هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي الرازي 1149ـ 1210م، تيمي القبيلة، ولد في مدينة هراة إحدى مدن الري من أعمال طبرستان (تقع في شمال دولة إيران وفي جنوب غرب دولة تركمانستان ويمتد في مُعظمه على الساحل الجنوبي لبحر قزوين).
لقب بفخر الدين وعرف بابن خطيب الري، إذ كان والده ضياء الدين فقيها يدرس بالري (مدينة تاريخية أضحت اليوم جزءا من الجنوب الشرقي لطهران، فتحت الري في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وذلك بقيادة نعيم بن مقرن).
تتلمذ الرازي علي يد مجد الدين الجيلي الذي كان تلميذا للسهروردي المقتول صاحب
الفلسفة الإشراقية.
قال ابن خلكان فيه، إنه فريد عصره ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات، له التصانيف المفيدة في فنون عديدة، وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" إنه علامة كبيرة ذو فنون، وقال ابن أبي صبيعة إن مصنفاته انتشرت في الآفاق وإذا ركب مشى حوله نحو ثلاثمئة تلميذ، فقهاء وغيرهم، وقال القفطي "قرأ علوم الأوائل وأجادها وحقق علم الأصول، ودخل خراسان ووقف على تصانيف ابن سينا والفارابي، وعلم من ذلك علما كثيرا".
في مقابل ذلك، ثمة علماء تهجموا على الرازي وكفروه، خصوصا بعد تأليفه كتاب "السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"، وقد وجد
ابن تيمية في هذا الكتاب مادة للكفر، رغم أن ابن تيمية ذكر أن الرازي تاب وتراجع عن هذا الكتاب.
وكذلك الأمر في محاولة الرازي الجمع بين علم الكلام والفلسفة، فقد ذكر ابن الصلاح نقلا عن القطب الطّوعاني أنه سمع فخر الدّين الرازي يقول "يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام".
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" رجوعه إلى مذهب السلف: "وقد ذكرت وصيته عند موته، وأَنه رجع فيها إِلى طريقة السّلف، وتسليم ما ورد على الوجه المراد اللائقِ بجلال اللّه تعالى".
الفلسفة وعلم الكلام
يعتبر
فخر الدين الرازي من أهم الأشاعرة المتأخرين، ومعه حصل تحول في علاقة علم الكلام بالفلسفة، بعدما كان علم الكلام (المعتزلة، الأشاعرة) يناهض الفلسفة والفلاسفة الإسلاميين.
مع الرازي، تداخل علم الكلام بالفلسفة، حيث كان متكلما وفيلسوفا، وتجلى ذلك في كتب عدة له، منها: المحصل، مفاتيح الغيب، المباحث المشرقية، المطالب العالية في العلم الإلهي.
يوضح أحمد محمود صبحي ثلاثة معالم لمنهج الرازي:
ـ التوسع في المقدمات والمصطلحات المقتبسة من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات.
ـ الاقتباس من الفلاسفة لا يمنعه من مهاجمة بعض أقوالهم.
ـ رفض الرازي لمقولة "بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول"، ولذلك لم يهتم بمسألة الجوهر الفرد، وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته:
بالـغ المتقدمون مـن المتكلمين فـي النكير
علـى انتحـال المنطق وعـده بدعـة أو كفرا
على نسبة الدليل الذي يبطل، والمتأخرون
من لدن الغزالـي لمـا أنكروا انعكاس الأدلة
ولم يلزم عنـدهم من بطـلان الـدليل بطـلان
مدلـوله، وصـح عنـدهم رأي أهـل المنطـق
فـي التركيب العقلــي ووجـوب المـاهيــات
الطبيعية وكليـاتها فـي الخـارج، قضـوا بـأن
المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية.
من وجهة نظر محمد عابد الجابري، فإن المهم هو تبيان الكيفية التي دمج فيها الرازي بين الكلام والفلسفة، أي طريقة المتأخرين في مرحلة تمام نضجها واكتمالها، مرحلة التداخل التلفيقي بين البيان والبرهان.
