العقول، وأظهر خطراً حقيقياً تبدو مقارنته بخطر الإمبراطورية السّوفييتية الزائلة أمراً ينطوي على قدرٍ من المجازفة. ففي الوقت الذي يشكل فيه الإسلام المتشدد قوة تؤخذ في الحسبان داخل البلدان ذات الأغلبية المسلمة، لا بل على العكس من ذلك، فالعالم يشهد اليوم تطلعاً إلى الديمقراطية في البلدان التي كانت هذه الأخيرة غائبةً عنها فيما مضى. 

 

يعيش سكان البلدان الديمقراطية في عالمٍ أكثر عدلاً من سكان البلدان الأخرى على الرغم من شعورهم بعدم الرضا عن أوضاعهم في أغلب الأحيان. تحميهم قوانين هذه البلاد، كما وأنهم ينعمون بالتكافل القائم بين أفراد المجتمع الذي يستفيد منه كبار السن والمرضى والعاطلون عن العمل والمحرومون.

 



هذا لا يعني أن تتخلى الديمقراطيات عن فكرة الدفاع عن نفسها بواسطة السلاح، فسكان الكوكب لم يتبدلوا بين ليلةٍ وضحاها إلى قبيلةٍ من الملائكة، في حين لا نزال نشهد تعدداً لأسباب العداوة لا بل العنف بين شعوب العالم. إلا أن ذلك لا يعني وجود عدوٍ دولي أو خصمٍ على صعيد الكوكب. في المقابل، تُفرز الديمقراطية عينها عدداً من القوى التي تتهددُها من الداخل، والشيء المستجد في زمننا هذا هو قدرة هذه القوى على تهديد الديمقراطية بقدرٍ يفوق قدرة القوى التي تستهدفها من الخارج. فمناداة هذه القوى بدور في الفكر الديمقراطي وتمتعها بعددٍ من المظاهر الشرعية جعلا من محاربتها وتحييدها أمراً أكثر صعوبةً. فليس بروز الشرور من رحم الخير بأمرٍ متناقضٍ بحد ذاته في وضع كهذا، لاسيما أن جميعنا يعرف عدداً من الأمثلة على ذلك. يمكننا القول إننا عرفنا في القرن العشرين أن الإنسان قد أصبح خطراً يهدد بقاءه. 

يقول الكاتب تزفيتان تودوروف: "تنحو الديمقراطيات نحو تصورٍ معينٍ في العمل السياسي، محاولةً هنا أيضاً تجنب نقيضين آخرين: فهي من جهة، وخلافاً للأنظمة الدينية والأنظمة الشمولية، لا تَعِدُ شعوبها بالخلاص ولا تفرض عليهم حتى سلوك طريقٍ محددٍ لبلوغه. فبناء الجنة على الأرض لا يشكل جزءاً من برنامجها، كما أنها ترى أن عيوب أي نظام اجتماعي أمرٌ لا يمكن تخطيه. إلا أن هذه الديمقراطيات، من جهة أخرى، لا تتماهى أيضاً مع الأنظمة التقليدية والمحافظة التي تقول باستحالة مراجعة أي قاعدة تفرضها التقاليد، عبر رفضها المواقف القدرية والاستسلامية. وعلى الرغم من فتح موقفها الوسطي هذا باب تأويلاتٍ متباينة، إلاّ أنه من الممكن القول إن كل نظامٍ ديمقراطي ينطوي على فكرة إمكان تحسين النظام الاجتماعي وتمكينه بفضل جهود الإرادة الجماعية. صحيحٌ أنه يُنظَر اليوم بعين الشك إلى كلمة "التقدم"، لكن الفكرة التي يقوم عليها تنبع من صميم المشروع الديمقراطي" (ص14 من الكتاب).

ونتيجة لذلك يعيش سكان البلدان الديمقراطية في عالمٍ أكثر عدلاً من سكان البلدان الأخرى على الرغم من شعورهم بعدم الرضا عن أوضاعهم في أغلب الأحيان. تحميهم قوانين هذه البلاد، كما أنهم ينعمون بالتكافل القائم بين أفراد المجتمع الذي يستفيد منه كبار السن والمرضى والعاطلون عن العمل والمحرومون. لا يستطيعون أن يطالبوا بمبادئ المساواة والحرية فحسب، بل وبروح التآخي أيضاً. 

لا تمتاز الديمقراطية بكيفية تأسيس السلطة أو لغاية من عملها فحسب، وإنما بالأسلوب الذي تُمارس فيه هذه السلطة أيضاً. فالكلمة العليا في الديمقراطية هي "التعددية"، فلا يُنظر إلى السلطات المتساوية بالشرعية على أنها حكرٌ على أشخاص بعينهم ولا على أنها منوطةٌ بالمؤسسات عينها. إنه لمن الأساسي ألاّ تكون السلطة القضائية خاضعةً للسلطة السياسية (حيث تجتمع السلطتان التنفيذية والتشريعية)، وإنما أن تكون قادرةً على إصدار أحكام بمنتهى الاستقلالية. 

كذلك الأمر بالنسبة لآخر السلطات، السلطة الإعلامية، التي يتوجب عليها هي أيضاً أن تبقى تعددية لا أن تكون في خدمة الحكومة فقط. أما الاقتصاد فهو يحافظ على استقلاليته عن السلطة السياسية بعيداً عن أملاك الناس الخاصة. ومن ثم لا تتحول السلطة السياسية بدورها إلى مجرد أداةٍ لخدمة المصالح الاقتصادية لعدد من رؤوس الأموال. 

تصطدم إرادة الشعب أيضاً بحدّ من نوعٍ آخر: فمن أجل تجنب التعرّض لتأثير الانفعالات العابرة أو التلاعب الحاذق بالرأي العام، يتوجب على هذه الإرادة الالتزام بالمبادئ الكبرى التي يرسمها تفكيرٌ ناضج، التي ينص عليها دستور البلاد، أو ببساطةٍ أكبر بتلك المبادئ الموروثة من الحكمة التي تكوّنت لدى الشعوب.

التعليقات (0)