كتب

التنوير البريطاني وسوسيولوجيا الفضيلة (2من2)

ماكس فيبر عزا نشوء الرأسمالية إلى حركة الإصلاح الديني وظهور الأخلاق البروتستانتية- (عربي21)
ماكس فيبر عزا نشوء الرأسمالية إلى حركة الإصلاح الديني وظهور الأخلاق البروتستانتية- (عربي21)

الكتاب: "حركة التنوير.. بريطانيا وخلق العالم المعاصر" 
المؤلف: روي بورتر، ترجمة هدى عبد الفتاح الكيلاني
الناشرك الهيئة العامة السورية للكتاب، الطبعة الأولى 2020 
(عدد الصفحات 535 من القطع الكبير).

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني قراءته لكتاب "حركة التنوير.. بريطانيا وخلق العالم المعاصر"، عن جهود التنوير الأولى في الغرب، التي انطلقت من بريطانيا، ودورها في صياغة العالم الحديث والمعاصر..
 
علم السياسة 

"الحرية هي العطية الإلهية الأولى للطبيعة البشرية"، حسب قول إدوارد جيبون (مذكرات حياتي) 1966. لما اقترح ديفيد هيوم في مقالة كتبها عام 1714 أنّه يجب إحالة السياسة إلى علم، بدت الفكرة مبتذلة، وشكّلت في واقع الأمر موضوع نكتة ساخرة في كتاب (رحلات غوليفر) الصادر عام 1726، فقد وبّخ بطل الرواية سكان (بروبدنغناغ) العمالقة "لجهلهم وعدم قيامهم حتى الآن بإحالة السياسة إلى علم، كما فعل الأشخاص الأكثر ذكاءً في أوروبا". فقد أصدر ديزاغولييه عام 1728 كتابه (نظام نيوتن العالمي: الأنموذج الأفضل للحكومة)، الذي علل فيه النظام الاجتماعي من خلال العلم، وأعلن أنه "عدّ الحكومة ظاهرة... تبدو بالشكل الأمثل عندما تشبه إلى حد كبير نظام الحكم الطبيعي في عالمنا، وفق القوانين التي وضعها المهندس الحكيم والقدير للكون أجمع".

لكن، إذا جرى تفسير الدولة بأنها منفتحة على التحليل العلمي، إلا أنه عملياً حافظت السياسة على كونها حلبة الخطابات التنافسية، وكان موضوع الحرّية هو البند الرئيس على المنصات التنويرية:

الحرية من الحكم الاستبدادي (الملكية الدستورية)؛ الحرّية من الاعتقال التعسفي، من محاكمة هيئة المحلفين، من المساواة أمام القانون، حرّية المنزل من الاقتحام العشوائي والتفتيش، قدر من الحرّية الفكرية المحدودة، من القدرة على التعبير، والالتزام الوجداني، المشاركة غير المباشرة في الحرّية (أو في ما يشبهها) الذي يمنحها حق المعارضة البرلمانية والانتخابات والجلبة التي تحدثها الانتخابات... وكذلك حرية السفر، التجارة، وحرية الفرد في بيع إنتاجه الخاص.

يقول الكاتب البريطاني روي بورتر: "لا عجب في أنّ الحرّية أثارت مثل تلك المشاعر، لأنَّ أسرة ستيوارت الحاكمة، في نظر دعاة التجديد الهويغيين، دأبت على قمع الحريات، فقد حلّ الملك تشارلز الأول مجلس النواب؛ في حين بالغ تشارلز الثاني في استهتاره وعدم التزامه بتلك المؤسسة والكنيسة الأنغليكانية أيضاً، فضلاً عن أنَّ أوامره بإيقاف صرف الموارد المالية من الخزانة الحكومية زعزعت الثقة المالية، وأضعفت حماية الممتلكات؛ وأتى جيمس الثاني ليطيح بقدسية القوانين عن طريق الاعتقالات التعسفية والتلاعب بالمؤسسات المدنية، والأملاك الجامعية وغيرها من أشكال الملكية. من ناحية ثانية، ومن خلال إعجابهما بالسياسة الاستبدادية الكاثوليكية، بالغ كل من تشارلز وجيمس في استخدام الصلاحيات والامتيازات الملكية بتهور واستهتار. كان السير روبرت فيلمر قد رأى في كتابه (باتريارتشا) الصادر عام 1680 بأن حق الملوك الإلهي والحركة اليعقوبية سيحتفظان طويلاً بأتباعهما السريين" (ص 392 من الكتاب).

