طوال عقود مضت، كان يحضر
السؤال الدائم عن سبب غياب تأثير السياسة العربية في المحافل الإقليمية والدولية،
وكانت الإجابات المنهمرة من المفكرين والباحثين والسياسيين، تُرجع السبب لعوامل
عدة مرتبط معظمها بأولوية البنية السلطوية للنظام العربي المبتعد كلياً عن مفهوم
بناء المواطنة المعززة بقيم الحرية والعدالة، وأنه بسعي الشعوب لامتلاك هذه
اللبنات يمكن أن يبنى عليها ما يؤثر لتقديم صورة مغايرة للعربي وقضاياه العادلة
على المستوى المحلي والدولي، وليكون الخطاب مقروناً ببناء يعزز القيم المذكورة؛ لتستطيع
من خلالها سياسة النظام العربي تبوّأ مكانها الشاغر على مدار عقود، حيث بقي الفراغ
والمكانة الصفرية للتأثير ميزة تنفرد بها السياسة العربية.
لم يعد مضنيا مجال البحث
للاقتراب من الأجوبة التي بقيت محصورة في جنبات من عرفها وتعرف إليها، بل جرى
التهرب من بعضها ونكرانها في العقد الأخير مع اندلاع الثورات العربية. تعدى الأمر مرحلة
الإنكار إلى الارتداد الفكري والفلسفي والأدبي والسياسي في وصف الحالة الراهنة.
التأثير الوحيد الملاحظ أن معظم السياسات التي كان مأمولا منها مناصرة قضايا
الشعوب العربية انقلبت ضدها، وباتت من أساطير التهكم والهزل، وتحديدا ممن كان يسأل
ويجيب عن دور "عربي" ضاغط في ما يتعلق بقضيته "المركزية فلسطين"
أو عمقها الممثل في حرية وديمقراطية طوقها البشري، بعيداً عن نسخ ولصق مفهوم
التحرر ونسبه للذات المستعلية على كل نضال مطالب به.. اتضح أكثر كم الزيف المندلق
في وجه الإنسان المضطهد المقتول والمهجر والمعتقل. ولعل ما جرى للسوريين وثورتهم
يبقى الكاشف المرعب الذي ألحق خسارة فادحة بمعاقل النخب السياسية والثورية
والفكرية والأدبية، خصوصاً المنتمية "للبيت الثوري لحركة التحرر الوطني"
أو مناصريها وأقربائها.
أكثر من انعطافه ظهرت في
السنوات الأخيرة، أدت لتدهور هشّم المعاني النبيلة للنضال واختطف قيم الحرية
والعدالة والديمقراطية، ليضعها في جيوب وأحذية سلطة طاغية وقاتلة ومجرمة. وممارسة
الدونية أمام أنظمة وحشية من قبل نخب سياسية وفكرية تسمي نفسها من دائرة "النضال"
الوطني، أو أحزاب وحركات تدل على الحرية والشعبية والديمقراطية لتظهر في كل مناسبة
موسمية ولائها لأنظمة ليست "رجعية" في أدبياتها فقط، بل مجرمة بحق أبناء
جلدتها ومنكرة ومستعلية على عذاباتهم ومعاناتهم.. لن تعيد ألقا بهت منذ أول امتحان
تعرضت له هذه الحركات والنخب عندما جعلت بساطير عصابات الأسد قدوتها نحو "الحرية
والتحرر".
البحث عن استعادة طرق
النضال والكفاح، من فوهة مدفع الطاغية وبراميله وزنازينه، والوقوف أمام لمعان
سواطير عصاباته وهي تبقر البطون ومنتشية بالسطو على أواني الطبخ للتماهي بقرب مشاهدة
"أسوار القدس".. لم يُظهر كل ذلك سوى جثث نساء وأطفال وحطام مدن وقرى
وملايين من الضحايا؛ القفز عنهم لن يجعل مدماك التأثير في الخطاب الإقليمي والدولي
بشأن فلسطين والاستيطان وصفقة القرن ذا شأن يذكر. على العكس تماماً، فكل سيطرة
وانتصار للطاغية يسجل في سجل العدو تفوقاً له، وما ينجزه الطاغية العربي يعجز عنه
المحتل. سلوك الأسد في سوريا والسياسة العربية الداعمة لجرائمه ونفاق النخب
العربية يبقى نموذجا ومرآة دائمة للمحتل وتعكس في وجهها كل الفاجعة المحيطة بقضية
فلسطين التي يسأل أصحابها عن أسباب تراجع مكانتها مع ضعف تأثير السياسة العربية في
المواقف الدولية حيالها.
لن يكون هناك تأثير ملموس
في المستقبل القريب، فالجراح التي أحدثها الطاغية في دمشق وما يماثله في أنظمة
الاستبداد، لن تلتئم سريعاً، وستتبعها انهيارات لاحقة يخسر معها الإنسان العربي مع
تمدد سيطرة الطاغية وتغول إجرامه.. لسبب بسيط نستعيره من قاموس تنكر له أصحابه: لا
تحرر ينجز من أنظمة تستثمر في الطغيان والاستبداد، ولا حرية دون مواطنة، لكن أن
تغير النخب قواميسها لتستعير مفرداتها وشعاراتها من أفواه مجرمين وطغاة هذا شأنها
وحالها في السقوط، فالحرية والتحرر والعدالة لن تسده مقولات التغني بالبساطير
والسواطير في ادعاء أساطير السيطرة على الأرض بإسناد محتلين كثر وجرائم أكثر.