قضايا وآراء

النظام العالمي ما بعد جائحة كورونا

محمد البوشيخي
1300x600
1300x600
كشفت جائحة فيروس كورونا المستجد عن أن السمة الرئيسية لعالمنا المترابط هي الهشاشة. فذلك العدو غير المرئي الذي انطلق من الشرق الأقصى استطاع أن يصل كل بقاع العالم ممتطيا صهوة العولمة ومتنقلا مع حركة البشر.

انتشر الوباء ونشر معه الرعب والهلع لتتوقف ساعة الزمن دون سابق إنذار. تباينت تحليلات المتخصصين بشأن السيناريوهات المحتملة للعالم في مرحلة ما بعد جائحة كورونا، سواء باعتبارها منعطفا مهما في تاريخ البشرية وأنها ستعيد تشكيل حياتنا من أبسط الأمور اليومية إلى الأمور الجيو- استراتيجية، أو باعتبارها أزمة كغيرها من الأزمات ستكون لها تداعياتها وستترك آثارها؛ لكن سرعان ما تدخل في غياهب النسيان. بيد أنه من بين المواضيع التي لاقت الكثير من التحليل والتمحيص؛ هو كيف ستؤثر جائحة كورونا على النظام العالمي الحالي والعلاقات الدولية؟ وللإجابة على هذا السؤال ينبغي تفتيته إلى أسئلة فرعية من قبيل: ما الذي يغير الأنظمة الدولية؟ هل الحروب؟ أم الأزمات الدولية؟ أم الجوائح؟

يشكل عام 1648 مرحلة فاصلة في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة، حيث تم التوقيع على معاهدات سلم أنهت حرب الثمانين عاما لاستقلال هولندا عن إسبانيا، وحرب الثلاثين عاما التي عمت أوروبا لأسباب دينية وتجارية وسياسية. فقد أعادت تشكيل الخريطة السياسية لأوروبا، وأعلنت عن ميلاد الدولة الوطنية ذات السيادة، التي ستصبح الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية.

أما الحرب العالمية الأولى، فقد أدت إلى اختفاء إمبراطوريات، وظهور دول جديدة، واقتطعت أراض من دول لصالح أخرى، مما أوجد واقعا سياسيا دوليا جديدا رغم أنها استمرت فقط أربع سنوات. وكان من نتائجها أن النظام الدولي الذي كان سائدا آنذاك انهار وبني على أنقاضه نظام عالمي جديد.

اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 وخلفت الخراب في الأرواح والعمران، وعصفت بالنظام الدولي الذي بنته معاهدة فرساي. لقد صمد النظام العالمي الذي بني على أنقاض الحرب العالمية الثانية في مواجهة هزات عديدة خلال الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، والأزمة المالية الآسيوية، وهجمات 11 سبتمبر، والأزمة المالية عام 2008، وصولا إلى جائحة كورونا.

على مر التاريخ، عانت البشرية من ويلات الأوبئة والجوائح. فمثلا، الطاعون الأسود الذي غزا أوروبا وشمال أفريقيا خلال منتصف القرن الرابع عشر وخلف ملايين الضحايا، لم يكن له أي تأثير على البنية السياسية للمجتمع الأوروبي. وينطبق الأمر نفسه على الإنفلونزا الإسبانية التي خلفت خمسين مليون ضحية عبر العالم (1917-1918) دون أن يكون لها أي تأثير على النظام السائد آنذاك. وينطبق الأمر نفسه على كل الأزمات العالمية، بدءا من الكساد الكبير 1929، والصدمة النفطية في السبعينيات، مرورا بأحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وصولا إلى الأزمة المالية 2008. كل هذه الأزمات لم تؤثر على بنية النظام الدولي، خلافا للحروب عبر التاريخ التي أنشأت أنظمة دولية أو إقليمية جديدة.

يسود الاعتقاد بأن جائحة كورونا ستعيد تشكيل التاريخ البشري، وستقوض أركان النظام العالمي الذي بني على أنقاض الحرب العالمية الثانية، وقيام نظام عالمي جديد بقيادة الصين ونهاية عصر العولمة. تنبغي الإشارة إلى أن العولمة ليست شعارا ترفعه الدول الغربية المتقدمة، وإنما واقعا أفرزته تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ البشرية التي تتميز بحرية حركية الرساميل والإنسان وما يسير في ركبهما. وشيوع وسائل التواصل والاتصال والاعتماد المتبادل جعل العالم يغدو قرية كونية، دون أي تغير في الجغرافيا.

