مقالات مختارة

أحمد راضي.. وشجون من زمن صدام

شريف عبدالغني
1300x600
1300x600

(1)
وسط عشرات آلاف الأبرياء الذين حصدهم وباء "كورونا" حول العالم، توقفت عند واحد أحدثت وفاته في قلبي جرحاً حزناً عليه، وعلى أيام خوالي كانت بلا هموم. أيام الطفولة والصبا التي عرفت فيها اسمه، وتعلقت حبا ببلده. البلد الذي عشت وعاش معه العرب أيام انتصارات وزمن أمجاد ولحظات نشوة مع زعيم هدد بحرق نصف إسرائيل، قبل أن تجري في نهري دجلة والفرات مياه كثيرة قلبت الآية لنعاني معه من سنوات انكسارات وعقود هزائم ودهر من المآسي تحوّلت خلالها "البوابة الشرقية" للأمة إلى ساحة مفتوحة لطامعين ومغامرين وأفاقين من كل حدب وصوب.. قطّعوا أوصالها إلى أقاليم، وشعبهاإلى طوائف، وسلطاتها إلى "محاصصات".
(2)
مات أحمد راضي أمس الأول الأحد 21 يونيو 2020 عن عمر 56 عاما. هو أحد مشاهير العراق عندنا نحن المصريين منذ أيام عز بلاد الرافدين، وسطوة رجل عرف كيف يدشن نفسه زعيما حقيقيا في شوارع المحروسة. لمَ لا وقد فتح أبواب بغداد ومدن وأقضية ومحافظات العراق من شماله إلى جنوبه أمام بسطاء المصريين، فانتشروا ملايين مملينة من أربيل والسليمانية وزاخو شمالا، وصولا إلى البصرة والناصرية وأم قصر جنوبا، مرورا بالموصل وتكريت والسماوة وسامراء والفلوجة وغيرها الكثير .
كان السفر ل"عراق صدام حسين" أيسر للمصري الذي يعيش في الإسكندرية شمالا من الوصول إلى بني سويف أول الصعيد. فلا تأشيرة ولا عقد عمل ولا قيود من أي نوع تقف حائلا أمام بلوغه "بغداد قلعة الأسود" حسب أغنية مقدمة برنامج أسبوعي عن البلد الشقيق كان يذيعه التلفزيون المصري أيام الود بين صدام ومبارك.
ب 60 جنيها فقط كان المصري يقطع تذكرة السفر بالحافلة إلى العراق. كل من لا يجد عملا يذهب إلى هناك، ويعود محملا بخير فتح بالفعل بيوت أسر وعائلات، وأتاح لكثيرين جدا بناء منازل جديدة. هناك قرية كاملة في إحدى محافظات الدلتا أطلق عليها أهلها "قرية صدام" كون أغلب منازلها شيدها عائدون من العراق على طراز عمارة الموصل.
العراق في تلك الفترة حمل إلى حد كبير عبء حل مشكلة البطالة في مصر. جامعيون. مهنيون. طلاب.. خليط كبير استوعبتهم السوق العراقية سواء كانوا مهرة أم على باب الله. وصل الأمر - وهذه ليست نكتة- أن أحد أبناء قريتي دفعه الفقر إلى سرقة معزة من حظيرة بأحد الحقول.وبعد افتضاح أمره لم يجدمكانا يهرب إليه أسهل من العراق !
(3)
أحمد راضي، ثالث ثلاثة من مشاهير لاعبى الكرة العراقيين في العصر الذهبي عرفناهم وأحببناهم . أولهم حسين سعيد والآخر عدنان درجال. رأيت أسماءهم أول مرة في مجلة الرشيد التي استعرتها من أحد المعارف عاد في إجازة. العاملون بالعراق تحولوا إلى بوق دعائي جيد جدا للبلد الذي احتضنهم. عن طريقهم سمعت الشرائط الغنائية للمبدع الشجي سعدون جابر. عبر  حكاويهم عرفت أسماء عشرات السياسيين بينهم عزة إبراهيم. طارق عزيز. طه ياسين رمضان. علي حسن المجيد. سعدون حمادي. برزان التكريتي وغيرهم. 