أتى الإنكار الأبرز لهذا التفكير من جون لوك، الذي أصدر كتابه (مقالتان في الحكم) الذي كُتب في أثناء أزمة الاستبعاد، عام 1690. في المقالة الأولى، دحض لوك الطاعة السلبية، وقلل من أهمية فكرة فيلمر حول حق الملوك الإلهي الذي منحهم إياه الله عن طريق آدم: شكلت مثل هذه البطريركية (قيوداً للبشرية جمعاً). هاجم أيضاً الفكرة التي تقول إنّ "كل حكومات العالم ما هي إلا نتاج القوة والعنف، وإنَّ الناس يعيشون معاً لا يحكمهم سوى قوانين الوحوش، إذ يستولي الأقوياء على كل شيء"، على الرغم من أن توماس هوبز هو المؤلف المجهول لفلسفة (القوة هي الحق). عرّف لوك القوة السياسية بأنها "حق تشريع القوانين... لصالح الجماهير"، إلا أنه أنكر أن يكمن مصدر هذه القوة سواء في آدم أم في السلاح: تصدر الشرعية السياسية من الإجماع وحسب، كما تمّ توضيح ذلك فقط في قصة الانتقال من حالة الطبيعة. 

استحضر لوك أنموذجاً عن حالة أصلية قبل قيام الحكومات، يؤدي فيها الناس أعمالهم المنوطة بهم وفقاً لجميع الحقوق والواجبات الأساسية للمجتمع المدني "كالامتناع عن السرقة وأعمال العنف"، وذلك على وجه التحديد لأن "هناك قانوناً طبيعياً يحكم دولة الطبيعة، يلتزم به كل شخص: يعلّم العقل- الذي هو ذلك القانون- البشر كافة، الذين لا غنى لهم عن استشارته، بأنهم يتمتعون جميعاً بالمساواة والاستقلال، لذا لا ينبغي لأحد منهم أن يسبب الأذى للآخر في حياته، حريته أو ممتلكاته". كان قانون الطبيعة هذا ملزماً لأنه إرادة الله والناس "خاصته".

إذن، أنشئ المجتمع السياسي بالموافقة الطوعية "للجميع"، بغية حماية الحقوق والثروات التي منحها الله، وأقرّها العقل في دولة الطبيعة: "إنَّ الهدف الأكبر والأهم من توحيد الناس في جماعات، ووضع أنفسهم تحت إمرة حكومة، هو المحافظة على ممتلكاتهم". تلتزم الحكومة بتأييد العقد الذي اتفقت عليه العامة، الذين يحتفظون بسلطة متبقية لا يمكن إلغاؤها على قوانينهم. بعبارة أخرى، يكون الفرد مستقلاً بذاته في دولة الطبيعة، على الرغم من التزامه بقانون الطبيعة؛ أما في المجتمعات المدنية فقد أصبح الفعل خاضعاً للحكم العام، وتحولت الشخصيات الخاصة إلى شخصيات عامة، وحلّت التصرفات العامة مكان تلك الخاصة، وذلك في إطار عملية تحول تهدف إلى تعزيز أساليب حماية الحياة والحرية والممتلكات. 


جرى الاحتفاظ بحقّ مطلق للتصدي. لأي خرق تنفذه الحكومة للعقد، على ألا يمارس هذا الحق بشكل فردي بل "جماعي" (تركت الفكرة غامضة بشكل مقصود): ربما تعدّ الجماعة في هذا الصدد السلطة العليا على الدوام. مادامت الحكومة تمارس سياسة عادلة، فلن يكون هناك سبب للجوء إلى هذه السلطة الشعبية المتبقية. 

يقول الكاتب البريطاني روي بورتر: "ولكن، في حال سعى الأمير "إلى إخضاع الرعية أو القضاء عليها"، يحق للناس "اللجوء إلى السماء"، ولكن كيف يفعلون ذلك على وجه التحديد، أبقى الحكيم لوك القضية غير معلنة. فضلاً عن ذلك، أسرع لوك إلى طمأنة قرّاءه القلقين بأن هذا الحق "لا يرسي أساساً دائماً للفوضى"، إذ إنّه لن يستخدم ما لم "يبلغ الإزعاج حداً لا يحتمل، يشعر به الأغلبية، ويسبب لهم الضجر". إلا أن الناس سيتوانون في إعلان التمرد. حتى "الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها الحزب الحاكم... سيحتملها الناس دون تمرد أو تذمر، وسيكون ملاذهم الوحيد المقاومة ولكن بعد سلسلة طويلة من الانتهاكات والمراوغات وأساليب الخداع". كان لوك يسير دائماً على حبل رفيع: لم تكن الفوضى في يوم من الأيام الردّ الأمثل على الطغيان (ص 394 من الكتاب).