بعبارة أخرى، سيختار الرازي من فلسفة ابن سينا ما يريد وسيقف منها موقفا لا يشابه موقف الغزالي (تهافت الفلاسفة) وموقف الشهرستاني (مصارعة الفلاسفة) ممن عارضوا الفلسفة، بل سيقف موقفا وسطا، فيختار مسائل اجتهد في تقريرها بصورة ترفع الإشكال عنها في نظر المتكلمين، ويضم أصولا لها من عنده.
إنها مهمة الانتقال بالفلسفة الكلامية السينوية من فلسفة تطمح إلى احتواء علم الكلام، إلى فلسفة تفتح صدرها لعلم الكلام.
في كتابه "المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات" عمل الرازي على ممارسة الكلام في الفلسفة، أما في كتابه "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين" فقد عمل على ممارسة الفلسفة في علم الكلام.
ويذهب بعض الباحثين إلى أن منهج الغزالي في ربط المنطق بعلم الكلام، هو الذي دفع الرازي إلى استيعاب الفلسفة في علم الكلام.
الموقف من الفلسفة
إذا كان الرازي قد اتفق مع الغزالي في مهاجمة فلسفة ابن سينا، فإنه افترق عنه في رفضه مهاجمة الفلسفة بإطلاق، فالفلسفة وفق الرازي لا تهدد أصول الدين كما اعتقد الغزالي، ويبدو رفض الرازي لموقف الغزالي واضحا في هذه الفقرة التي كتبها في كتابه "المباحث المشرقية":
وكمـا عرفت تنـاقض مقالات هذه الفرقة
تعـرف أيضـا فسـاد طريقـة قـوم نصبــوا
أنفسهم للاعتراض علــى رؤساء العلماء
وعظماء الحكماء بكل غـث وسمين، ولما
عرفنــا أن الفريقين ليســا علـى المنهج
القويم، اخترنا الوسط بين الأمرين والقول
الحسن بين القولين.
يعتبر الرازي نقطة تحول في تاريخ الفكر الفلسفي عند المسلمين، ويتضح ذلك بشكل خاص في نظريته حول وجود الله، فرغم تقديره للطريقة القرآنية التي تؤكد على الخلق، فإنه يؤسس برهانه المنطقي على وجود الله بالاعتماد على نظرية في الوجود هي في أساسها أرسطية تقول عفت الشرقاوي.
انتبه الرازي إلى خطورة مفهوم الزمان وأهميته في مباحث الإلهيات، في الوقت الذي رفض فيه أيضا مفهوم الزمان في فلسفة الفارابي وابن سينا.
رفض الرازي دلائل المتكلمين في الخلق (العالم محدث وكل محدث فله محدث، فالعالم له محدث، ثم قالوا: ذلك المحدث، إن كان محدثا، كان الافتقار إلى المحدث حاصلا فيه، وحينئذ يلزم افتقاره إلى المحدث، والكلام فيه كما في الأول، فيلزم أما الدور، وأما التسلسل، وهما باطلان، فيلزم القول بأن صانع العالم محدث يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة، فيكون القول بحدوث الصانع باطلا فوجب الجزم بكونه أزليا).
أما برهان ابن سينا فيقوم على تمييز أرسطي بين مفهومي الممكن والواجب، وهو تصور للألوهية غريب عن تصور الدين لها، بما يلزم الإلوهية من ضرورة الخلق الذي تم قبل الزمان، وهو موقف يبطن تصورا وثنيا يونانيا لأنه يتحكم فيه الضرورة أو الإلهام أو الوجوب، بحيث يجب أن تأتي أفعاله القديمة، منذ القدم، دفعة واحدة، لكي لا تتعطل إرادته مما يترتب عليه قدم العالم أيضا، فيكون ندا لذاته تعالى، من هذه الجهة.
الفرق بين التصورين كبير، فخلق العالم عند المتكلمين خلق مادي وليس مجازيا كما هو الحال عند الفارابي وابن سينا، بمعنى أن الله يخلق الحوادث متى شاء، ولا ضير من سبق الزمن عليها، ولا أهمية لتعطيل إرادته في ذلك الزمن السابق على الحوادث، لأن إرادته غير ملزمة بالخلق، ولا مخيرة بضرورة ما، وإنما هي حرة في تستأنف دائما أفعالها.
ولذلك فإن المشكلة وجود الله في علم الكلام ظلت تدور حول محور واحد هو الزماني واللازماني، أي المحدث والقديم، وليس حول مفهوم الواجب والممكن بالمعنى الفلسفي.
رفض الرازي مفهوم الزمان عن المتكلمين فأنكر وجود الزمان وفق التصور الكلامي، مقرا بوجود زمان معلوم ومعقول، دون أن يذهب مذهب الفلاسفة بالاستدلال على قدم العالم، فلا القول بحدوث العالم يستلزم إنكار وجود الزمان، ولا الاعتراف بوجود الزمان يستلزم القول بقدم العالم.
يؤكد الرازي أن الزمان هو كم منفصل، فإذا لم يكن الزمان مقدرا للحركة ولا كما متصلا ولا أنه سيالا سيلانا متصلا، فهو كم منفصل مستقل عن الحركة في شكل آنات متعاقبة يفصل بين كل آن ولاحقة عدم.
ويعتبر هذا الرأي تطويرا للفكر الكلامي في القول بحدوث العالم، فلم يضطر الرازي إلى إنكار وجود الزمان بدعوى الدفاع عن حدوث العامل، ولا هو فرط في أحد أكبر ثوابت الفكر الأشعري بدعوى الانسجام مع قواعد التفكير الفلسفي في الزمان، يقول الباحث محمد الصادقي.
لكن بعض الباحثين يرون أنه مع فخر الدين الرازي بدأ المتكلمون يقتربون من الفكر السينوي في مفهوم الخلق والتفرقة بين ثنائية الواجب / الممكن بدلا من ثنائية القديم / الحديث.
يقول الرازي في كتابه "المطالب العالية في العلم الإلهي" في رده على مفهوم القدم عند علماء الكلام (معتزلة / أشاعرة):
الله هـو واجـب الوجـود لـذاته خلـق موجودا
آخر، وخلق فيه القدرة على إيجاد الأجسام،
وبهذا، فإنه لا يكون خـالق هذا العـالم قديما
أزليا بل يكـون محـدثا، وخـالقه يكـون قديمـا
أزليـا، كمــا أن المـوجـود الــذي هــو واجـب
الوجـود لـذاته، أوجـب لـذاته موجـودا، وذلك
الموجـود موصـوف بالعلم والقدرة والحكمة،
وهو الذي خلق هذا العالم.
وعلى هذا التقدير فخالق هذا العالم قديم
أزلـي موصـوف بالعلـم والقـدرة، إلا أنـه لا
يكون واجب الوجـود لـذاته، بل هـو معلـول
بعلة قديمة، واجبه الوجود لذاتها.
بالنسبة للرازي، فإن كل ما كان واجب الوجود لذاته، فإنه يجب كونه قديما أزليا، ولكن ليس كل ما كان قديما أزليا فإنه يجب كونه واجب الوجود لذاته، إذ لا يلزم من كونه قديما أزليا باقيا سرمديا كونه واجب الوجود لذاته، لأنه لا يمتنع في أول العقل كون الشيء معلول شيء آخر واجب الوجود لذاته، والمعلول يجب دوامه بدوام علته، فهذا المعلول يكون قديما أزليا باقيا سرمديا، مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته.
وهكذا وفقا لعفت الشرقاوي، تحولت عقيدة دينية في الخلق من العدم ترى الله خارج العالم سابقا عليه زمانا، حرا في أفعاله، وترى الزمن أساسا جوهريا لقياس الوجود إلى نظرية فلسفية في الوجود الممكن والوجود الواجب، تحاول جهد المستطاع تقبل الفكر الديني وصوغه في قالبها الخاص.