أما صدام فكان في قلب كل منهم. أكدوا أنه طلب من المسؤولين معاملة المصري كالعراقي. وصل الشطط ببعضهم إلى اختلاق حكايات عن مقابلته ل "أبي عدي" شخصيا، وأنه أوصاه بالسلام على كل أهل مصر، وإذا احتاج أي شئ فليذهب إليه في قصره !
(4)
كان أحمد راضي شابا وسيما ولاعبا ماهرا صال وجال مع زملائه في "منتخب أسود الرافدين" ليحققوا المعجزة في تصفيات كأس العالم 1986، حيث صعدوا للنهائيات دون أن يلعبوا مباراة واحدة على أرضهم. إذ كان الاتحاد الدولي للكرة منع إقامة المباريات في الملاعب العراقية لظروف الحرب مع إيران. 
وقتها أتذكر جيدا أن منتخبنا المصري خرج من التصفيات كالعادة على يد محمد التيمومي وبادو الزاكي وعزيز بودربالة ورفاقهم المغاربة.اتجهت العيون والقلوب إلى "منتخبنا الثاني" العراقي عساه يعوض فشلنا. جرت المباراة الأولى في ختام التصفيات أمام نظيره السوري بملعب العباسيين في"الشام"، وما أدراك ما حجم الشحن الجماهيري في دمشق لمنتخب "صدام" الخصم اللدود للأسد الأب.انتهى اللقاء بالتعادل سلبياً، قبل أن يلتقي المنتخبان إياباً في الطائف بالسعودية ويفوز العراقيون بثلاثة أهداف مقابل واحد، ليصعدوا إلى النهائيات بالمكسيك ويسجل أحمد راضي هدف بلاده الوحيد في المونديال الذي شاهدناه وقتها على الشاشات.
(5)
لم يفعل النجم الكبير  مثل زميله المصري مجدي عبدالغني، الذي سجل أيضا هدف منتخبنا الوحيد في مونديال 1990، ومن يومها والهدف اليتيم من ضربة جزاء تحول إلى "علكة" في فمه يذكرها ويذكّر بها بمناسبة وبدون مناسبة ويتربح من ورائها إعلانات ومناصب رياضية. بينما أحمد راضي بدا في كل ماشاهدته من لقاءات رزينا هادئا خجولا دمث الخلق، لا يتباهى بنفسه رغم أن التباهي يليق عليه شكلا ومضمونا وإنجازات وقد تربع على عرش أفضل لاعب آسيوي عام 1988 على ما أذكر.
خلال مونديال روسيا 2018 كان أحمد راضي يحلل المباريات على شاشة "الجزيرة" بخبرة وهدوء ولغة سليمة. وبعد رحيله بفعل الفيروس اللعين لمست مدى الحب الكبير الذي يتمتع به في ظل عاصفة الحكايات عنه، ومنها دعمه وحضوره الحراك الجماهيري الأخير في بغداد المطالب بالتغيير  والحياة الفضلى لبلد يملك من التاريخ والثروات والكوادر ما يجعل وضعه الحالي محل مأساة وملهاة وتساؤلات وبحر من علامات التعجب.
توقفت عند مقابلة تلفزيونية يتحدث فيها النجم الراحل بصدق نضح من كلماته وروح شفافة عكستها عباراته عن استعداده لآخرته، والعمل عليها، والبحث عن رضا ربه.
رحم الله أحمد راضي النجم الخلوق. فتح موته شجون ذكريات تسكن الروح عن بلد أحببناه وزعيم قلب الدنيا وأثار جدلا كبيرا حوله مازال مستمرا في أوساط العراقيين بين سائق تاكسي ركبت معه في بغداد يراه مجرما سفاحا، وبين شاب عشريني من "فدائييه" التقيته وسألته عن قائده وقت اختفائه بعد الغزو الأميركي، فقال: " في ليالي كثيرة أطلع إلى سطح المنزل وأراه قمرا مضيئا في السماء وأبكي على مصير العراق من بعده" !!
إنه نفس الجدل بين عموم العرب، فثمة من يقسم أنه سبب دمار وإهدار ثروات العراق والخليج، فيما هناك من يتذكر ثباته العجيب في مشهد الإعدام المهيب صبيحة عيد الأضحى، ويقول:" ماتت الرجولة من بعدك يا صدام"! 

(العرب القطرية)

0
التعليقات (0)