العلمانية البريطانية 

جلب القرن الثامن عشر الطويل تسارعاً لا يرحم، وإن كان متفاوتاً، لانتشار العلمانية، إذْ إنّ هذا التدين المفرط واسع الانتشار المشابه للكاثوليكية في مرحلة ما قبل الإصلاح أفسح المجال لظهور نظام يجري فيه تطهير المقدسات وتمييزها مقابل عالم زائل يهيمن على الحكومة اليومية. لم تعد الكنائس، على الأقل في المدن، مراكز التجمع الرئيسة، ولم يعد رجال الدين يشكلون مرجعيات سلطوية مهمة، وأصحبت الدورة الزمنية اليومية والسنة الشعائرية منفصلتين تماماً عن الطقوس الدينية والتقويم المسيحي. دعمت الحاجات التنويرية الملحة مثل تلك التغيرات التي كانت تميز سابقاً المجتمع البروتستانتي التجاري.

في المناخ النقدي الجديد، ومع تسارع إيقاع الحياة، جرى الاعتراض على الطرائق القديمة، ولم يعد العرف المقدس أو "الإرادة الإلهية" يقدمان بشكل تلقائي إجابات عن تساؤلات الحياة اليومية. مع نمو الثقافة المادية وتوسعها، أُخذ العمل (بمفهومه) في الحسبان، وتسارع النبض الوطني، واكتسبت الحسابات العملية مزيدًا من الأهمية. أصبح الوقت ـ العابر والمؤقت وليس الدائم ـ يعني المال أو في الواقع الملكية الخاصة.

اكتسب الوقت أهمية كبرى بالنسبة إلى الفئة التي تعمل في التجارة، وأصبح الشعب الإنكليزي يعرف بأنه أمة تنهض بنفسها، فقد سجّل الرحالة الفرنسي غروسلي ملاحظاته حول ذلك، "إنهم يتحركون بسرعة كبيرة، وبما أن العمل  يستحوذ كلية على أفكارهم، لذا فإنهم حريصون على التقيد بمواعيدهم بدقة بالغة". نظرا لحاجتهم الماسة إلى الوقت، أصبح سكان لندن يعتمدون على الوجبات السريعة الجاهزة.

سمات التنوير البريطاني   

صخبٌ متنام للهوية الوطنية؛ فقد طالبت حركة التحرر التنويرية بالاستقلال عن الطغاة، وظهرت في المقابل حركة جديدة تهتم بالجذور والأعراق، وبكل ما يندرج تحت الأعراف الرائجة وما يتعلق بالتاريخ، فعملت على تعزيز مشاعر الرابطة القومية التي تجاوزت الولاءات للأسر الحاكمة.

كانت الأساطير التي تميز الشعب الإنجليزي وتدعمه في بعض الأحيان موضوعاً رئيسياً في هذا الكتاب، لاسيما التفاخر بحركات التحرر ، والدين العقلاني، والازدهار الاقتصادي والتقدم الحضاري. على الصعيد الوطني على الأقل، لم يكن الإنجليز وحدهم الذين أدرجوا ضمن تلك الصيغ التنويرية، فقد أنشد الكاتب الأسكتلندي طومسون في مسرحية رمزية تحمل عنوان (ألفريد): "البريطانيون لا، ولم، ولن يكونوا عبيداً". فقد كان الأسكتلنديون، وسكان ويلز والإيرلنديون- ما لم نتعرض لذكر البريطانيين في الخارج، كما في المستعمرات الثلاث عشرة- عرضة للشعور بالانقسام. مما لا شك فيه أن من الخطأ أن نؤرخ أو نغالي في وجود (القوميات السلتية) بين طبقة المفكرين، وكذلك يشعر البريطانيون من غير الإنجليز بشيء من الندم حيال تسمية أنفسهم "بالإنجليز" عندما تسنح الفرصة، وهذه إشارة أكيدة إلى حقيقة أن العديد من مفكري التنوير السلتيين قد سرّهم مغادرة وطنهم بحثاً عن الشهرة والمال في مدينة لندن. اكتسبت حركة مرور الأسكتلنديين على طول الطريق الجنوبي سمعة سيئة. 

