كتب

الاجتهاد في الفكر الإسلامي.. شروطه واتجاهاته (2من2)

كتاب يعرض لحدود الاجتهاد عند الأصوليين ومجالاته (عربي21)
كتاب يعرض لحدود الاجتهاد عند الأصوليين ومجالاته (عربي21)

الكتاب: الاجتهاد في الفكر الإسلامي بين تطور الشروط واستنباط الأحكام 
الكاتب: فتحي العطوي
دار النشر: دار الفكر للنشر تونس 2014.
عدد الصفحات: 429 صفحة

أعاد وباء كورونا المستجد المنتشر في العالم منذ نهاية العام الماضي، إحياء الجدل عن العلاقة بين الدين والعلم، كما وبين الدين والسياسة.. وعلى الرغم من أن الجدل لم ولن يصل إلى حلول حاسمة في تحديد طبيعة الحدود الفاصلة بين هذه المجالات العلمية، إلا أنه فتح الباب مجددا للحديث أيضا عن شروط الاجتهاد في العلم كما في السياسة والدين.

ومع أن الفتوحات الإعلامية التي يشهدها العلوم منذ عدة أعوام قد يسرت سبل الاطلاع على أهم المستجدات العلمية، إلا أن ذلك لم ذلك ظل في إطاره التواصلي البحت، بينما ظلت شروط الاجتهاد والعلم على حالها.

الأستاذ والباحث الجامعي التونسي أحمد القاسمي، يواصل في الجزء الثاني والأخير من قراءته الخاصة بـ "عربي21" لكتاب "الاجتهاد في الفكر الإسلامي بين تطور الشروط واستنباط الأحكام"، للباحث التونسي فتحي العطوي، البحث في شروط الاجتهاد واتجاهاته في الفكر الإسلامي.

1 ـ حدود الاجتهاد ومجالاته

كان منجز فتحي العطوي حول أطوار الاجتهاد وشروط المجتهد ومصادره في التشريع من أدلة شرعية أصلية وتكميلية وضوابط الاجتهاد العلمية والأخلاقية مدار حلقتنا الأولى. ونعرض في هذه الحلقة بحثه في حدود الاجتهاد عند الأصوليين ومجالاته ورصده للهوة الكبيرة بين الخطاب النظري والمستوى العملي منه لنختم مقالتنا تنزيل هذا الأثر في سياقه من الدراسات الحضارية الإسلامية.

 

تكشف مقاربة فتحي العطوي لمسألة الاجتهاد تحديدا عن خاصية من خاصيات ما بات يعرف بالمدرسة التونسية في مجال الدراسات الحضارية. فتشكل امتدادا لمشروع المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي، خاصة ضمن أثريه الإسلام والحداثة و"الإسلام بين الرسالة والتاريخ".

 



سعى الأصوليون إلى تسييج آلية الاجتهاد وتسوير مجالاته. فحظرت على المجتهد الخوض في بعض المسائل وجعلتها بعيدا من متناوله. فمما لا يجوز فيه الاجتهاد مسائل الأصول أو مسائل القطعيات مما كانت أحكامها جاهزة متفقا عليها. ومدارها على كل ما ورد فيه نص قطعي الدلالة مثل تحريم الفواحش ومجمل الفرائض من صلاة وزكاة وحج وصوم. 

وأضافوا إليه ما ثبتت أحكامه بإجماع قطعي كتحريم الزواج بالفروع من ببنات أولاد الإخوة والأخوات. وقصروا مجال المجتهد في ما وسم بـ "مسائل الفروع" أو "مسائل الظنيات التي ليس في حكمها الشرعي دليل قطعي. وتتعلق عامة بالمستحدث من الوقائع. فكانت أحكام بعضه تستنبط باعتماد النص وكانت أحكام البعض الآخر منها تستنبط باعتماد الأدلة الشرعية التكميلية من قياس واستحسان ومصلحة مرسله وعرف لغياب نص في شأنها. وصُنِّف الاجتهاد إلى مطلق يختص به أئمة المذاهب ونسبي يكون داخل المذهب، يصدر فيه الفقيه عن آراء إمام مذهبه وجزئي يلتزم فيه المجتهد بمسائل دون غيرها.
 
2 ـ الأحكام الاجتهادية ومعضلة التطبيق

ولم يطرح هذا التصنيف معضلة التضييق على المجتهد فحسب وإنما العلاقة بين النظري والتطبيقي كذلك. فقد اتضح هذا الأمر للباحث حين درس المستوى العملي من الاجتهاد في مجالي العبادات (من طهارة وصلاة وصوم وزكاة وحج) والمعاملات (من بيع وربا وأحوال شخصية وسياسة وحدود الجناية والقصاص). فانتهى إلى أنّ الأصوليين كانوا يخوضون في كل المسائل. فلا يظفر الدارس بخيط رابط بينها يعيدها إلى هذا التصنيف النظري. 

ولا ينبغي أن نفهم من هذا الأمر كسرا للطوق المضروب عليهم. فصحيح أن الأصوليين قد أعلنوا أهمية الاجتهاد واعتبروا أنّ معظم الشريعة صدر عنه. فـ"ــالنصوص لا تفي بالعشر من معاشر الشريعة" على عبارة الجويني، وأنهم حدّدوا وظيفة الاجتهاد في الاستجابة لما يطرأ من القضايا ومسايرة نوازل العصر. ولكن ما عرضه الباحث في المستوى العملي أكّد له أن أغلب الاجتهاد جاء متعلقا بالنصّ، استنادا إليه بالعودة إلى الآيات مباشرة أو إلى تمثل السابقين لها وتفاسيرهم. وهذا ما أقصى الرأي والفكر الخاص. وتبيّن أنّ هذا الأصولي يجنح، على المستوى العملي، إلى ضرب من تكرار آراء السلف. وربما قصر دوره في تغليب رأي على أخر دون تعليل الأحكام. فقِدم النصّ وتقدُّم صاحبه في الزمن رفع هذه الآراء عنده من بعدها الظّني إلى مستوى القطعي.

 

يتنزل هذا الأثر ضمن الاتجاه الحداثي الذي يعمل على مراجعة موروث الفكر الإسلامي من منطلقات منهجية جديدة. فلا يكتفي بعرضه وحفظه دون روية وفكر وإنما يجعله موضوعا للتفكير ولمساءلة آليات عمل هذا العقل العربي

 



ومن المفارقات التي يقف عندها، عند المقارنة بين النظريّ وإجرائه عمليّا، إلحاح الأصوليين على المعرفة بالقرآن وعلومه وأسباب النزول. فقد ذهبوا في تضييق الدائرة على المجتهدين كلّ مذهب كما عرضنا آنفا. ولكن هذا الأصولي كان يستند إلى التفاسير وإلى شروح التفاسير حالما ينتقل إلى المستوى العملي. فلا يتعامل مع النصّ مباشرة. ولا يوظّف هذه المعارف التي ألحّ عليها على المستوى النّظري. واختزلت أدلته على المستوى العملي، على خلاف ما أعلن على المستوى النّظري، في عدد قليل من الآيات وفي بعض الأخبار الآحاد. وكثيرا ما كانوا يقطع مع الأدلة ليستبدلها بأقوال الفقيه أو إمام المذهب. ولئن بدا خوضه في مختلف المسائل، قطعا مع ما اعتبره، على المستوى النّظري، انتهاءً لعصر الاجتهاد المطلق، فإنه كان يصدر عن أحكام متناثرة من أقوال الصحابة وآراء الفقهاء أو يعود إلى آيات مخرجة من سياقها بعيدة عن أسباب نزولها.

لقد كشفت هذه المفارقات للباحث سعي الأصوليين الدؤوب للتضييق من دائرة الاجتهاد على المستوى النظري. وتغاضيهم، على المستوى العملي، عن الواقع والرفع من اجتهادات السلف من مستوى الظنّي إلى القطعي المطلق وإقصاء الرأي ونزعة بيّنة لتوسيع دائرة الحرام وتضييق دائرة الحلال. ولكنّها كشفت خاصة تباعد الهوّة بين الجهد النظري الضّخم والمستوى العملي. إجمالا تحدد دور المجتهد في أن "ينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ويريد جمعا ويطلب شبها" على عبارة الجويني في كتاب "البرهان". " هكذا انقلب الاجتهاد الحر والمطلق إلى اجتهاد مقيد بمذهب" وفق ما يقدر فتحي العطوي. "وانحصر في مسائل محددة وسرى التقليد بين الفقهاء حتى أصبح الخاصية الغالبة على العقل الأصولي بعد أن عجز الفقيه عن فهم التنوع واستيعابه، وهو ما جعله أحادي الفهم والتصور. فكان لا يتردد في إلقاء التهم على غيره. والنتيجة أن انشل العقل الفقهي، فانزوى إلى سجال نظري عقيم مقدما استقالته من الواقع وقضاياه."

ويقارن الباحث بين الاجتهاد في أطواره المختلفة، فيشير إلى محاورته للوحي عند الجيل الإسلامي الأول، فكان سابقا للنص أحيانا خائضا في ما لا نص فيه أصلا أحيانا أخرى، فيكون سببا لنزول الوحي، وكان مجاله فسيحا. فلا يحد بحدود ولا ينضبط القائمون به بأوصاف، وكان عاما يشمل الديني والدنيوي في ما فيه خدمة لمصالح الناس لا تمييز فيه بين شرعي ودنيوي، وبين أصول وفروع، ولا حدود بين المجتهدين. ولم تكن له من مرجع غير واقعية أحكامه ونجاعتها. وكانت مقتضيات الواقع طرفا فاعلا في ضبط الأحكام. فقد راعى المشرع خصوصية ذلك الواقع وجعله المقصود بالتشريع. ولعل السمة الأهم في هذا الاجتهاد أنه كان ظرفيا ترتبط أحكامه بحوادث معينة، كأن يكون جوابا عن سؤال في فترة زمنية محددة أو حلا لمشاكل طارئة.

وينتهي إلى أنّ الاجتهاد يكاد بهذا المعنى أن يكون عملا يوميا بعيدا عن خصائص القوانين الصارمة الجامدة. ثم ظهرت عمليات التأصيل الفقهية. وتغيّر التفاعل معه كليّا. فرأى الشافعي أنّ نصوص الكتاب والسنة تضمنت أحكام كل الوقائع التي يمكن أن تقع للمسلم في كل عصر. "فليس تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيه" أو "ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل أو حرم إلا من جهة العلم. وجهة العلم: الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس...  لما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه بعينها تباعه. وإذا لم يكن فيه بعينه، طلب الدلالة علي سبيل الحق فيه بالاجتهاد". 

وقدّر أن هذه الأحكام موجودة متاحة بالنص الصريح أو عن طريق الاجتهاد. فكل حادثة طارئة لها في التشريع الإسلامي حكمها الثابت المطلق. فمثلت آراؤه ثابتا من ثوابت الفكر الأصولي. وأرسى منظومة فكرية ولا تسمح بإعادة النظر في الأحكام الاجتهادية،ولا يمكن تغييرها بالنظر إلى سياقها التاريخي والاجتماعي. فترتب عليها عدم مسايرة الأحكام المستنبطة لتغير المجتمع ولتبدل أحوال الناس ومعاملاتهم، رغم أنهم يقرون في مصنفاتهم النظرية بارتباط الأحكام بعللها،" فهي تدور عليها وجودا وعدما".

 

المواضيع التي خاض فيها الأصوليون وبنوا عليها ومواقفهم وأسّسوا منطلقاتهم أنتجت رصيدا ضخما من المصنفات المتنوعة بتنوّع الفترات التي أنتجتها وبالبيئة الثّقافية والاجتماعيّة التي تنتمي إليها.

 



وتمثل العودة إلى السنة باعتبارها الدليل الشرعي الأصلي الثاني معضلة في هذا الاجتهاد. فلم يكن الأصوليون، على المستوى العملي، يأخذون بعين الاعتبار مشاكل تدوين أحاديث الرسول وأخباره. واستند إلى الأطروحة التي ترى أن هذه الأحاديث والأخبار لم ترد على الصورة التي وصلت بها إلى عصر التدوين، ولم تكن تسجيلا أمينا لأقوال الرسول وأفعاله وإقراراته، وأنها ببساطة تمثل بشري تاريخي ثقافي لهذه السنة وليست السنة ذاتها، ليضبط مأتى المعضلة.

فقد كان المشرع وهو يجتهد في فهم الآيات الظنية مثلا ينطلق من تمثلات الرواة المحكوم بسياقات مخصوصة وقدرات على التذكر والصياغة مختلفة. فيتغاضى عن كون هذه السلاسل التي غالبا ما مثّلت موضوع تجريح. وينزع عنها بشريتها وينتزعها من سياقها التاريخي المرتبط بشروط موضوعية لا تفتأ تتغير. ويحلّها محلّ اليقيني. وكان المجتهد يرجح بين الأخبار المتباعدة ويفسر التضارب بينها اعتمادا على اليقيني والظني في هذه الأخبار. والمشكلة أن اليقيني عند البعض ظني عند الآخر. 

