تقارير

كيف شكلت "ثورة البراق" الوعي العربي والفلسطيني؟

قوات الانتداب البريطاني تقمع المظاهرات الفلسطينية خلال ثورة البراق 1929 (صورة أرشيفية)
قوات الانتداب البريطاني تقمع المظاهرات الفلسطينية خلال ثورة البراق 1929 (صورة أرشيفية)

يؤرخ لـ"ثورة البراق" عام 1929 بوصفها أول ثورة شعبية كبرى ضد المشروع الصهيوني في فلسطين، رغم أنه سبقتها عدة انتفاضات ومظاهرات وحركات شعبية ضد الاحتلال البريطاني والوجود الصهيوني، لكن "ثورة البراق" كانت محطة هامة في تشكيل الوعي الفلسطيني والعربي بخطورة المخططات الصهيونية، وبدور سلطات الانتداب البريطاني في تهويد فلسطين، وفي بناء الهوية الوطنية الفلسطينية. 

يعتبر المسلمون حائط البراق وقفا إسلاميا، وهم يحتفظون بصكوك ووثائق تخولهم حق إدارة المكان، والبراق هو جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف. ويعتقد أنه المكان الذي ركن إليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم البراق المجنح الذي حمله من مرقده في رحلة الإسراء والمعراج مرورا ببيت المقدس. 

ويشكل حائط البراق الجزء الجنوبي من السور الغربي للحرم القدسي الشريف بطول حوالي 47 مترا وارتفاع حوالي 17 مترا، ولم يتخذه اليهود مكانا للعبادة في أي وقت من الأوقات إلا بعد صدور "وعد بلفور" عام 1917، ولم يكن هذا الحائط جزءا من "الهيكل اليهودي" المزعوم، ولكن التسامح الإسلامي هو الذي مكن اليهود من الوقوف أمامه، والبكاء على زواله، وزوال "الدولة اليهودية" قصيرة الأجل في العصور الغابرة. 

وإبان الحكم العثماني، سمح لليهود بإقامة طقوسهم قبالة الحائط. وجرى اتفاق غير مكتوب بين إدارة الوقف الإسلامي واليهود على ألا يقيم اليهود أي بناء بالقرب من الحائط أو يضعوا أي شيء في باحته، الأمر الذي استمر عدة سنوات. 

حافظت سلطات "الانتداب" البريطاني، التي ورثت إدارة فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى على الحالة القائمة في الأماكن المقدسة إلا أن اليهود أخذوا ومنذ انحسار حكم السلطة العثمانية، يقومون بمحاولات ترمي إلى تغيير الوضع القائم للأماكن المقدسة وكان مسعاهم في ذلك يهدف إلى تحقيق سيطرة يهودية على الحرم القدسي الشريف. 

في 15 أب / أغسطس عام 1929، الذي وافق احتفالات المسلمين بالمولد النبوي الشريف نظمت حركة "بيتار" الصهيونية اليمينية تظاهرة في ذكرى ما يسمونه "خراب الهيكل" التي احتشدت فيها أعداد كبيرة من اليهود في القدس، يصيحون "الحائط لنا" وينشدون نشيد الحركة الصهيونية. وفي اليوم التالي رد العرب والفلسطينيون بتنظيم مظاهرة مضادة من المسجد الأقصى واتجهوا إلى حائط البراق، وهناك استمعوا إلى خطبة من الشيخ حسن أبو السعود، تبين الأخطار التي تتهدد المقدسات الإسلامية. 

وازداد التوتر في القدس حيث اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجانبين. 

 



وتوسعت دائرة الصدامات لتشمل مدنا فلسطينية أخرى، وامتدت من الخليل وبئر السبع جنوبا حتى صفد شمالا، وبعد أيام هزت فلسطين أخذت الأحوال تتجه نحو الهدوء، وأسفرت أحداث "ثورة البراق" عن سقوط 133 قتيلا يهوديا و339 جريحا، فيما بلغ عدد الشهداء العرب 116 وعدد الجرحى 232 ، وذلك حسب تقرير "لجنة شو" التي اعترفت بأن معظم إصابات العرب كانت على أيدي القوات البريطانية. 

واعتقلت سلطات "الانتداب" البريطاني نحو 900 فلسطيني وزجت بهم في السجون وأصدرت المحاكم البريطانية في فلسطين أحكاما بالإعدام على عشرين عربيا تحول الحكم فيما بعد إلى السجن المؤبد باستثناء ثلاثة هم :عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي الذين واجهوا الشنق في سجن عكا المعروف باسم (القلعة) يوم 17 حزيران/يونيو عام 1930 بشجاعة خلدها الشاعر إبراهيم طوقان في رائعته الشعرية "الثلاثاء الحمراء" وخلدوا أيضا في القصيدة المغناة "من سجن عكا طلعت جنازة". أما اليهود فقد حكم على واحد منهم فقط بالإعدام ثم خفض إلى عشرة أعوام وأطلق سراحه بعد فترة قصيرة. 

وفرضت على بعض المدن العربية غرامات باهظة تمت جبايتها بشتى أنواع الإرهاب والتعسف وذلك تطبيقا لقانون العقوبات الجماعية، وبدا وكأن هذا القانون قد صمم للتطبيق على العرب فقط. 

وكانت سلطات "الانتداب" البريطاني قد احتكمت إلى "عصبة الأمم" (الأمم المتحدة) بناء على توصية "لجنة شو" التي شكلتها الحكومة البريطانية للتحقيق في الأحداث، وألفت لجنة من ثلاثة أشخاص غير بريطانيين، وكانت اللجنة برئاسة وزير خارجية السويد الأسبق أليل ولفغرن وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري تشارلز بارد، وبعد تحقيق قامت به اللجنة، وضعت تقريرا عام 1930، قدمته إلى "عصبة الأمم" أيدت فيه حق المسلمين الذي لا شبهة فيه بملكية حائط البراق. وأقرت اللجنة أن للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي باعتباره جزءا لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف، كما تعود للمسلمين ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط. 

كما أقرت اللجنة أنه لا يجوز لليهود جلب أية أدوات عبادة أو وضع مقاعد أو سجاد أو كراسي أو ستائر أو حواجز أو أية خيمة جوار الحائط لأنه ملكا للمسلمين. 

لقد شكلت أحداث "ثورة البراق" تحولا في العلاقات العربية البريطانية في فلسطين، ففي الوقت الذي اتجهت فيه احتجاجات سكان فلسطين العرب نحو الوجود اليهودي ونزعته التوسعية بالتحديد متفادية الاصطدام بالقوات البريطانية، سقط هؤلاء السكان ضحايا برصاص الاحتلال البريطاني الذي كان يشكل حماية منيعة لليهود. 

 كما شكلت الثورة نقطة تحول في سلوك حكومة الانتداب إزاء العرب، وبات العداء صريحا يتجلى في ممارسات القمع الموجهة ضد العرب تحديدا على الرغم من أن تقرير "لجنة شو" عزا أسباب الإضرابات إلى خيبة أماني العرب السياسية والوطنية وخوفهم على مستقبلهم الاقتصادي وخشيتهم من سيطرة اليهود السياسية بسبب الهجرة اليهودية المتزايدة.  

لقد تحول الحكم بإعدام الشبان الثلاثة في سجن عكا إلى جزء من ذاكرة الشعب الفلسطيني ونضاله، وسيتم استحضارهم في كل حدث ومناسبة، ولا يزال حتى اليوم بعد عشرات السنين من إعدامهم يذكرون كل عام ولا يزال معظم الفلسطينيين يحفظون عن ظهر قلب قصيدة "من سجن عكا طلعت جنازة" التي كتبها الشاعر نوح إبراهيم لتصير حكايتهم كأنها قصة ملحمية بنظر الكثيرين. 

وكان من أثار هذه الثورة أنها شهدت ظهور العلم الفلسطيني حيث اقترحت صحيفة "فلسطين" بضرورة اتخاذ علم مقترحة علمين ومطالبة أيضا بنشيد وطني وهو ما سيفتح باب النقاش بعدها والذي سيفضي لاحقا لتصميم العلم الفلسطيني وإلى خطوات أخرى في الهوية الوطنية الفلسطينية. 

 

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم