لم يقل عبد الفتاح
السيسي ماذا يعرف عن "
محمد نجيب"، اللواء بالجيش المصري، وأول رئيس لمصر بعد حركة الضباط في 23 يوليو 1952؟!
فلم يذكر السيسي في افتتاحه للقاعدة العسكرية، التي تحمل اسم "محمد نجيب"، ما يمثله له "نجيب" من قيمة، ولم يقدم حيثيات لقراره بإطلاق اسمه على هذه القاعدة؛ التي وصفت بأنها أكبر قاعدة عسكرية في منطقة
الشرق الأوسط!
فلم ينطق السيسي، وإنما تكلمت الأذرع الإعلامية، التي لا تجيد إلا "البروباجندا"، فكانت "زفة بلدي"، وكان العزف على نغمة، رد الاعتبار لأول رئيس لمصر، وأرجع العزف الموسيقي المنفرد الأمر إلى الوفاء، فـ "الجيش المصري يتعامل بشرف مع كل من قدم شيئاً لهذا الوطن"، و"القوات المسلحة تعرف معنى الوفاء جيدا".. فـ"الوفاء عنوان عريض في القوات المسلحة"!
لدى عبد الفتاح السيسي عقدة، منذ أن خان قائده العسكري المشير محمد حسين طنطاوي، بعد أن وشى به عند الرئيس محمد مرسي؛ الذي أقال طنطاوي وعين السيسي وزيرا للدفاع، وهي عقدة تكرست بعد ذلك بعد خيانته لمن قام بترقيته رتبتين عسكريتين، من اللواء، إلى الفريق فالفريق أول، ثم عينه وزيرا للدفاع، وكان رد الجميل أن انقلب عليه واختطفه وقدمه للمحاكمة.
وقد أنتجت هذه العقدة، تصرفات غير مفهومة للسيسي، فقد تحدث أكثر من مرة وبدون مناسبة عن أنه لم يخن، ولا يعرف الخيانة، فكان كمن يغني ويرد على نفسه، ويقوم بدور المطرب والكورال معا، وبعض المطربين يقومون بجانب ذلك بدور الفرقة الموسيقية أيضا، وكذلك السيسي في كثير من الأوقات!
يصطحب السيسي المشير محمد حسين طنطاوي الآن في "طلعاته الجوية"، ليتغلب على عقدته، لاسيما وأن ما يفعله الآن هو نوع من الوفاء المجاني، فلم يعد طنطاوي عقبة أمامه في شيء وقد أصبح رئيساً للجمهورية، ولم تعد لدى المشير المتقاعد ولو الرغبة في أن يكون ولو وزيراً للدفاع، فكل ما يعنيه أن يظل "في الصورة"، ليثبت لنفسه أنه لا يزال على قيد الحياة!
وإذا كان السيسي لا يستطع أن يحل مشكلته مع الرئيس محمد مرسي، فقد بالغ في "الوفاء المجاني"، فأطلق اسم عبد الناصر على حاملة الطائرات ميسترال، ولما وجد أن هذا سيدخله في حسابات لا يريدها، فالانحياز لعبد الناصر هو تصرف أيديولوجي وليس عسكرياً، ولن يكون مقبولا من شخص يرى الكيان الصهيوني أنه حليف له، ولا يريد هو أن يعكر صفو العلاقة ولو بتصرف بسيط، أطلق اسم السادات، على حاملة الطائرات الثانية، ومعروف أن السادات هو من مشى على طريق عبد الناصر بأستيكة، فوقع اتفاقية سلام مع إسرائيل بعد زيارة له للكنيست!
وتماماً كما فعل الفنان أحمد زكي، والذي أوشك الناصريون أن يشيدوا له مقاما، بعد قيامه بدور عبد الناصر، في فيلم "ناصر 56"، فبادر سريعا للقيام بدور السادات، في فيلمه عن شخصية الرئيس الراحل، ليتجاوز سريعاً وصفه بأنه ناصري، والتأكيد على أنه "مشخصاتي" ومجرد فنان محترف!
الحديث عن أن السيسي هو أول من رد الاعتبار للرئيس محمد نجيب، كذب بواح، فالحقيقة أن السادات هو من رد له اعتباره فألغى قرار تحديد إقامته، وأطلق سراحه وقال له بعد أكثر من عشرين سنة: "أنت حر"، كما أن مبارك أطلق اسمه على محطة من محطات "مترو الأنفاق"، وقد تصرف السيسي على طريقة مبارك، فالمحطات الرئيسة بالخط الأول للمترو، أُطلق عليها: "مبارك، عبد الناصر، السادات، سعد زغلول"، ولم يُذكر اسم "نجيب" على أي محطة، لكن بعض الكتاب طالبوا مبارك، بإطلاق اسم أول رئيس لمصر على أي محطة ففعل عندما تم الانتهاء من امتدادات الخط الأول!
والسيسي الذي بدأ بإطلاق اسم عبد الناصر على أول حاملة طائرات، ثم اسم السادات على الحاملة الثانية، عاد وتذكر محمد نجيب، ليذكر اسمه على أول قاعدة عسكرية، فيذكره بأثر رجعي كما فعل مبارك، وربما كان الأمر حاضرا في ذهن السيسي منذ البداية، فلم يشأ أن تكون البداية بنجيب، لتصبح القاعدة باسم عبد الناصر أو السادات، لأنها هنا ستأخذ دلالة سياسية، فقد يغضب أصدقاءه الصهاينة إطلاق اسم عبد الناصر على أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط، كما لم يكن بإمكانه ادخار اسم السادات ليطلقه على القاعدة العسكرية، لأنه هنا سيعبر عن انحياز سياسي، ويفقد دعاية مجانية له، عن أنه عبد الناصر الذي جاء على قدر ليعيد أمجاد الزعيم الأسبق. وهي دعاية أطلقها الناصريون ليبرروا انحيازهم للانقلاب العسكري، دون أن يتورط السيسي في توضيح ماذا يمثل له عبد الناصر، وهو ما دفعني لأن أكتب في بداية الانقلاب مقالاً حمل عنوان: "الاستدعاء القسري لعبد الناصر"!
اسم "محمد نجيب"، يمثل لعباً "في الأمان" فليست هناك تبعات جراء ذلك، فلم يغضب أحد على السادات، عندما أخلى سبيل "نجيب"، ولم يغضب ولو غلاة الناصريين على مبارك عندما أطلق اسم "محمد نجيب" على محطة مترو "باب اللوق"، فالناصريون لا يقفون كثيراً عند الخلاف الذي جرى بين "نجيب" و"ناصر"، ربما لأن الموضوع أصبح ينتمي للتاريخ، ولا يعني حاضرهم بشيء، تماماً كما فعل السادات، فقد رد الاعتبار لمحمد نجيب مع أنه كان منتمياً للفرقة التي تامرت عليه، وأطاحت به، ثم نكلت به بعد ذلك، وهنا نصل إلى بيت القصيد!
فالحيثيات، التي أعلنتها الأذرع الإعلامية لقرار إطلاق اسم أول رئيس مصري على أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط، تدور حول "قيمة الوفاء"، فـ "القوات المسلحة تعرف معنى الوفاء جيداً..."، و"الوفاء عنوان عريض في القوات المسلحة"!
غني عن البيان، أنه جرى اختزال الجيش المصري، والقوات المسلحة المصرية، في شخص عبد الفتاح السيسي، فنقدهم هو هجوم على الجيش، وإعلان خيانته الوطنية هو تخوين للقوات المسلحة، على النحو الذي جرى في موقعة "تيران وصنافير"!
وعندما يقال إن الوفاء من سمات الجيش فإن المقصود بذلك هو عبد الفتاح السيسي، وعندما يجري التعامل مع إطلاق اسم نجيب على قاعدة عسكرية، على أنه رد لاعتباره، فيبدو الانتقاص من هذا الاعتبار وكأن من قامت به هي دولة "قطر" أو "الإخوان المسلمين"، فات هؤلاء أنه الاهانة التي لحقت باللواء نجيب، قامت بها طليعة الجيش المصري، في يوليو 1952، فنجيب كان محبوباً من الشعب المصري، لكن من تآمر عليه وخذله هم إخوانه في مجلس قيادة
الثورة، وكانوا جميعهم يحملون الرتب العسكرية، وما فعلوه معه يمثل الخسة في أسوأ معانيها!
"نجيب" لم تخرج عليه ثورة شعبية، حتى يصبح إطلاق اسمه على قاعدة عسكرية أو منشأة حكومية، رداً لاعتباره من قبل الجيش، فمن نكلوا به هم العسكر، وأثبتوا بما فعلوا معه، أنهم ليسوا امتداد لأخلاق المصريين، وإنما لهم امتدادات مملوكية، وقد قيل في هذا "إن العرق دساس"!
لم يكتف مجلس قيادة الثورة، من ضباط الجيش، من عزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية، ومن رئاسة المجلس، وإنما حكموا عليه بأن يسجن في بيته، وهو فيلا مملوكة لزوجة الزعيم مصطفى النحاس، تمت مصادرتها من قبل الضباط، وللذكرى العطرة، فإن النحاس في حكومة الوفد، هو أول من سمح لأولاد الفلاحين المصريين بدخول الكليات الحربية، فكان أولاد الفلاحين هم من نكلوا به بعد ذلك، وبعد "الحركة المباركة"، وليؤكدوا "الوفاء العسكري"!
لقد أهين محمد نجيب، على يد ضباط الجيش، وورد بشكل متواتر أنهم أمروا عسكري صغير فصفعه على وجهه، في رسالة بأنه ليس هناك خطوط حمر عند التعامل معه. وبعزله تم إفساح الطريق لعبد الناصر ليكون الزعيم الملهم!
وكان ما جرى مع محمد نجيب هو البداية، فقد انقلب القوم يصفي بعضهم بعضا، فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله، فتم عزل صلاح سالم، وعبد اللطيف البغدادي، وجمال سالم، وهم سبق لهم أن انحازوا ضد نجيب لصالح عبد الناصر، ثم حُل مجلس قيادة الثورة، إيذاناً ببدء مرحلة الزعيم الأوحد، وسبق هذا سجن ضباطا شاركوا في حركة الضباط، ومن حسين حمودة إلى يوسف صديق، بل إن الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف صاحب فكرة عزل الملك، صدرت الأوامر العسكرية باعتقاله فهرب إلى السودان!
وقام سلاح المشاة بسحل سلاح الفرسان، فالخيانة بدأت في هذه التربة، ثم يجري التعامل مع الشعب كما لو كان هو من انتقص من كرامة بعض العسكريين!
إن من سجنوا محمد نجيب كانوا هم العسكر! والذي زور التاريخ ودون في كتبه المقررة على تلاميذ المدارس أن أول رئيس لمصر هو عبد الناصر وليس محمد نجيب هم العسكر!
ومن أصدر الحكم بإدانة بطل أكتوبر الفريق سعد الدين الشاذلي هي المحكمة العسكرية، وفي وجود المشير محمد حسين طنطاوي!
ومن قام بتشويه اسم الفريق الشاذلي وكان وراء حكم قضائي يتهمه بالخيانة ويمنع عنه بالتالي جواز سفره هو حكم العسكر برئاسة الضابط أنور السادات!
والذي أصر على سجن الشاذلي هو الرئيس الفريق أول محمد حسني مبارك!
ومن قتل السادات هم ضباط في الجيش!
والذي شوه سمعة رئيس أركان الجيش المصري السابق الفريق سامي عنان هو حكم العسكر برئاسة ضابط الجيش عبد الفتاح السيسي!
والذي يحول بين عودة الفريق أحمد شفيق، القائد السابق بالقوات الجوية المصرية من الإمارات إلى الآن، ليس حكم الإخوان، ولكن حكم العسكر!
ما علينا، فهل يعرف عبد الفتاح السيسي فعلا قصة اللواء محمد نجيب؟!
لقد كانت مشكلة نجيب، مع مجلس قيادة الثورة، تتمثل في طلبه عودة الجيش إلى ثكناته وإقامة حياة نيابية سليمة وتسليم السلطة للمدنيين ومن يختاره الشعب. وإن كان نجيب هو من أطلق اسم الضباط الأحرار على ضباط يوليو، فقد عاد وسحب هذا اللقب ووصفهم بـ "الشرذمة العسكرية"!
فهل يوافق السيسي على مبادئ محمد نجيب فعلا؟!