لم يعد هناك من شك في أن التجربة التركية الحديثة هي تجربة ثرية واعية، تتجه إليها الأنظار في الشرق والغرب للاستفادة منها، خاصة في الوطن العربي الإسلامي الذي أصبح في ذيل الأمم، ولم يعد لديه إلا العيش على أمجاد الماضي، فصار أشبه بمن عناه الشاعر:
ألْهى بني تغلب عن كل مكرمةٍ قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ
ويمكن الاستفادة من التجربة التركية بالنظر في عناصرها ومقوماتها، التي أسردها من واقع تأملات في الشأن التركي قبل وبعد تولي العدالة والتنمية إدارة الدولة، ومن هنا يمكن إسقاط الكلام على واقع الدول العربية الإسلامية.
أولا: القيادة
اعتبر كثير من المفكرين أن سبب الخلل في الأمة الإسلامية يكمن في عدم وجود قيادات مقنعة تلتف حولها الجماهير، بل ذهب أرنولد توينبي إلى أبعد من ذلك، فقال إن العامل الرئيسي في انهيار الحضارة هو فقدان الأقلية للطاقة المبدعة، التي تدفع الشعب إلى التسامي عن طريق الاقتداء.
تلك القيادات التي تلتف حولها الأمة، ليس لنبوغها وقدراتها وخبرتها فحسب، بل بالدرجة الأولى لما تراه الجماهير في هذه الشخصيات من حب وحرص صادق على الأمة، ولذا يقول الدكتور محمد العبدة في إحدى رسائل دروب النهضة: "ليس من الضروري أن تكون هذه الصفوة متميزة بذكاء يفوق ذكاء الآخرين، ولكنها من النوع المرهف الإحساس، القلِق على أوضاع الأمة".
لقد نبغ زعيم النازية هتلر ليس كما يقول البعض بخطبه النارية وما لديه من كاريزما عالية، بل لتفانيه في السعي إلى سيطرة الجنس الآري الذي أدى لاصطدامه بالقومية اليهودية المنافسة، فأحدث لدى الألمان نوعا من الإشباع دفعهم للهرولة خلف زعيمهم الذي تربى في أحضان المحن.
في التجربة التركية، كانت هناك شخصية
أردوغان القيادية، ذات الكاريزما العالية، المناضل السياسي منذ نعومة أظافره، ورأى الناس فيه الحب الصادق لبلاده منذ أن كان أمينا للشباب في حزب أربكان، ثم توليه منصب عمدة بلدية اسطنبول، والطفرة التي أحدثها في تلك العاصمة التاريخية، ثم سجْنه على الهوية، ثم تأسيس حزب العدالة والتنمية مع الرفاق، وفوز الحزب في انتخابات 2002.
طوال فترة وجوده كرئيس للوزراء ثم كرئيس للجمهورية، رأى الشعب التركي في القائد رجلا منهم، يعيش همومهم، يهتم ببناء الإنسان التركي، رؤيته في القفز بتركيا إلى مصاف الدول العظمى لم تكن حبرا على ورق، لكنها تحولت أمام أعين المواطن إلى أهداف طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى، يشعر مع كل عام يمر، بأن هذا القائد لا هم له سوى رفعة بلاده ونهضتها.
هذا ما نفتقده في الوطن العربي، الزعيم القائد الذي يشعر شعبه بأنه حقا يتفانى في العمل من أجل قضاياه، يرى إحساسه بالجمهور، وهذه أمور لن تكون بالتمثيل والتظاهر، هو شيء لا تخطئه أعين الجماهير المتطلعة إلى من يقودها نحو التغيير.
وهذه هي مهمة مؤسسات المجتمع المدني، وكيانات العمل الإسلامي، العمل على صناعة القائد عبر التربية الشمولية التي، تعتمد مبدأ تحرير الشخصية وليس سوقها كنموذج للتعبير عنها، صناعة رجل الدولة لا رجل الكيان.
فأردوغان القائد كان نتاج سمات الإبداع الشخصية مع بيئة حاضنة أطلقت طاقته الإبداعية وهيأت الروافد المناسبة لتطويرها، متمثلة في مدارس الأئمة والخطباء التي التحق بها أيام دراسته، ثم العمل السياسي الذي كان يرعاه البروفيسور الواعي وأبو الإسلام السياسي في
تركيا "نجم الدين أربكان".
