مقالات مختارة

الاقتصاد السوداني.. جهود مبعثرة

ياسر محجوب الحسين
1300x600
1300x600

خيبة أمل عظيمة ظل وقعها يزداد على السودانيين، مع اطراد تصاعد الضائقة المعيشية على الطبقة المسحوقة، وهم الغالبية العظمى من المواطنين، وقد اختفت الطبقة الوسطى تماما، فالمواطنون اليوم فئتان؛ قلة قليلة جدا بيدها الثروة، وغالبية غالبة لا تملك شيئا وتعيش تحت خط الفقر المدقع.


لقد توقّع الناس في السودان أن يتحسّن وضع الاقتصاد بعد سقوط نظام عمر البشير في نيسان/أبريل 2019 لا سيما وأن الثورة التي أطاحت بالنظام ،كانت أسبابها اقتصادية بحتة وانطلقت من الولايات قبل العاصمة، حيث الواقع المعيشي أكثر قتامة.


في العاصمة الخرطوم ينتظر الناس ساعات طويلة في طابور زاحف لتعبئة سيّاراتهم بالوقود، وساعات أخرى للحصول على الخبز وغاز الطبخ. وليس هذا فحسب؛ إذ يقطع التيار الكهربائي عن المنازل لساعات طوال يوميا وبشكل رتيب. يقول أحد الساخرين: "عندما تُوفي توماس أديسون أُطفئت جميع مصابيح الولايات المتحدة تكريما له، والآن وبعد 89 عاما السودان يخلد ذكراه يوميا في الخرطوم".


في ظل الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك بات الوضع اليوم معقدا وصعبا لدرجة بعيدة، خاصة في ظل رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية بقرارات سياسية مرتبكة جدا. لقد وجدت الحكومة في إجراءات الحد من انتشار جائحة كورونا قشة فتعلقت بها، ومكنتها من حصر وتقييد الاحتجاجات الشعبية وعبر لجنة الطوارئ الصحية، وللمرة الرابعة تم تمديد أسابيع الحظر وتعطيل الحياة الاقتصادية، حيث لا يسمح بالحركة داخل الأحياء من الساعة السادسة صباحا للثالثة عصرا، فأوصد ذلك الأبواب أمام العمال البسطاء الذين يعتمدون على حركة السوق لكسب قوتهم اليومي.


إن حقيقة حجم الانهيار الاقتصادي لم تصدع به معارضة سياسية قد يشكك في أغراضها، لكن الجهاز المركزي للإحصاء وهو جهة حكومية أفصح عن الحقيقة المرة، معلنا أن التضخم في شهر أيار/مايو الماضي قد بلغ نسبة 114%، بزيادة أكثر من 15% عن الشهر السابق، وهي نسبة تشير إلى مرحلة انهيار الاقتصاد. وقال الجهاز المركزي للإحصاء إن ارتفاع معدل التضخم يعزى لارتفاع أسعار الخبز والحبوب واللحوم والزيوت والألبان والسكر، إضافة إلى ارتفاع مجموعة السكن نسبة لارتفاع غاز الطهي، الفحم النباتي، حطب الوقود، وتكاليف صيانة المسكن، وأيضا ارتفاع أسعار مجموعة النقل. كما أكد صندوق النقد الدولي ذات الحقيقة في تقرير له، مشيرا إلى أن ارتفاع معدلات الأسعار بلغ 700% للسلع الأساسية اليومية.


وسجل سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في أواخر نظام الرئيس البشير نحو 80 جنيها، لكن اليوم تجاوز الدولار حاجز 150 جنيها. ويشير هذا التردي إلى دخول البلاد مرحلة التضخم المفرط وهو أقسى وأخطر أنواع التضخم، حيث تصبح النقود بلا قيمة تقريبا، وهذا التضخم يكون مُرتفعا جدا.


ارتفاع الدولار جعل نائب رئيس مجلس السيادة الذي يرأس في الوقت نفسه اللجنة الاقتصادية، يتوعد المضاربين في سوق العملات، ويؤكد أن زيادة المرتبات مقابل ارتفاع الدولار لا معنى لها، وبذلك يعلن فشل سياسة زيادة المرتبات التي أعلنها وزير المالية، مع العلم أن الفئات المستفيدة من هذه الزيادة تشكل نسبة ضئيلة من مجموع السكان. فكيف يقوم وزير المالية بهذه الزيادة الكبيرة فى الرواتب ولا تملك الدولة موارد حقيقية ثابتة؟


في ذات الوقت لا يتراجع سعر الدولار بمجرد إطلاق التهديدات بمعاقبة تجار السوق السوداء؛ فالمشكلة أعمق ومتعلقة بزيادة الناتج القومي وبتغييرات هيكلية في اقتصاد البلاد، الذي من مشكلاته أنه اقتصاد تابع ومرتبط بالاقتصاد الإقليمي الخليج ومصر على سبيل المثال، ومن ثم يصيبه نصيب غير يسير من التراجع الذي تعاني منه اليوم الاقتصادات الإقليمية. والمفارقة المدهشة أن تجار العملة هم أحد الأدوات التي توفر العملات الحرة للدولة نفسها، خاصة في ظل سريان العقوبات الأمريكية.


من الناحية النظرية تبدو سيمفونية التحرير الاقتصادي هي الحل والمخرج، بيد أن ذلك يحتاج لإرادة سياسية تشجع الإنتاج والصادر في ظل استقرار سياسي عزيز المنال، ومن دون توفر شروط رفع الدعم السلعي عزفت حكومة حمدوك سيمفونية التحرير الاقتصادي، فرفعت الدعم عن المحروقات تماما، وصار جالون البنزين بسعر 126 جنيها بدلا عن 28 جنيها، ومع ذلك وفي ظل تدني اسعار البترول عالميا عجزت الدولة عن توفير وقود المركبات ووقود محطات الكهرباء، حيث عم قطع الكهرباء بكثافة. وقد رأى وزير المالية ان الدعم المباشر للفقير بتسليمه المال من خلال زيادة المرتبات أفضل من الدعم غير المباشر، عبر دعم الدولة للوقود بيد أن الفقير قبض نقودا بلا قيمة، حيث اختفت السلع التي من أجلها طبعت النقود.


على الرغم من أن السودان قُطرٌ شاسع وغني بالموارد الطبيعية؛ الزراعية، والحيوانية، والمعدنية، والنباتية، والمائية، لكن نخبه السياسية فشلت في إدارة هذه الموارد واستثمارها، وحتى ازدهار الاقتصاد السوداني في العشرية الأولى من القرن الحالي كان على خلفية إنتاج النفط، وارتفاع أسعاره، وليس بسبب استثمار موارد البلاد الزراعية المتجددة، وبُدّدت عوائد البترول تبديدا عوضا عن توظيفها في الإنتاج الزراعي الذي يوظف 80% من قوة العمل، ويساهم في ثلث الناتج المحلي الإجمالي.

 

(الشرق القطرية)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل