قضايا وآراء

وباء كورونا.. ومعادلة الصحة والاقتصاد

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
شرع النقاش الدولي في الانتقال تدريجيا من التركيز على الوباء وإيقاع تصاعده، وتوسع جغرافية المصابين به، والخسائر البشرية الناجمة عنه، إلى التفكير في استراتيجية الاستمرار في مكافحته والتمكن من تضييق دائرته في أفق القضاء عليه، وفي الوقت ذاته الاجتهاد في إعادة عجلة الاقتصاد التي توقفت منذ إعلان كورونا جائحة من قبل المنظمة العالمية للصحة.

ويلاحظ من يتابع تطور هذا الوباء الخبيث أن القلق ازداد بشكل لافت في الأوساط الدولية حول الانعكاسات السلبية الناجمة عن الوباء على اقتصاديات العالم، بل إن الكثير من المحللين ينبهون إلى أن المعركة القادمة بعد الظفر بالنصر على كورونا ستكون معركة إعادة بناء الاقتصاد، وإطلاق دواليب الإنتاج، والسعي إلى إعادة حركية الإنتاج إلى وضعها الطبيعي، وإن كلف ذلك ردحاً من الزمن.

ثمة إذن جدل بين "الأمن الصحي"، أي صحة المواطنين، والأمن الاقتصادي"، أي إعادة تحريك عجلة الإنتاج، وما الطريقة أو الطرق التي تساعد على جعل العلاقة بينهما في سياق أزمة الوباء متوازنة، ومجنبة الاختلال الذي قد يحصل بين طرفي هذه المعادلة. فالأوساط الحية في العالم (منظمة الصحة العالمية أساساً)، تحذر من خطورة التسرع في رفع الإجراءات الاحترازية المقاومة للوباء، وعلى رأسها الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي وإغلاق كل الفضاءات التي تجمع الناس بكثافة وتؤدي إلى تفشي الوباء، تحت طائلة إنقاذ الاقتصاد وإعادة تحريكه. ونجد ضمن هذا المنحى خبراء الأوبئة والباحثين والأكاديميين في المجال الصحي، وحتى بعض قطاعات المجتمع المدني، وبعض رجال السياسة وصناع القرار، بينما ذهب آخرون، ومنهم قلة من رجال الدولة (الرئيس الأمريكي ترامب أساسا)، إلى ضرورة إعادة إنعاش الاقتصاد بالتوازي مع الاستمرار في تخفيف الإجراءات الاحترازية، والاجتهاد في إبداع الصيغ والوسائل المتوافقة مع تغير تطور الوباء.

يبدو أن ثمة عناصر كثيرة مشجعة على التفاؤل بانكسار منحنى الوباء في البؤر الأكثر تأثراً بخطورته، أي الصين أولا وبعض الدول المجاورة لها (كوريا الجنوبية، هونغ كونغ، سنغافورة)، وعدد من الدول الأوروبية التي اجتاحها الوباء، وحصد آلاف الموتى في الشهرين السابقين، من قبيل إيطاليا واسبانيا وبلجيكا وفرنسا وسويسرا وألمانيا وبريطانيا. أما الولايات المتحدة الأمريكية، التي استحوذت بأعلى أرقام المصابين والموتى، فما زالت تقاوم من أجل كسر منحى تطور الوباء، على الرغم من إمكانياتها الضخمة لمواجهته. لذلك، لوحظ على بعض هذه الدول عزمها التخفيف من إجراءات الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي مع منتصف شهر أيار/ مايو المقبل كحد أقصى، كما لوحظ عليها انهماكها في التفكير في الوسائل التي تمكنها من بدء المرحلة المقبلة بقدر من الفعالية والحذر والتوازن.

تُحيل معادلة الصحة والاقتصاد على هاجسين يبدوان متنافرين، وهما: هاجس أن يشكل رفع الحجر بدافع إرجاع الاقتصاد إلى وضعه الطبيعي بالتدريج سببا رئيساً في عودة الوباء، وربما بشكل أعنف أخطر، وهو ما سيشكل تهديداً حقيقيا للأمن الصحي العالمي، وهاجس الإبقاء على الحجر قائما إلى أن تعلن الدولة عن سيطرتها الكاملة عليه، أو يظهر لقاح، أو عقاقير فعالة لتوقيفه، وهو ما سيعمق الانكماش الاقتصادي، وقد يُدخل اقتصاديات العالم في نفق مظلم، غير مختلف عن أزمة 1929، أو أوضاع ما بعد الحرب الكونية الثانية، خصوصا وأن كل المؤشرات الاقتصادية والمالية الدولية تنبه إلى المخاطر القادمة بالنسبة لوتائر النمو في بلاد المعمور. والحقيقة أن الهاجسين معاً لهما الكثير من عناصر الرجاحة، ويدفعان إلى الاقتناع بأهميتهما، فكيف ستُحل هذه المعادلة في القادم من الأيام؟

لا يمتلك في تقديري أحد القدرة على قراءة مستقبل تطور الوباء بما يجب من الوثوقية والتوقعية، فالعلماء وخبراء الأوبئة أنفسهم يكتشفون باستمرار أسرار هذا الوباء، ويسعون جاهدين إلى تطويقه والتغلب عليه. واحتمال إيجاد لقاح للقضاء عليه يتطلب وقتاً، وحدها الإجراءات التي أقدمت عليها الدولية، ووظفت من أجل إنجاحها ما توفرت لها من إمكانيات، هي التي بدأت تعطي النتائج الأولية المشجعة على الاستمرار والتفاؤل.

لكن إذا نظرنا إلى تطور كورونا منذ أن ظهرت في آسيا (الصين تحديدا)، وانتقلت إلى أوروبا الغربية وأمريكا، وعمّت قرابة 193 دولة، وإن بدرجات مختلفة، فإن ثمة ما يدعو إلى الاستنتاج بأن الوباء في طريقه إلى الانكماش التدريجي. تُثبت هذا منحنيات معدلات الإصابات، والشفاء، والوفاة في العالم، والتي تعلن عنها يوميا وبشكل منتظم الكثير من المواقع الصحية في العالم.

ربما نحتاج إلى ثلاثة أسابيع أو شهر لنتأكد من دخول الوباء مرحلة التراجع والانكماش من دولة الى أخرى. وإذا استقرت فرضية الانكماش والتراجع، وأكدتها معطيات الوقائع في بلاد المعمور، فإن الفرصة مواتية لأخذ العصا من الوسط، كما يقال، أي التدرج في رفع الإجراءات وإعادة الحياة إلى وضعها الطبيعي، وفي الآن معا، إطلاق عملية الإنتاج، والتشغيل، وتنشيط مجالات الاقتصاد بشكل عام.. ستحتاج هذه العملية، دون شك، إلى وقت وصبر، والاستمرار في إبداع أساليب وإجراءات الوقوف أمام الوباء، كما سيحتاج الاقتصاد إلى تضامن دولي جديد، وإلى رؤية تستفيد من دروس جائحة كورونا، وعلى رأسها الاقتناع بأن كوكبنا يحتاج إلينا جميعا لكي نعيش فيه بسلام وسكينة، وتنافس على الكسب والخير العام، كما نحتاج إلى بناء ما يمكننا جميعاً من تحقيق المؤتلف الإنساني.
التعليقات (0)