ثانيا: النموذج
قديما قالوا: " عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل"، فتأثير العمل والإنجاز أمام الناس أبلغ دائما من تأثير الكلمات وإطلاق الوعود، تحدث كيفما شئت عن النهضة والتقدم والرقي والتغيير، سيستمع الناس إلى بلاغتك، وفي اليوم التالي سيضعونه في أرشيف الوعود الزائفة التي ألفوها من قبل الطامحين إلى السلطة.
كان من الأسباب الرئيسية التي جعلت الناس يلتفون حول حزب العدالة والتنمية، النموذج الذي صنعه أردوغان مؤسس الحزب إبان توليه عمدة اسطنبول.
أغنية شهيرة بعنوان "حان وقت الرفاه" للفنان "أوزها أوران"، صاحبة الحملة الانتخابية لأردوغان في ذلك الوقت، عبرت عن الحالة السيئة لاسطنبول، قال فيها:
"ولِمَ لا؟
أهل اسطنبول غرقى في المشكلات.
محرومون من المياه.
خنقتهم أكوام القمامة.
محبوسون في زحام الطرق والمواصلات.
مخنوقون بالهواء الملوث.
أليس لهذه المشكلات حل؟
فاض بي الكيل".
وخلال سنة واحدة، تحولت اسطنبول إلى مدينة هي النموذج الذي يتطلع إليه أهل تركيا جميعا، وحول ذلك سجل الدكتور عبد الودود شلبي مشاهداته في اسطنبول من خلال كتاب "جنرالات تركيا لماذا يكرهون الإسلام" حيث قال:
"وفي ظرف عام بعد تولي هذا الشاب شؤون المدينة تغير كل شيء، توفرت وسائل المواصلات والنقل، وتوفرت المساكن للفقراء الباحثين عن مأوى، وأصبحت المرافق تعمل بصورة جيدة في كل شيء، حتى المياه التي كانت شحيحة أصبحت فائضة عن الحاجة".
عندما خاض العدالة والتنمية غمار الانتخابات للمرة الأولى بعد نشأته، كان هذا النموذج ماثلا أمام الشعب التركي، فبرنامج الحزب تعبر عنه جملة واحدة: "ستكون تركيا كلها اسطنبول".
مشكلتنا في الدول العربية أن بضاعة العاملين والمصلحين الذين يطرحون أنفسهم للناس، هي "سوف"، فتراكَمَ في شعور الجماهير أن من يقول سأفعل لا يفعل، وثقة الناس في التغيير ضعيفة أو تكاد تكون منعدمة، ولن يتم إحياؤها إلا بالنموذج الذي يجمع شتاتها.
أما انشغال الأحزاب والجماعات والكيانات الرامية إلى التغيير - على اختلاف مشاربها – بالوصول إلى السلطة ثم الاتجاه إلى التغيير، فهو تضييع للوقت وهرولة تجاه السراب.
ثالثا: وعي الجماهير
وهي نقطة فاصلة في مسار النهضة التركية الحديثة، فوجود القائد الصالح الرشيد، وصناعة النموذج، لا يغنيان حتما عن وعي الجماهير.
فالنهضة التي كانت بدايتها تولي حزب العدالة والتنمية إدارة البلاد، لم تكن وليدة اللحظة، إنما سبقتها جهود إصلاحية تراكمية، دعوية وسياسية، قادها رموز وتيارات الإصلاح الاجتماعي والسياسي، أسهمت في تشكيل وعي الأتراك، كما أدّت حِقب الانقلابات العسكرية دورا بارزا في تطلع الشعب التركي إلى قوة مدنية تعلي من قيمة مصالح الأتراك.
لقد ظهر وعي الأتراك المتنامي بوضوح في المحاولة الانقلابية الأخيرة، التي أجهضها الشعب الذي أرهقته الانقلابات العسكرية، وعرف جيدا تبعاتها وآثارها على الحياة التركية.
الشعوب العربية تحتاج إلى تأهيل، فمن ثم لا بديل عن التوجه لإصلاح المجتمعات من القاعدة، مهما بدا طول الطريق، ومهما كانت معوقات السطوة والسلطة، فهي سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.