وباختصار كان المجتهد يرفع هذه المدونة، وهي أساسا بشرية ثقافية تاريخية إلى مستوى النصّ المقدس المتعالي على التاريخ. وتعاملوا معها تعاملهم مع القرآن حيث لا اجتهاد مع ما فيه نصّ. فتوسعت دائرة النص بقدر ما توسعت دائرة القطعي وضاقت بالمقابل دائرة الاجتهاد. وأهملت قضايا الراهن ونُظر إليها بقانون مستمد من مجريات الماضي. 

3 ـ كتاب الاجتهاد في الفكر الإسلامي وبعد؟

يتنزل هذا الأثر ضمن الاتجاه الحداثي الذي يعمل على مراجعة موروث الفكر الإسلامي من منطلقات منهجية جديدة. فلا يكتفي بعرضه وحفظه دون روية وفكر وإنما يجعله موضوعا للتفكير ولمساءلة آليات عمل هذا العقل العربي حتى لا نبقى في دائرة اجترار مقولات الماضي وأن نبحث عن حلول للمستقبل مدفونة في التراث على عبارة بول ريكور، شأن مشروع الجزائري محمد أركون في آثاره "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" و"من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي" و"الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" أو المغربي محمد عابد الجابري في رباعيته الضخمة "نقد العقل العربي" أو مشروع المصري  نصر حامد أبو زيد في "مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن" و"الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية". 

وتكشف مقاربة فتحي العطوي لمسألة الاجتهاد تحديدا عن خاصية من خاصيات ما بات يعرف بالمدرسة التونسية في مجال الدراسات الحضارية. فتشكل امتدادا لمشروع المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي، خاصة ضمن أثريه الإسلام والحداثة و"الإسلام بين الرسالة والتاريخ". وتفيد من غير تعسّف من المدارس اللسانية في تحديد مفهوم النصّ وسبل إنتاجه للمعنى. فانطلاقا من منجز المدارس التداولية أضحت تقدر أنّ المعاني لا تكمن في النصوص المغلقة المتغاضية عن العالم الخارجي، وأنّ منشأها ما يتم تحبيره على صفحات الكتب وما يُترك من الفراغات والفجوات التي يملؤها المتقبل عبر جهد تعاضديّ. 

تفرض هذه الرؤية على المتعامل مع النص، قراءة أو تأويلا أو استنباطا للأحكام، أن يضيء المعتّم منها وأن يأخذ بعين الاعتبار النصّ المدوّن والظّروف الحافّة بأزمنة ظهوره وسياقاته الفكرية والحضارية والثقافية. وانطلاقا من هذه المعارف أضحت ترى دلالات النصوص متعدّدة دينامية تقتضي من الدارس استحضار كل السياقات التي نشأ ضمنها، وتنزّلها منزلتها في التاريخ بالتالي. 

وهذا المبدأ يسري على النصوص الحديثة والنصوص التراثية على حد سواء. فيقتضي التعامل مع أحكام السلف واجتهاداتهم باعتبارها تفاعلا ممكنا بين النصوص والسياقات الحضارية المتحولة ، لا باعتبارها أحكاما باتة وثابة ونهائية.

 

ومن هنا نفهم إلحاح الكاتب المستمر على أنّ الفكر الأصولي كان يقصى المعطيات الموضوعية من النصوص التي يعود إليها وأنه كان ينتزعها بالنتيجة من سياقها التاريخي النسبي إلى المطلق المتعالي عن الزمن والتاريخ. وبالاصطلاح الأصولي فقد كان يرحلها من الظني إلى اليقيني.

لا شك أن هذا المؤلف حلقة من حلقات البحث في الدراسات الإسلامية، وبناء من مشروع ضخم يتجاوز الكاتب نفسه ويتجاوز المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها. فالمواضيع التي خاض فيها الأصوليون وبنوا عليها ومواقفهم وأسّسوا منطلقاتهم أنتجت رصيدا ضخما من المصنفات المتنوعة بتنوّع الفترات التي أنتجتها وبالبيئة الثّقافية والاجتماعيّة التي تنتمي إليها. والمضيّ في هذا المبحث قدما يقتضي توسيع المدونة وتنسيق الجهود بين الباحثين وتنويع المناهج. وهو الأمر الذي يعيه الكاتب ويدعو إليه.

 

إقرأ أيضا: الاجتهاد في الفكر الإسلامي.. شروطه واتجاهاته (1من2)

التعليقات (0)