وقد يحاجج البعض بأن العلاقة المتوترة مع الصين، وضعف القيادة الأمريكية، وتعثر التعاون الدولي في التعامل مع الجائحة وانكفاء الدول على ذواتها، وخاصة الولايات المتحدة التي تخلت عن دورها القيادي في قيادة العالم في أوقات الأزمات؛ يؤسس لمرحلة جديدة ستعرف بدايتها بانجلاء غمة جائحة كورونا. لم تكن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين صافية على الدوام، وهناك لحظات توتر قصوى تجاوزها البلدان، مثل قضية قصف سفارة بكين في بلغراد عام 1999، أو قضية طائرة التجسس 2001، ذلك أن كلا البلدين يسعيان إلى تجاوز خلافاتهما من أجل المنفعة الاقتصادية المتبادلة. كما أن الصين لن تدخل في أي مواجهة عسكرية مع أمريكا في المستقبل المنظور لأنها تسعى لأن تكمل صعودها السلمي في هدوء، ولأنها، كذلك، مطوقة بالتواجد العسكري الأمريكي على حدودها.

لقد أدى الصعود المتنامي لعدد من الدول على المستوى العالمي، مثل الدول المكونة لمجموعة بريكس، إلى تراجع في التفوق النسبي للولايات المتحدة، رغم أن قوتها الاقتصادية والعسكرية مستمرة في النمو. كما أن تعثرها في التعامل مع عدد من القضايا الدولية، وانسحابها من أفغانستان والعراق، والتعامل بقليل من الاهتمام مع حلفائها التقليديين؛ لا يعني أن قوتها في أفول.

لا يمكن القول بأن النظام العالمي الحالي على وشك الانهيار بسبب الجائحة؛ لأن الاعتماد المتبادل بين الدول وانتشار السلام النووي يعقدان التفكير في حرب القوى العظمى للسيطرة وتقويض أسس النظام القائم وبناء نظام عالمي آخر. وهذا ما سيجعل الدول تتشبث بالنظام العالمي القائم؛ من خلال التعاون المتعدد الأطراف وإيجاد حلول للمشاكل والأزمات الكبرى، برغم أن الخسائر الاقتصادية ستكون وخيمة وتؤدي إلى سقوط أو فشل دول بعينها.
التعليقات (4)
نجية قاصيبي
الأحد، 27-09-2020 12:14 ص
لن أطيل، لكن التحليل كان أكثر تفصيلا وواقعية بعكس كل ما نشر على مدى شهور. شكرا سيدي
بن دولة. محمد. لكعابة
السبت، 23-05-2020 05:51 م
مقال. راءع وشكرا
الابراهيمي
السبت، 23-05-2020 04:02 م
احسنت سيدي محمد البوشيخي، العالم اليوم أصبح أكثر هشاشة من أي وقت مضى،ولعلا أن نقطة الضعف أحيانا تكمن بعد نقطة القوة مباشرة، العالم يتباها بعصر السرعة وعصر تلبية الحاجيات في رمشة عين وبضغطة تز ... لكن نسي أن الحياة ودمارها أيضا محكوم بضغطة زر هنا نتحدث عن العلاقات والظواهر العبرحدودية ...، و ليس فقط المنتوجات الثقافية والفنية والفكرية .... التي يمكن تبادلها بين مختلف المجتمعات باختلافها، بل يمكن كذلك تبادل الهموم والاحاسيس والمشاعر والاحقاد والصراعات الايديولوجية وشن حرب بشتى أنواعها .... فكرية أيديولوجية، دينية، عرقية، و بيولوجية كذلك فقط بضغطة زر في مكان منبود وبعيد جدا لكن في عصر السرعة يمكن ان تلاحظ نتيجة ومفعول كبير جدا في رمشة عين .... وهذا ما حصل اليوم ... انشغلنا بتعزيز نقاط القوة ... ونسينا معالجة نقاط الضعف .
الكانون ادريس
الجمعة، 22-05-2020 08:27 ص
قراءة منطقية للاحداث و تحليل علمي دقيق مؤلف في نظرة جيواستراتيجية معقلنة، و يضل اسلوبك الابداعي بين الشد و الجذب و الواقعية و التشويق ميزة تلك التحليلات. غير انه في سياق الاغناء العلمي و البحث الحثيت لاستجلاء الحقائق و استباق الامور قصد وضع مخططات استباقية و معالجات انية تنير المستقبل و لا تعيد الكرة المرة التي عايشنها و لا نزال نثمن كتابتك الرائعة و التي تنظر من بعيد (العمق التاريخي) لما يعاش و لسناريوهات المستقبل فلا جديد يبنى الا على انقاظ القديم فهكدا شاءت مشيئة الله في خلقه(تلك الايام نداولها بين الناس) و هكدا ثبت في حياة البشر مع تعاقب السنون. موفق استادي الكريم طرحك الاكاديمي جد مميز و عميق.