ثقافة عميقة، متجذرة في المهن، وفئات اجتماعية من مالكي الأراضي، إلى جانب الجامعات

إذا كانت الأمة أيضاً في حالة اضطراب ـ وتمزقها، ما بعد منتصف القرن، صراعات الولاء والمصالح الأيديولوجية المرتكزة على اليعقوبية ـ فقد كانت الفرص تدل على التطور الاقتصادي والاجتماعي المتسارع لشعب كان، قبل الاتحاد، بائساً ومتخلفاً إلى حد كبير. بالنسبة إلى بعضهم، كان التنازل عن السيادة السياسية عام 1707 بمنزلة إهانة وطنية؛ أما بالنسبة إلى آخرين، فإن التطورات الثقافية والفكرية والاجتماعية الملموسة ـ تقدم المجتمع المدني ـ جعلت من تلك الخسارة بشكل أساسي مسألة تتعلق بالحنين إلى الوطن. لكن الأمر المهم هو أنه لا يمكن لأي مفكر أسكتلندي أن يتجنب الوعي الحاد بالتغيير الفعلي والمتوقع؛ لذلك شعر كثيرون أنهم ملزمون بصياغة نظريات عن التحولات التي كانت، أو يجب أن تمر بها الأمة.

من ميزات التنوير البريطاني أنه نما وازدهر "داخل الورع والتقوى"، حيث "لم تكن هناك حاجة إلى الإطاحة بالدين نفسه لأنه لم يكن هناك بابا، ولا محاكم تفتيش، ولا قساوسة يسوعيون، ولا كهنوت محتكر".
 
بيد أن شيئاً غير سعة الأفق في المسائل الدينية والتسامح كان مسؤولاً عن المناخ العقلي المختلف تماماً في بريطانيا. وهو أنه لم تكن هناك كنيسة مضطهدة، أو لاهوت دوغمائي للتمرد عليهما، ولا ريب في ذلك، ولم تكن هناك سلطة جديدة، أو أيديولوجية تحث على التمرد. أما في فرنسا، فقد كان العقل هو تلك السلطة، وتلك الأيديولوجية، عقل أسمى بدرجة جعلته لا يتحدى الدين والكنيسة فقط، بل كل المؤسسات التي تعتمد عليهما. لقد كان العقل هداماً بصورة متأصلة، فقد تطلع إلى مستقبل مثالي، وازدرى نقائص الحاضر وعيوبه، إضافة إلى الماضي، كما أنه ازدرى اعتقادات، وممارسات الجاهل، ووضيع المولد.

تلك هي إنجلترا التي عرَّفها مونتسكيو من قبل في القرن الثامن عشر، إذ يقول إن الإنجليز "يعرفون أفضل من أي شعب آخر على الأرض كيف يقيّمون، في الوقت نفسه، هذه المزايا العظيمة الثلاث، وهي الدين، والتجارة، والحرية". وتلك هي أيضاً إنجلترا التي اكتشفها توكفيل من جديد منذ أكثر من قرن مضى، حيث يقول: "لقد استمتعت، أيضاً، في إنجلترا بما حرمت منه فترة طويلة، وأعني بذلك الوحدة بين العالم الديني والعالم السياسي، وبين الفضيلة العامة والفضيلة الخاصة، وبين المسيحية والحرية"..

واستلهمت العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، بالثورة الإنكليزية، التي امتدت من العام 1689 إلى العام 1714، والتي تمخض عنها إعلان حقوق البرلمان في العام 1689، الذي كان له أهمية عظيمة، حين أصبحت الملكية الدستورية، هي النظام السياسي السائد على الأمة، وفكرة العقد، بدلاً من الملكية الوراثية المستندة على نظرية الحق الإلهي. وهذه الثورة البرجوازية، أوقفت الحروب الدينية بين البروتستانت الإنلكيز، التي دامت قرابة قرن، من خلال إعلان الحرية الدينية، كما أن الصراعات السياسية وجدت طريقها إلى الحل، عبر إقامة توازن السلطات بين الملك والبرلمان. 

وهكذا، دشنت الثورة الإنجليزية، والثورة الصناعية، الرأسمالية عامة باعتبارها نظام إنتاج جديد، ونمو حياة جديدة، التاريخ العالمي الحديث للمجتمع المدني الحديث في القرن السابع عشر، ووجهت ضربة قاصمة لبنية النظام القديم الاقطاعية البائدة، وأصبحت أساس التوسع والريادة للعالم. وقد عزا ماكس فيبر نشوء الرأسمالية إلى حركة الإصلاح الديني وظهور الأخلاق البروتستانتية.

 

إقرأ أيضا: التنوير البريطاني وسوسيولوجيا الفضيلة (1من2)

التعليقات (0)